لم تغفل قصيدة النثر العربية طموح الشعر في أن يظل فن العربية الأول، بجمالياته المتطورة من جهة، ومن جهة أخرى بتفاعله النشط مع حركة الواقع المعاش والانخراط في قضايا الملحّة والأزمات المستعصية والمسائل الكبرى التي تمثّل همًّا منغرسًا في الضمير الجمعي.
وإن لم تغفل القصيدة الجديدة الهم الذاتي والشخصي، فإن مجال رؤيتها يتسع على الذاتي والعام معًا كوجهين لعُملة واحدة، إذ لا ينفصل الشأن الشخصي والشأن المجتمعي في يوميات إنسان معاصر تعتصره من كل الاتجاهات ارتباكاتُ اللحظة الراهنة، وتشابكاتها المأساوية المعقّدة.
الشعر شاهدًا على تراجيديا العرب
الترددات الشعرية لحرب غزة الدائرة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وأحداث لبنان المتفجرة منذ أسابيع قليلة، والتصعيد الصهيوني الوحشي في المنطقة، وآخرها سقوط نظام الأسد في سوريا على يد المقاومة المسلحة، يمكن تعيينها في قصائد ناضجة، بل وفي دواوين كاملة، لشعراء فلسطينيين وسوريين وعرب من أقطار متنوعة خلال الآونة الأخيرة. يجسّد هذا استمرار حضور الصراع العربي الإسرائيلي بكل امتداداته في قلب المتن الشعري كاهتمام محوري بالقضية الأولى في المنطقة، ويؤكد معنى "القصيدة/ الحياة"، التي هي مسرح للمشاهد الحيوية، والدراما البشرية.
من هذه الأعمال الممسوسة بشرارة الحرب، تزامنًا مع اندلاعها، ديوان "فلسطينياذا"، على سبيل المثال، للشاعر الأردني الفلسطيني علي العامري، الصادر عن دار "الأهلية للنشر والتوزيع". وهو نص يستلهم المعطى الثقافي والديني ويتقاطع مع إلياذة هوميروس، لشد أزر المقاومة الفلسطينية، وتعزيز التمسك بالأرض، وترسيم بطولات الحاضر للوعد بنصر قادم، يتحدّى مصايد الأعداء.
وهناك العمل الشعري الجماعي ما قالته غزة، الصادر عن دار ميريت للنشر، بمشاركة ستة وعشرين مبدعًا عربيًّا، يتناولون في قصائدهم سرديات الغضب الساطع في الأراضي المحتلة، تحفيزًا لمعاني النضال والكرامة والتشبث بالحقوق حتى آخر قطرة دم. وهناك أيضًا "اسمها فلسطين"، ذلك الإصدار الخاص لمجلة "إبداع" المصرية الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب، الحافل بالنصوص الشعرية العربية الناطقة بالجُرح الفلسطيني، والملوّحة بالصمود وعدم الاستسلام.
ألواح أورفيوس
في هذا الفضاء الذي يخلقه مفهوم الشعر النابض تسجَّل تجربة الشاعر السوري نوري الجرّاح، الممتدة على أكثر من أربعين عامًا، منذ مجموعته الأولى "الصبي" (1982) حتى آخر مجموعاته فتيان دمشقيون في نزهة (2024)، مرورًا بإصدارات منها "قارب إلى لسبوس"، و"نهر على صليب"، و"لا حرب فى طروادة"، و"ما بعد القصيدة"، و"الأفعوان الحجري"، ومؤخرًا صدرت له مختارات شعرية عن دار الشروق في القاهرة (2024)، بعنوان ألواح أورفيوس، قدّمت لها الناقدة والأكاديمية المصرية ناهد راحيل.
يقود عنوان المختارات إلى استحضار أورفيوس شخصية وروحًا ودلالة، كأحد الوجوه أو الأقنعة التي يتزيا بها الشاعر في مغامراته وارتحالاته اللاهثة عبر الأزمنة والأمكنة.
أورفيوس الكاتب والموسيقي والعاشق والساحر والبحّار، وربما النبي أيضًا، في الميثولوجيا الإغريقية، هو الظل الأسطوري لنوري في معتركه المعاصر؛ ذلك المعترك الذي يخوض الشاعر غماره الوعر، ولا يملك في يده غير قيثارته وأنغامه ونشيده الحزين، فهل تُبكي موسيقاه الحوريات والآلهة في الغابة الهمجية كجدّه القديم.
كالجُرح، مرة أخرى، عند شفرة النصل، مرّات/ وأنتَ هنا، أورفيوس، أنتَ هنا/ بالظل، وبالهائم، أنتَ هنا/ بالمزمار، يوم كنتَ المغنّي، كل يوم، في الصيف/ طلاء يتقشر عن أهواء، ماتت ودُفنتْ في الغابة.
لا حرب في طروادة
المنابع كلها تصبّ في الإسقاط على الأحداث الجارية في المنطقة العربية، بما تشهد من حروب وصراعات وانقسامات واضطرابات لا يخمد وطيسها.
لا حرب في طروادة/ لا بحر ولا مراكب ولا سلالم على الأسوار/ لا حصان خشبيًّا/ لا جنود يختبئون في خشب الحصان/ سأعتذر لكم يا أبطالي الصرعى: آخيل بكعبه المُجنَّح، هكتور بصدره الطرواديّ العريض، وأنتَ يا أجاممنون، بلحيتكَ البيضاء، وسيفكَ المسلط على رقاب البحّارة الهاربين من المعركة.
يطل نوري الجراح على الوقائع الكائنة أمامه على الأرض لكنه لا يقدر على التحكم فيها
تتجاور الأسماء والرموز والطقوس والخطوط والنقاط التاريخية والجغرافية البارزة في نصوص نوري الجراح الشعرية، راسمة خرائط كاملة لاشتعالات المنطقة العربية، خصوصًا في مرحلة الثورات العربية، وما بعدها من تداعيات متصاعدة. عناوين دواوينه وقصائده نفسها لا تخلو عادة من مثل هذه الأيقونات التاريخية والجغرافية والأسطورية؛ إيكاروس، سيبتيموس سيفيروس، تيريسياس، نرسيس، تيلماخوس، أوديسيوس، آخيل، أجاممنون، هابيل، قابيل، إخوة يوسف، أليعازر الدمشقي، هوميروس، بروميثيوس، هاملت، لسبوس، طروادة.
ومن خلال هذه الشرفات الملحمية، ذات الطاقة الاستثنائية الخارقة، يطل نوري الجراح على الوقائع الكائنة أمامه على الأرض، القريبة من يديه، ولكنه لا يقدر على التحكم فيها، أو الإمساك بها، على نحو مباشر، لا سيما في ظل مكوثه الطويل في المهجر أو المنفى الاختياري "لم أكن في دمشق عندما جاء الزلزال/ لم أكن في جيب.. ولم أكن في سهل/ عندما ترجّفت الأرض، وتشققت صورٌ.. هي الهواء/ كانت يدي الهامدة، تنبض في أرض أخرى/ رعدة خفيفة سرت في جسدي، وضاءت يرقة في صدغي الجاف/ أهي الرسالة، تسقط، في بريدي، أم الربيع يتقلب في أرض بعيدة؟".
حزن الشجرة
ينحاز الشاعر، بشكل واضح، إلى حالة المد الثوري المسمّاة بالربيع العربي، خصوصًا ما يتعلق بالتحولات الميدانية على الأرض السورية، التي قوبلت بالبطش والقمع. يقول نوري في ملهاته الدمشقية أو لسان الجحيم.
ما من مخلوق رأى حُزنَ الشجرة، إلا وحمل النار بعيدًا عن الغابة/ لكنّ مُسوخًا ولدتهم أمهاتهم في جرارٍ سوداء/ نزلوا إلى المدن، وأضرموا النار في الأسرّة.
يخرج الجرّاح من الظرفي والمؤقت والنسبي إلى الكوني المطلق والمشترك الإنساني العام، فيتخطى الموقف التعبيري السلس لفكرة المتحمس السوري الحالم أو المتألم المحبط بسبب أوضاع وطنه.
دمُ من هذا الذي يجري في قصيدتكَ، أيُّها الشاعر؟/ من بقي هنا، لينزفَ؟/ مَن بقيَ هنا، ليقرأ ما كتب الأفقُ في الصحائف، وما تركَ شاعرٌ في القصيدة؟
وتنتقل أزمة سوريا عبر التدفقات الشعرية الخالصة والنَّفَس الملحمي، والرموز الأسطورية، والإصغاء إلى الآهات الآدمية الغرقى في أعماق البحور منذ فجر التاريخ.
اذكريني يا دمشق، حتى لو صرتُ صخرة يسمّونها (اذكريني)/ ولا تتركيني أصير غيمة من غبار.
وهكذا يصير الشاعر صوتًا للمأساة الكبرى أينما كانت، ويصبح بإمكانه أن يستحضر الفرسان من كافة العصور ليقاوموا جميع الطغاة أينما كانوا، وينتفضوا ضد القتل والتنكيل والتهجير من بيوتهم المحترقة رافعين مشاعل الحرية، ويعيدوا تأصيل الهوية وصياغة الواقع المستعصي على التعريف والتأويل. وهنا قد يجد الشاعرُ/ الإنسانُ خلاصَه الأخير وطمأنينته الغائبة في بيت وراء النهر.
يومًا بعد يوم، أنامُ/ إلى أن يخرج من رأسي كلُّ ما عرفْتُ/ وملائكة يحملونني على مطرَّزات، إلى خالةٍ، في منزلٍ، وراء النهر.