آنسبلاش برخصة المشاع الإبداعي
ينقص غرفتي حضور سنية صالح داخلها، فهي التي كانت تمد ذلك السجين بالحياة، والتي سمحت لذلك السجن أن يكون مكان ولادة

سنية صالح.. الوجه الآخر للماغوط

منشور السبت 18 فبراير 2023

"مأساة محمد الماغوط أنه ولد في غرفة مسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط".

هذه الجملة الأولى في مقدمة الشاعرة سنية صالح لديوان الأعمال الكاملة للشاعر السوري محمد الماغوط، وتجمع فيها بين الشرق والمأساة.

ربما لم أقرأ مقدمة عربية لكتابة شعرية تضارع تلك المقدمة في حميميتها وبساطتها، وأيضًا في نظرتها الموضوعية الثاقبة لحياة الماغوط وشعره. لم أكن أعرف أن صاحبة تلك المقدمة هي زوجته، وأنها أيضًا شاعرة. كنت أقرأ مقدمتها بوصفها قصيدة طويلة ضمن متن الأعمال الكاملة. مهما تعددت قراءاتي لا أتجاهل تلك البوابة الواسعة والشجية التي تدخلني إلى عالم الديوان.

في المقدمة التي سمّتها "طفولة بريئة وإرهاب مسن"، هناك وصف دقيق ومجازي للغرفة التي اختبأ فيها الماغوط لشهور خوفًا من الاعتقال، إثر أحد الانقلابات المتكررة، فقد كان يحمل مهام الناشط الشعري، الذي يمكن أن يغير العالم بالكلمات، وكانت سنية الوسيط بينه وبين العالم الخارجي، بجانب الكتب والجرائد التي كانت تحملها له في تلك الغرفة، أو السجن المؤقت الذي يشبه الرحم.

غرفة ولادة روحية

تصف سنية الغرفة بأنها "صغيرة ذات سقف واطئ حشرت حشرًا في خاصرة أحد المباني، بحيث كان على من يعبر عتبتها أن ينحني وكأنه يعبر بوابة ذلك الزمن".

تتحول الغرفة إلى مسرح إغريقي، تعيش فيها المأساة، أو تصبح غرفة ولادة روحية مسدلة الستائر، كما تشير. فالمأساة لا تحدث إلا في مكان ضيق، مظلم، يضغط على الروح والجسد معًا، حتى يحدث الانفجار أو الولادة الذاتية التي تعيد بناء هندستها من جديد.

كان الشاعر وقتها يقف مكان الناشط السياسي، كانت الديكتاتوريات لها وجه واحد صريح، لم يذب أو يختفي، لذا كانت الكتابة في رأيه جزءًا من حركة تغيير، كما يرى السياسي تمامًا، لكن ربما الفارق في طبيعة الأداة، فجذرية السياسي تختلف عن جذرية الشاعر. ولكن ما السبب الذي وحد الاثنين، السياسي والشاعر، في شخص الماغوط؟

ربما خلفيته المتواضعة والفقيرة التي جاء منها، وربما طبيعة مرحلة التحرر التي اجتاحت العالم حينئذ، فجمعت بين الشعر والسياسة، وحمَّلت فردية الشاعر وظيفة جماعية ثقيلة، وهي تغيير الحياة نحو الأفضل.

سجين دون قضية

"سرير قديم، ملاءات صفراء، كنبة زرقاء طويلة سرعان ما هبط مقعدها، ستارة حمراء من مخلفات مسرح قديم، في هذا المناخ عاش محمد الماغوط أشهرًا عديدة". كنت دائمًا أتخيل غرفة الشعر التي صورتها سنية، والسجين الذي يجلس داخلها محصنًا بالخيال، والخيال وحده، ليكتب.

كنت أقارنها –أحيانًا- بغرفتي في بيت العائلة التي أعدها عالمًا بديلًا عن الخارج: الكتب والجرائد وفناجين القهوة، وأعقاب السجائر. ربما كنت سجينًا بها، لكن دون قضية، أو مطاردة من أحد.

كنت أبحث عن قضية تنقذني من نفسي، وعن مطاردة تجعلني أتغرب دون رجعة. لكن ينقص غرفتي حضور سنية داخلها، فهي التي كانت تمد السجين بالحياة، وسمحت للسجن أن يكون مكان ولادة.

السياسي والشاعر

كانت الغرفة هي المسرح الذي سيحدث فيه الصدام بين ذاتَي الماغوط وسنية، فكلاهما شاعر، ولكليهما فردية شديدة الحساسية، هاربان من سجن المجتمع والتقاليد بالمفهوم الواسع. الهرب من الخارج والخوف منه يعري التناقضات. عالمان قائمان بذاتهما قابلان للانفجار تحت إحساس السجن الذي يعيش أحدهما فيه، ويعدي الآخر بإحساسه وبكآبته وحزنه.

"بدت الأيام الأولى كاللعبة البطولية لنا نحن الاثنين، لكن لما شحب لونه ومال إلى الاصفرار المرضي وبدا مزاجه يحتد بدت لي خطورة اللعبة، كان همي الكبير أن يتلاشى الإعصار دون أن يخنق غباره 'النسر'".

شكّل حضور السياسي والشاعر معًا سبيكة خاصة لشعر الماغوط، ولعدد قليل من شعراء تلك المرحلة، حيث ذوبان الأدب بالفعل السياسي، والعكس. أصبح الأدب، أو الشعر بالتحديد، مكان الخلاص، بعيدًا عن الواقع الثقيل.

بدأت كتابة الشعر في التسعينيات، مع تلك الروح الثورية التي نحملها جميعًا بأثر رجعي. أن نغير أوضاعنا الحياتية عبر تغيير علاقات وأوضاع اللغة. لكن الماغوط لم يغير أوضاع اللغة، وإنما منح الجانب السياسي فيه الشعر عاطفة جياشة جعلته إنسانيًا مباشرًا وشديد الشاعرية. منحه سيولة وتدفقًا دون نظريات، برجفة قلب متألم من أوضاع العالم. وعلى الرغم من فقر حياته، فإنه امتلك نظرة كونية رأى من خلالها الحياة، وتقارب تلك الغرفة الكونية، قليلة الأشياء كبيرة المعنى.

الأزمة تحمي العزلة أحيانًا وتمنح الثقة للشاعر ليمرر جملته. تجعله يشعر بأنه ليس وحيدًا بل هناك همًا مشتركًا بينه وبين آخرين

من عزلة الغريب إلى عزلة الرافض

كان الماغوط يعيش منذ بداية تعرف سنية عليه في عزلة لم تفارقه "ومع الأيام لم يخرج من عزلته بل غير موقعها من عزلة الغريب إلى عزلة الرافض".

أعتقد أن المسافة بين العزلتين قريبة جدًا، وهي الضربة الأولى للجدار، التي ستحول الشاعر إلى سياسي يريد أن يقترب كثيرًا من لب العالم ليعيد بنائه على نظافة، ربما ليعوض بُعده وخوفه من ذلك العالم، فالتغيير رغبة ذاتية هدفها أن ينقذ تلك الذات، قبل أن ينقذ الآخرين، ليعيد صياغة غربته الشخصية، وعزلته، وينزع منهما الخوف.

تمرُّدُ الماغوط يحمل سمة تمرُّدٍ وجودي داخل قالب اجتماعي. قريب من البشر الذين يكتب عنهم، وفي الوقت نفسه هناك رثاء ذاتي له صبغة كونية تفوق الأوضاع الاجتماعية الهشة والظالمة. أحيانًا على الرغم من اعترافه بشعرية سنية كان يرى فيها عالمًا بريئًا مثل عوالم الأطفال.

كان هناك تنافس خفي بين وجودين يحاولان بطريقتيهما أن يقربا الطبيعة والوجود الداخلي من العالم الاجتماعي ومآسيه. العالمان قريبان لكن بحاجة دائمًا لهمزة وصل، ولرحلة ينفتح كل منهما فيها على الآخر. ربما لم يسعف الوقت لإتمام الرحلة، بعد وفاة الشاعرة المبكرة نسبيًا (عن عمر 50 سنة)، ولم يسعف أيضًا الزمن الراكد الذي تلى زمن التحرر الذي تزوجا فيه، كان حاجزًا لذلك الانفتاح، فأخذ تمرد الماغوط ذلك الجانب المسيس الاجتماعي، وتحول تمرد سنية إلى تمرد كوني صاف بوصفها امرأة تمثل أحد تمثلات الكون في الحياة.

تابو مختلف

كانت سنية "آخر" بحق للماغوط، تستمد قوتها أمام وجوده القوي والطاغي، بهذه الذاتية التي ترتبط بكيان المرأة، بجوانيتها التي تكتب منها الشعر وتنظر بها للحياة.

ربما اختلافها عنه لم يرق له، كون شعره به عذابات تقترب قليلًا من عذابات المناضل السياسي، لكن عذابات سنية كانت مرتبطة بفعل أصلي، كونها امرأة، فنضالها كان له مكان آخر، وربما نجاها ذلك من أن يطمس همومها بعذاباته القوية. لم تكن تعاني من التابو نفسه الذي يعاني منه الماغوط، السلطة بكل معانيها وتجلياتها: الأب والله والدولة، بل كانت تنام في حضن أبيها ولا ترفضه، لأن وعيها كان منفتحًا على ذات كونية، هي جزء منها، ولا تحتاج لكسر الحواجز، بل الالتئام والتوحد مع ذلك الكون المبعثر فيها.

الأزمة تحمي العزلة

تكتب سنية عن الماغوط "فترات الخصب عنده تتواقت مع الأزمات".

هذه الجملة مفتاح أيضًا، فالأزمة تصنع حماية ما، تحجب الخارج الغريب والمغترب فيه الشاعر، وتحوله إلى نسيج حميم، يمكن أن يراه غير عدائي، فالأزمة تحمي العزلة أحيانًا، وتمنح الثقة للشاعر ليمرر جملته، تجعله يشعر بأنه ليس وحيدًا، بل هناك همًا مشتركًا بينه وبين آخرين، وهنا يرى ولأول مرة الخيوط التي تجمعه بالبشر من حوله، وليس في الخيال فقط.

داخل ذلك الإحساس ربما هناك حس مازوخي تجاه الحياة، كونه يزدهر في الأزمات، ولكن ما يشفع له أنه ليس سبب تلك الأزمة، بل من يستفيد منها. وأن الأزمة نفسها فكرة جمعية تحتوي آخرين، لذا يجد فيها بعض الدفء والمواساة الشخصية.

وجودات لا حصر لها

تكتب سنية  "تلك المؤامرة الكبرى التي حاكتها البيئة ضده عظمت براءته وقوى صفاؤه".

كات سنية تؤدي دور المكتشف والموثق لتحولات الشاعر، بدقة متناهية، كأن ما يحدث له يحدث لها وينعكس على مرآة روحها، كأنها طبيبه النفسي الذي لا بد وأن يعيش تجربة المرض، ليصل إلى أعماق مريضه، حتى يشفى الاثنان معًا، أو يغرقان معًا.

"أعطته الإقامة السرية فرصة التأمل الذهني. وتحت تلك العدسات كان الوجود الإنساني يدخل في سلسلة من التحولات. سكب أحماضه المأساوية على الفوضى البشرية، فبدا الوجود الواحد يحمل في أعماقه وجودات لا حصر لها".

ربما هي مرحلة الشفاء، التي تعني الولادة بشكل ما، والوصول لذلك التعدد الوجودي تحث ضغط الأزمة، والتأمل.

وفي النهاية تحقق ما تريده أن تحافظ على موهبة الشاعر التى تلخص في عفويته "نجت عفويته من التحجر والجمود، وكان ذلك فضيلة من الفضائل النادرة في هذا العصر".