IMDB- برخصة المشاع الإبداعي
مشهد من الفيلم

فيلم "السبّاحتان".. سوريا في علبة

منشور الأربعاء 28 ديسمبر 2022

​"مفرط في جنونه، في جماله، في هوليوديته، لدرجة تجعلنا نشك في كونه قصةً حقيقية. ولكن أيًا من تفاصيل هذه القصة لم يتعرض للفبركة". يتفق ريفيو صحيفة لو باريسيان السخي لفيلم السبّاحتان مع آراء الكثير من السوريين، الذين وجدوا بعضًا من قصصهم مبعثرة فيه، فتعاطفوا مع شخوصه وحلموا بنهايات سعيدة كنهايته، ووجدوا في أحوالهم الكثير من عادية العائلة وأحلامها الكبيرة، والكثير من الظرف السوري الراهن، حيث يسكن الموت حياةً يوميةً استحالت ذلًا مستدامًا.

حين ينتقل الفيلم، الذي يروي لجوء السوريتين يسرى وسارة مارديني إلى ألمانيا وتمكن يسرى من المشاركة في دورة الألعاب الأولمبية، إلى ثيمة اللجوء يبدو وكأنه يحمل شعلة ثقافة الـ"يا مرحبًا" بعد تخامدها في أوروبا التي حاولت استقبالهم بإيجابية.

يستعرض السرد البصري الوضع العالمي المغرق في تشاؤميته، فنشاهد خسَّة المهرِّب، وعنصرية ونذالة من التقوهم في طريقهم في اليونان وشرق أوروبا، حتى البيروقراطية الإدارية الألمانية لم تسلم فبدت ببلادتها وحشًا يلتهم سنين عمرهم.

وأكثر ما يغري في كل ذلك، أن بطلة الفيلم حققت حلمها بعد درب الجلجلة، وأن ذلك ليس مجرد رغبة مشتهاة لفيلم متخيل، وإنما قصة حقيقية تحولت إلى فيلم حقيقي توزعه نتفليكس على منصتها، فيلم "مشاعر إيجابية" يبعد السوريين عن التراجيديا ويربطهم بالتصميم والبطولة.

الأكيد أن نتفليكس تجاوزت الجميع بحماسها، فهي أمام ما يمكن أن يصبح "قصة حقيقية" لـ"سوبر هيرو"، يمكن سردها في إطار يجمع "أفلام الرحلة" مع "الدراما الرياضية". أكثر من أربعة وسوم ضاربة في عالم السينما والترفيه لقصة ترتبط بسوريا التي شغلت عناوين الأخبار لسنوات عديدة. يالها من صفقة مذهلة.

حماس نتفليكس يبدو جليًا في تفاصيل تنفيذ الفيلم، فاختارت لإخراجه شابة عرفت في نشأتها المصرية تعقيدات المنطقة وحازت في المملكة المتحدة على دراسة احترافية واعتراف نقدي. خيارات الممثلين ومواقع التصوير كذلك لا تقل في جودتها، بل وتساعد الفيلم على الانفتاح على أسواق متعددة دون أن تقطع مع ضرورة الإيهام بواقعية القصة.

النتيجة بدورها، فاقت توقعات نتفليكس بعد تصدره قوائم المشاهدة في الكثير من البلدان.  

برومو فيلم السباحتان

بعيدًا عن السؤال

بالعودة إلى الريفيو الفرنسي، تخبئ مقولة الإفراط في باطنها نقدًا يساعدنا على فهم حدود ذلك النجاح العالمي. فهذا الفيكشن، الذي يستميت كي لا يضحي بـ"حقيقية القصة" وباقي أبعادها التجارية، مفرط في التزامه بالتسلسل الزمني لحكاية السبّاحتين، ليبدو أقرب إلى سرد مسطح دون أي طموح على مستوى البناء الدرامي أو عوالم شخوصها.

ورغم أن نتفليكس سمحت بجرعة عالية من الخطابية وبإطالة العمل لأكثر من ساعتين وربع، فإن ذلك لم يسمح بتناول القصة، كل القصة، بروح أخرى.

واحدة من الحلول التي لجؤوا إليها للالتفاف على "نصيّة" الحكاية كان إفراطًا من نوع آخر. حاول الفيلم إيجاد العمق العاطفي الذي يفتقده النص عبر الإبهار البصري، فجاءت حركات الكاميرا، كالرقص على إيقاع القذائف وركوب البحر وستر الإنقاذ ومهاجع اللاجئين وغيرها، كمحاولة أخرى لإضافة اللحم على عظم الحكاية دون أن تنجح كفيلم. وإن كانت نجحت في ذلك كإعلان ترويجي، قد يبهرنا في عرضه الأول ولكنه يفشل في مساءلة مشاهديه وضمان ديمومته في الذاكرة.

سوريون آخرون، أقل عددًا، قابلوا الفيلم بالرفض. فأخذوا عليه من الثغرات ما جعله منقوصًا، ما سطّحه وابتذل قصّته. من ذلك ما يمكن أن نسميه نزع سوريّة القصة، تسطيح المكان، وإزالة كل تضاريسه. انفجار المسبح مثلًا في منطقة تحتلها أعلام النظام السوري يقول إن أعداء النظام يوازونه في القدرة التدميرية. قد لا يكون هكذا تفصيل إلا سهوًا من صناع العمل الذين دأبوا على تحييده سياسيًا عبر ذمّ ساذج للحرب.

ما سميناه بنزع تضاريس الحكاية لا يبدو مقتصرًا على ذلك العمل ولا مرتبطًا برؤية منفذّته، بل يبدو أنه أحد الشروط الأساسية في عقود إنتاج نتفليكس واستراتيجتها الإنتاجية المسماة بالاستراتيجية العومحلية/Glocal. فهذه الشركة، التي تنتفع من اقتصاد الانتباه والكسل، تصنع بعض نجاحاتها من خلال تقديم قصص محلية في قالب معولم جذاب وسهل الهضم.

تقدّم بعض نجاحات الشركة التاريخية، مثل ناركوس أو إيميلي في باريس، خير مثال على ذلك التوجه. فهذه المسلسلات، التي غالبًا ما تفشل في إقناع أبناء البيئات التي اقتبست منها حكاياها، لا هدف آخر لها غير التسلية والترفيه، و لا تسمح بمساءلة الأفكار المسبقة بل وغالبًا ما تكرّسها.

الحكاية في علبة

القسم الثاني، الذي يتناول مشاركة البطلة في دورة الألعاب الأولمبية، يتمادى في تعليبه للحكاية التي تتحول إلى دراما رياضية كلاسيكية بحمولة أيديولجية طاغية، تحاول أن تستلهم أكثر أشكال السردية الليبرالية الأمريكية ابتذالًا.

ولا تأتي تلك المشاهد التي تصور يسرى وكأنها حققت المركز الأول في اختبار السباحة إلا لتصل بالابتذال إلى أقصاه. فوفقًا لـأرشيف الدورة الأولمبية وفيديو السباق كانت يسرى مارديني من آخر الواصلين، وعلامات عدم الرضى هي ما ارتسم على وجهها.  


جاء فيلم السبّاحتان ونجاحه العالمي في لحظة اعترف فيها أغلب السوريين بأن أكثر فصول تاريخهم دراميةً قد انقضى، ولم يتبقَّ منه إلا الحكاية، فجاءت لتكون عنوانًا لانقسامٍ جديد. بعضهم سعيد بالمآلات النيتفلكسية لقصصهم، أو بالأحرى راض عن التصالح السوري مع العالم كما هو، على اعتبار ذلك قدرًا لا مهرب منه إن رغبنا في "الاستمرار".

يسرى مارديني مثلًا لم تستطع اختيار مشاهد مفضّلة، فالفيلم بأكمله كان "مشهدها المفضل". ليست الوحيدة، وسوريون يزداد عددهم يومًا بعد آخر ممن أصبحوا يتقنون لغات مهجرهم ويحملون جوازات سفره، لا يجدون أدنى غضاضة في التصالح مع ذلك العالم، ومع أساطيره وقيمه. بل يبدو وكأنهم اختاروا التخلي عن سوريا، بوصفها واحدة من الأسئلة الكبرى لهذا العالم، وخفضها إلى نسخة فولكلورية لا تتجاوز سندويتشات الشاورما، لتكون زوّادتهم خلال إبحارهم في هذه الدنيا مثل الكونتينرات.

آخرون يحاولون استنكار ذلك المكر المبتذل الذي تمتلكه ماكينات الصناعة الثقافية في استثمارها في حكايا ناس من تضاريس لتسطيح هذا العالم، دون الكثير من التلاعب، بل وعبر التزامها بأكثر النسخ نصيةً. قد ينجحون في كتابة قصص مضادة على الهامش، ولكن الأكيد أن عدد من يريد الاستماع إليهم لن يتوقف عن التناقص.

كي تستعيد الحكاية، هذه الحكاية، تضاريسها لا بد من شكل آخر، أبعد ما يمكن عن أموال الصناعة الثقافية، وأقرب ما يمكن إلى الفن والأدب. أبعد ما يمكن عن الواقع ونصيته، وأقرب ما يكون إلى الخيال والحقيقة والسؤال.

رواية ربما، تتناول ذلك الافتراق بين أختين. الأولى تمكنت، وبسبب امتثالها وطاعتها، من التحول إلى بطلة العالم الأولمبية وسفيرة نواياه الحسنة. والثانية، أختها المتمردة التي لم تستطع، رغم كل الحيادية السياسية التي يبدو عليها وضعها العائلي. فهي ترى عذابات الناس وتتطوع في منظمة إنسانية في الجزر اليونانية لمساعدة من لا زال عالقًا، وتتحول بسبب ذلك، وفقًا للعدالة الأوروبية، إلى مجرمة تساعد في تهريب البشر!