ربما تعتقد أن مشاهد التعذيب التي شاهدتها في فيلم "البريء" هي مجرد مبالغات سينمائية، ولكن الوقائع الذي ذكرتها الشهادات التاريخية توضح أن الفيلم مستوحى من أحداث حقيقة تكاد تتطابق مع الواقع، وأن الفيلم ربما لم يقدم سوى جزءًا بسيطًا مما كان يحدث في معتقلات الخمسينيات والستينيات. ويروي نجيب محفوظ في لقاء تلفزيوني مع طارق حبيب، أن سبب كتابته لرواية "الكرنك"، التي دارت حول عمليات تعذيب لمواطنين مصريين في السجون، هو مشاهدته لحمزة البسيوني، مدير السجن الحربي في عهد جمال عبد الناصر، ويقول محفوظ إنه تعجب لإحساسه أن البسيوني يبدو كشخص عادي من الممكن أن يظنه المرء أستاذًا في الجامعة أو موظفًا في وزارة الأوقاف، بينما كان "محفوظ" يسمع عن حكايات التعذيب الرهيبة في السجن الحربي.
ومن أبرز الأطياف السياسية التي تعرضت للسجن والتعذيب في مصر في هذه الفترة هم الشيوعيون المصريون، الذي يعود تاريخ تشكل حركاتهم إلى العشرينيات من القرن العشرين. في كتاب "حدتو: سيرة ذاتية لمنظمة شيوعية" للكاتب محمود الورداني نقرأ عن تاريخ الحركات الشيوعية بشكل عام وتاريخ حركة "حدتو" بشكل خاص، وهذا الاسم هو اختصار لـ "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني" التي كانت الحركة الأكثر عددًا وتأثيرًا. وتعتبر الحركة الشيوعية جزءًا من تاريخ مصر السياسي والاجتماعي، الذي شهد العديد من التقلبات والانقلابات منذ ثورة 1919، وصولًا لهزيمة 1967.
يعرض الكتاب مشهدًا بانوراميًا للحركة اليسارية في الثلاثينيات و الأربعينيات، والتي بدأت على أيدي الأجانب واليهود، وهو ما يبرره الكتاب بأنه كان أمرًا طبيعيًا؛ فالأجانب واليهود كانوا الأكثر معرفة واطلّاعًا على تلك الأفكار، بالإضافة إلى ذلك كان لديهم إحساس كبير بالتفاوت الطبقي في مصر، ومن ثم بدأ الأجانب تأسيس حركات شيوعية متنوعة.
البداية نفسها أدت لظهور مشكلات، إذ وجد بعض المصريين الشيوعيين أنفسهم أكثر دراية بالشعب المصري، وأكثر قدرة على الوصول إليه. وأحيانًا ما كان الأساس الأجنبي للشيوعية في مصر سببًا في اتهام الحركات الشيوعية بالعمالة لجهات خارجية، بينما لا يمانع الفكر الشيوعي الاتصال بأجانب ووجودهم داخل تنظيماتهم طالما أن الصراع يستهدف التفاوت الطبقى والدول الاستعمارية.
أما من جهة اليهود فيفرّق الكاتب بين اليهود المؤسسين للفكر الشيوعي وبين الحركة الصهيونية التي ظهرت لاحقًا، ويبيّن الكاتب أن عدد اليهود الكبير في مصر يجعل من الطبيعي وجود نسبة منهم في الحركات الشيوعية.
يبيّن الكتاب أن تأسيس الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني "حدتو" تم في سبتمبر/أيلول عام 1947، وذلك بالاتحاد بين "حدتو" والتنظيمات الشيوعية الأخرى مثل إيسكرا - ومعناها باللغة الروسية "الشرارة" - و"القلعة"، وذلك وسط ظروف الاحتلال الإنجليزي، وفساد الملك، وسيطرة كبار المُلّاك على "حزب الوفد" باستثناء جناح "الطليعة الوفدية"، لتصبح الشيوعية حلمًا وأملًا لبعض الشباب الجامعي، مثل محمد يوسف الجندي طالب الحقوق، الذي كان والده يوسف الجندي رئيس جمهورية "زفتى" التي أعلنت استقلالها أثناء ثورة 1919. وكان محمد الجندي تعرّف على الشيوعي البارز شهدي عطية في دار الأبحاث العلمية، ثم فاتحه عطية في الانضمام لتنظيم "إسكرا" ليوافق الجندي.
شيوعي أزهري
لم يقتصر الانضمام للحركات الشيوعية على طلبة الحقوق أو الطب - مثل دكتور شريف حتاتة طالب الطب - بل كانت هناك نماذج أخرى، من أبرزها "مبارك عبده فضل" الذي نزح من قرية "أرمنا" بالنوبة إلى القاهرة ليلتحق بالأزهر. كان مبارك عبده يعيش في حالة من البؤس، إذ كان يذهب يوميًا للمعهد الديني على قدميه ولا يتجاوز مصروفه اليومي خمسة مليمات يشتري بهم "سندوتش مكرونة" يتناوله طوال اليومي، ويفاتحه طالب نوبي آخر سبقه للشيوعية للانضمام إلى تنظيم شيوعي سري، ولم يكن مبارك يعرف عن الشيوعية سوى أنها تساوي بين الأغنياء والفقراء، ويوافق مبارك على الانضمام ويستمع للمحاضرات المعدة للمرشحين، وينضم بعد ذلك لخلية الحركة المصرية في معهد القاهرة الديني بالدرّاسة.
عانت المنظمات الشيوعية في الأربعينيات من حالات الانقسام و محاولات الوحدة الفاشلة والتي يري الكاتب أنها من الأخطاء المزمنة للتنظيمات الشيوعية التي كان العداء بينها أكبر من العداء مع أصحاب التوجهات الأخرى. كما شهدت تلك الفترة الملاحقات الأمنية والتي كان من أبرز رجالها "ممدوح سالم"، الذي سوف يصبح وزيرًا للداخلية و رئيسًا للوزراء في عهد السادات. وكما يروي يوسف أحمد ماضي الذي كان عاملًا في شركة الغزل الأهلية بكرموز في الإسكندرية والذي كان يشارك في الإضرابات العمالية وبعد توزيعه للمنشورات وإلقاء القبض عليه بواسطة الصاغ ممدوح سالم الذي قام بضربه و تعذيبه وتعليقه علي (الفلقة) وضربه علي باطن قدمه، ومع استمرار التعذيب قام بالقفز من النافذة في محاولة للهروب ليسقط ويصاب بكسور متعددة, ليحضر وكيل النيابة ليسأله عن سبب قفزه ليجيب بأنهم هم من عذبوه ثم ألقوا به من النافذة لاعتقادهم بوفاته ليسأله وكيل النيابة عن آثار التعذيب ويشير ماضي إلى قدميه و للإصابات الموجودة في جسمه ليكتب وكيل النيابة انه لا توجد آثار للتعذيب.
تأييد "الانقلاب"
بعد حرب فلسطين نالت الحركات الشيوعية الكثير من الانتقادات لتأييدها قرار التقسيم باعتباره أفضل الحلول المتاحة، أو باعتباره موقف الاتحاد السوفيتي، أو لأن البعض رأى أن المشكلة ليست بين الطبقة العاملة العربية واليهودية، بل بين الطبقة العاملة بشكل عام في مواجهة الطبقات الحاكمة والقوى الاستعمارية. وتبنت حركة "حدتو" اتجاه منظمات اليسار العالمية، بتأسيس حركة لأنصار السلام في مواجهة القوى الاستعمارية التي تدعو للحرب، وتنتشر الحركة بشكل كبير، كما يظهر خبر في جريدة "الملايين" التابعة في حدتو يقول إنه اجتمع "في منزل الفنانة السينمائية لولا صدقي 25 من الكُتّاب والفنانين ورجال السينما لإعلان تأليف لجنة الفنانين المصريين أنصار السلام". ولاقت الحركة هجومًا من حزب الوفد، ولكن الهجوم الأشرس جاء من المنظمات الشيوعية الأخرى مثل "الراية" و"طليعة العمال" و"النجم الأحمر"، ليكون رد منظمة "حدتو" في جريدة "الملايين" في بيان يعود تاريخه إلى عام 1951: "اليوم يظهر بعض الخونة و المخربين و أعداء الحركة ليوجّهوا طعناتهم المسمومة الداعرة الي حركة السلام".
في هذه الفترة بدأت العلاقة الملتبسة بين حركة "حدتو" وحركة "الضباط الأحرار"، وعلى الرغم من أن الضباط الأحرار كانت لهم علاقات مع تنظيمات متنوعة قبل 1952، إلا أن "حدتو" هي المنظمة الوحيدة التي علمت بموعد الانقلاب قبل 24 ساعة من حدوثه. ومن أبرز الحكايات المعبرة عن علاقة "حدتو" بالضباط الأحرار حكاية الشاب الأرمني الذي كان يتسلم منشورات الضباط الأحرار من جمال عبد الناصر شخصيًا، كواحد من كوادر "حدتو" وذلك لطباعتها، وبعد نجاح الانقلاب وظهور صورة عبد الناصر في الصحف شعر الشاب بزهو لكونه ساهم في حركة الضباط، ولكن زهوه لم يستمر كثيرًا فقد تم القبض عليه هو وزملائه المسؤولين عن المطبعة وسُجِن الشاب لمدة 5 سنوات كاملة، أما المطبعة فحافظ عليها الضباط الأحرار وعرضوها في المتحف العسكري في القلعة باعتبارها "مطبعة الضباط الأحرار".
من أبرز مواقف "حدتو" بعد انقلاب يوليو هو صمتها عن إعدام مصطفى خميس والبقري، العاملين اللذين أعدمهما نظام يوليو لتخويف العمال من فكرة الإضرابات، والعجيب أن "حدتو" دعت العمال للهدوء، وهو ما يبين كونها منحت الضباط الأحرار تأييدًا مطلقًا أو "على بياض" على حد تعبير الكاتب، وهو الخطأ الذي سوف تدفع ثمنه باهظًا فيما بعد. ومع اعتقالات الشيوعيين تغير موقف "حدتو" في منشورات أصدرتها ضد الضباط الأحرار، منها منشور في يناير 1953 نددت فيه بمحمد نجيب "الفاشي" الذي تعهد بحماية الدستور ثم أسقطه، وتعهد بحماية الحريات ثم أعدم العمال واعتقل المعارضين، وأعلن احترامه للأحزاب السياسية ثم حلّها، واعتقال طليعة العمال ومئات الطلبة بحجة تعليمهم "الاتحاد والنظام والعمل" في السجن الحربي.
تعذيب غير مسبوق
و في عام 1953 بدأ ضباط يوليو -إضافة إلى اعتقال الشيوعيين و غيرهم - في ممارسات تعذيب لا يتخيلها بشر، حيث كان المعتقلين يوضعون في الزنازين الانفرادية بالسجن الحربي و أيديهم مقيدة بسلاسل حديدية من الخلف طوال النهار وسلاسل أخري تقيد القدمين معًا، وهو ما يشبه سجون القرون الوسطى، وهو ما أدى بثلاثة من المساجين إلى الجنون، وبعد علاجهم بالصدمات الكهربية لم يشف منهم سوى واحد فقط. وتحققت الوحدة بين "حدتو" و منظمات شيوعية أخري في 1955 وأصدرت بيانات تحتوي على تأييد لعبد الناصر على طريقة "إن تأييدنا للجوانب الإيجابية لسياسة الديكتاتورية الخارجية لا يعني أبدًا إغفال الجوانب الخيانية الرجعية في سياسة الحكومة الداخلية وفي علاقتها بالاستعمار" وهو ما يصفه الكاتب محمود الورداني بالعجز النظري و التخبط.
و تظل المشكلة الكبرى التي وقعت فيها المنظمات الشيوعية هي مسألة التفرقة بين نظام عبد الناصر الذي يمارس تعذيبًا وحشيًا يصل لحد القتل وبين ما يقوم به نظام عبد الناصر الوطني داخليًا وخارجيًا.
مع وقوع عدوان 1956 يستعين عبد الناصر مرة أخرى بالشيوعيين في القتال في "بورسعيد"، ويعقد معهم اتفاقًا للتدريب على حمل السلاح و يتم تخصيص معسكر لهم، وذلك لضمان السيطرة عليهم، ويشارك الشيوعيون في بورسعيد بحمل السلاح والقتال ضد الإنجليز و توزيع المنشورات وتنظيم الجماهير. بعد انتهاء الحرب يتم تسليم السلاح للجيش ليختار عبد الناصر عيد النصر في 23 ديسمبر/كانون الأول عام 1958 لبداية اعتقالات الشيوعيين الكبري التي استمرت لمدة 5 سنوات.
وكان أبرز أسباب الاعتقال هو رفض الشيوعيين الانضمام للاتحاد القومي كأفراد وإصرارهم علي الانضمام كحزب أو منظمة وهو ما لا تتقبله فكرة الانصهار في كيان واحد، والسبب الآخر هو تعاطف جبهة من الشيوعيين مع الجبهة التي كانت تحكم العراق والتي كانت رفضت الوحدة مع مصر وسوريا.
ولم تكتف حملة عبد الناصر بالاعتقال فقط، بل شاركت الصحافة ومعها خطباء المساجد في مهاجمة الشيوعيين "الكفرة"، وانتشرت في المدارس لوحات مرسوم عليها مساجد وكنائس محترقة، ومكتوب تحتها "هذا من فعل الشيوعيين".
ورغم هذه الحملة الناصرية المعادية للشيوعية، بالإضافة إلى التعذيب الوحشي في السجون، لم تبتعد "حدتو" عن خطها السياسي، وظلت مؤيدة لعبد الناصر، وهو ما يصفه الكاتب محمود الورداني بالحب والغرام من طرف واحد، بل ويعرض في الكتاب خطاب تأييد لعبد الناصر كتبه شهدي عطية - الذي قُتل لاحقًا من جراء التعذيب - من داخل المعتقل، وتمسك فيه بتأييد الرئيس والحكومة الوطنية، واستمر الموقف على الرغم من مقتل ثلاثة من الشيوعيين بعد تعذيبهم.
الشاويش الذي ضرب لويس عوض
سأل الشاويش في المعتقل لويس عوض عن مهنته فأجابه:
- دكتور
فقال الشاويش:
- دكتور في إيه؟
أجابه: في الأدب
فصرخ فيه الشاويش:
- يعني إيه في الأدب؟
أجابه: في القصص.
فانهال عليه بالضرب صارخُا:
- يعني دكتور في الحواديت يا ابن الكلب.
يعرِض الكتاب تفاصيل ما كان يجري في معتقلات مثل معتقل العزب الذي تصفه شهادات المعتقلين بأنه يشبه المعتقلات النازية، وسط الصحراء، يتم فيه الجلد بالكرابيج السودانية والضرب بالشوم، والغرض الأهم هو "كَسْر نِفْس" المعتقلين وإذلالهم والهتاف بحياة الزعيم عبد الناصر.
استمر الشيوعيون في معتقلات سيئة السمعة، وبين محاولات الإضراب واستمرار التعذيب والقتل حتي وصلوا إلى "معتقل الواحات" الذي تمتعوا فيه بجزء من حقوقهم الآدمية، وجاء ذلك مع تقارب مصر مع الاتحاد السوفيتي، شجعهم ذلك على ممارسة أنشطة مثل استصلاح الأراضي و محو أمية المساجين و عمل مسرح - تألق فيه الفنان علي الشريف - وتهريب الكتب للمعتقل، وعمل محاضرات لكل تنظيم علي حدة بسبب الخلافات المعتادة، وإصدار مجلة "الثقافة الجديدة" والتي صادرتها المباحث العامة عند محاولة تهريبها للخارج، بالإضافة إلى مسابقات للقصة والشعر شارك فيها صنع الله ابراهيم وفؤاد حداد .
تم الإفراج عن آخر المعتقلين الشيوعيين في 20 مايو/آيار عام 1962 و ذلك بمناسبة زيارة خروشوف للسد العالي، وبدأت عملية اشتراك الشيوعيين في التنظيم الطليعي قبل ذلك وإعطاء بعضهم مساحات للتعبير عن الرأي في صحف قومية في سبيل التنوع الذي لا يتعارض مع السياسات العامة للنظام، وتم منع الكثير منهم من العودة لعملهم السابق على الاعتقال. تم حل "حدتو" و"حزب 8 يناير" وإعلان الانضمام للنظام، وذلك نتيجة لما فعله عبد الناصر بنفيهم لمدة 5 سنوات في المعتقل، ليخرجوا بعدها وقد فقدوا تأثيرهم الفعلي بسبب أجهزة الدعاية والقمع التي يملكها الزعيم الوطني.
تعرض نظام عبد الناصر لضربة كبيرة بعد هزيمة 1967، وجاء بعده السادات ليقضي على "المنجزات" الاشتراكية التي أيدها الشيوعيون وتغاضوا عن القمع و التعذيب و انعدام الديمقراطية من أجلها.