تصميم: يوسف أيمن- المنصة
الشاعر محمود قرني

محمود قرني إلى حيث مبغى الشعراء

منشور الخميس 20 يوليو 2023 - آخر تحديث الخميس 20 يوليو 2023

ضمن مدونة التراث الشعري العربي الذي يعتد به كثيرًا، كان الشاعر الراحل محمود قرني يتوقف عند اثنين من كبار الشعراء هما المتنبي وزهير بن أبي سلمى.

وإذا كان المتنبي حالةً إبداعيةً لا يمكن تجاوزها، فضلًا عن فرادته الإنسانية وسمات شخصيته الجريئة صارمة الاعتداد بالذات؛ ما حال دون تصنيفه، على كثرة مدائحه، كمجرد شاعر بلاط، فإن أكثر ما استوقف قرني لدى زهير، جنب فصاحته وشاعريته، كان تعففه وندرة انشغال شعره بالمديح سوى لصديقه هرم بن سنان، ولأسباب يمكن عدّها نبيلة، كوساطة الأخير لحقن دماء قبائل العرب بعد حرب داحس والغبراء.

كان زهير، كما وصفه التبريزي، أحد الثلاثة المُقدَّمين على سائر الشعراء، مع كلٍ من امرئ القيس والنابغة الذبياني، وإن فضّل بعض العرب والمستشرقين زهيرًا لحكمته والتزامه الإنساني على امرئ القيس لطيشه والنابغة لنذره حياته لمديح ملوك المناذرة. أما قرني فكان مبعث إجلاله لزهير هو أن حياته الطويلة، حوالي مائة عام، كانت تمثيلًا لعقيدة أن تاريخ الشعر هو تاريخ انتفاء المصلحة، وأن القيمة الجمالية لا يجب أن تنحدر إلى المنفعة.

تلك كانت عقيدة محمود قرني الذي كثيرًا ما ساق ضمن أحاديثه وكتاباته مقولة الناقد الأمريكي والاس فاولي "معجزةُ الشعر تكمن في خلوه من المنفعة"؛ ولأجلها حارب وحورب حتى رحيله قبل أيامٍ متأثرًا بمرضه العضال، وتأخر علاجه الذي تخاذلت كافة المؤسسات الثقافية عن واجبها في التكفل بنفقته إنقاذًا لحياته، ورفض الشاعر، الذي استنفد مدخراته وصمود جسده، أية مبادرات فردية من شعراء وأصدقاء للمساهمة في العلاج.


أبناء القناصل أكلوا وتدربوا جيدًا/ أما الشاعر فكتب قصيدةً/ لكنها سرعان ما تَضَرجَتْ بالدماء/ وهكذا ذهَبَتِ العدالة إلى المَشْفَى/ واختبأت الحرية أسفل الحلبة/ أما الشاعر الذي كفَّنته الغيوم/ فقد ترك زفرته الأخيرة بين أقدام قاتليه/ بينما يُكلّمُ نفسه: نعم ... أمعائي فسَدَتْ/ لكن ضميري لا يزال بخير.

ديوان "هنا مبغى الشعراء" (2015)

ضد طيور الظلام

عقب ثورة 25 يناير 2011، كنتُ ضمن عددٍ من الشعراء جلوسًا بأحد مقاه وسط المدينة، وأصر محمود على دفع حساب مشروبات الجميع قائلًا بمزيج من الحسم والسخرية إن عليه قبل العودة إلى المنزل، الانتهاء من إنفاق مكافأة بيت الشعر، وكان وقتها عضوًا بأول مجلس لأمنائه، وكانت المكافأة أقل أو أكثر قليلًا من مائتي جنيه مصري!

لسنواتٍ ظلت تلك الواقعة مثار تندرٍ بيني وبين أحد الأصدقاء، كنت أقول له إن قرني يذكرني كثيرًا بالشخصية التي لعبها الفنان أحمد راتب في فيلم طيور الظلام؛ يعتبر أية محاولة للإنصاف مؤامرةً على نزاهته.

مطلوب مني سداد أثمان لا يجب أن أدفعها

بعد أشهرٍ قليلة من تلك الواقعة أعلن صاحب ديوان "لعنات مشرقية" استقالته من بيت الشعر لإصرار مجلس الأمناء على ترشيح أعضائه لكبريات جوائز الدولة، وحل محله شاعر من مُجايليه، نال ما لم يقبله محمود: ترشيح المجلس له لنيل جائزة التفوق.

تلك السابقة لم تكن الأولى لهؤلاء الشعراء في الترشح لجوائز هم مانحوها، فقد صار ذلك تقليدًا، كان بدأه الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في وقتٍ سابق على تأسيس بيت الشعر نفسه، عندما حصد جائزة ملتقى القاهرة للشعر العربي في دورتها الثانية عام 2009، وقت كان مقرر الملتقى ورئيس لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، ما أسفر عن استقالة الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر من اللجنة، واصفًا ما جرى بــ"طغيان الشللية وفوضى التنظيم وشخصنة المنصب وانعدام النزاهة".

أيضًا لم تكن واقعة استقالة محمود هي الأخيرة؛ فقد استقال بعدها من مركز أحمد شوقي عندما أهمل وزير ثقافة تلك الفترة إصدار لائحة لتنظيم العمل، واستقال من جريدة القدس العربي التي ظل لسنواتٍ طويلة مشرفًا على ملحقها الثقافي بمكتب القاهرة بسبب هيمنة قطر عليها، كما اعتذر عن عدم الكتابة بجريدة الأهرام عندما وجد أنه "مطلوب مني سداد أثمان لا يجب أن أدفعها".

وظيفة الشعر

والسؤال المشروع هنا هو: لماذا قبل الشاعر المشاركة في تلك المؤسسات التي وسمتها منذ تأسيسها البطريركية والبراجماتية؟ خاصةً أنه عاين بنفسه مرارة تجربة صديقه وأستاذه الراحل عفيفي مطر، وإجابة السؤال على لسان الشاعر نفسه أن الفترة التالية لثورة الخامس والعشرين من يناير كانت "لحظة مليئة بالكثير من الوعود"؛ فقبِل المهمة "رغبةً في تقديم ومؤزارة الشعرية الجديدة على اختلافها"، ثم استقال فور أن تبدَّى له "التناقض الحقيقي بين الوعود والرغبات".

أيضًا يضاف إلى ذلك كون الشاعر أحد أفراد جيل الثمانينيات، الذي صعد وظلال اليسار لا تزال قائمة، وفكرة الوطنية المصرية والقومية العربية متقدة، فارتبط بمفاهيم عقائدية تؤمن بالعمل العام وبوظيفية الفنون، وعلى رأسها الشعر الذي كان قرني يرى أنه "يستحق التضحية".

ما جعله ينخرط في العمل ضمن مسارين متوازيين، الأول تقديم ورعاية الأصوات الجديدة عبر المطبوعات والصالونات والمنتديات والملتقيات الشعرية المستقلة، بهدف خلق سياق بديل للسياق الرجعي الرسمي الذي استبعد أبناء الشعرية الجديدة ونصها الرجيم قصيدة النثر.

والثاني هو العمل على تفتيت عزلة الشاعر عن جمهوره بمحاولة تفكيك فكرة القارئ الافتراضي أو القارئ الميت، التي يرى قرني أنها كانت ثمرة ارتباط قصيدة النثر منذ نشأتها بالرمزية الفرنسية، حيث الاستغلاق والانكباب على الذات واحتقار الشعراء للعالم الخارجي، فيما هو يعد الشاعر منوطًا باختصار الذاتيات الجمعية في ذاتٍ واحدة، كما فعل شاعر الديمقراطية الأمريكية والت ويتمان، والكف عن المبالغة في الاحتفاء بفكرة "تشوش الحواس" التي طرحها الشاعر الفرنسي رامبو.

تلك الأفكار وغيرها، تصدى لمناقشتها الشاعر في عدد من الكتب النظرية التي تضمنت مقالاته وسجالاته طوال العقود الفائتة وأهمها "بين فرائض الشعر ونوافل السياسة"، و"لماذا يخذل الشعر محبيه" و"الوثنية الجديدة وإدرة التوحش".

استفاض صاحب "طرق طيبة للحفاة" في التأصيل لأفكاره عن الفن ووظيفيته، وعن الدور التثويري للكاتب وجدلية علاقته مع قارئه ومجتمعه. وهي كأية أفكارٍ يمكن أن نختلف أو نتفق معها، لكنها تمثل المنظور الذي رأى من خلاله قرني الشعر وموقعه في العالم، الذي يتمحور حول رفض فكرة سقوط الوظيفة الشعرية وبالتالي إسقاط القارئ تحت شعارات يصفها بأنها "تطهرية مجردة".

أنا بطلُ الروايات الناقصة أعني أنني بالضرورة سيدُ العشاقِ الخائبين

يمكن للمُطلع على تجربة الشاعر محمود قرني وسيرته أن يربط بين تلك الرؤية الوظيفية للشعر وظروف نشأته وتكوينه في إحدى قرى محافظة الفيوم، ومعاناته للحصول على مصادر القراءة والثقافة النادرة في ظروف غير عادلة تعيشها غالبية أقاليم مصر، ما يتطلب جهدًا ودأبًا مضاعفين ليكون المثقف ما يرجو أن يكونه.

وهي حالة يمكن فهمها عبر نموذج نقيض ينتمي لثقافاتٍ وأممٍ أكثر حظًا، طالما مثَّله في وعيي الشاعر أوسكار وايلد، الأرستقراطي الإنجليزي الذي زار عمال المناجم مرتديًا بدلة قرمزيةً لإلقاء محاضرةٍ مدفوعة الأجر ومباراتهم في السكر، بينما يمكن للشاعر في بلادنا أن يكون أحد هؤلاء العمال فـ"الشعراء يرثون أقدار أممهم".


معي مصباح/ عالجته بزيت أجدادي/ وها أنا أسير فى ظله/ لأبحث عن تلك الأوراق/ التي سقطت - عرضًا- تحت أقدامي/ إنها وثائق أجدادي/ فؤوسهم/ وتشققات أقدامهم/ بعض السياط التي زرعها الغرباء/ في برزخ ما بين البحرين/ والتعاويذُ التي تركها آلاف العبيد/ قبل أن يقضوا نحبهم/ في مقاطف "ديلسبس".

(ديوان قصائد للغرقى 2008).


أيضًا، قد توحي المسيرة الحياتية الحافلة بالمعارك والسجالات والفعاليات الثقافية من ناحية وبالجهد الفكري والنظري المهموم بسد الفراغ النقدي وإزالة العراقيل أمام قصيدة النثر وشعرائها من ناحية أخرى، أن ثمة جورًا على التجربة الشعرية لمحمود قرني كما أو كيفًا.

خاصةً إذا ما أخذنا في الاعتبار ظروف مرضه الذي صاحبه منذ أكثر من عقدين، لكن الحقيقة أن إنتاجه ظل متوازنًا كمًا، بل ويتناسب طردًا مع اشتداد شراسة المرض، فأصدر إحدى عشرة مجموعة شعرية، نشر نصفهم خلال العقدين الأخيرين، فضلًا عن خمسة كتبٍ نظريةٍ وثلاثة مختارات شعرية، وحال رحيله دون إنجاز أو نشر المزيد.

وعلى سبيل الكيف، فتجربة قرني، الشاعر المخضرم الذي ترك بصمته على مختلف أنواع الشعر قبل إقامته في قصيدة النثر، كانت شديدة الخصوصية؛ لم يخفت فيها الشعري أو يتوارى لحظة لصالح ما عداه. وكانت الضفيرة الشعرية الرهيفة للمعرفي والجمالي معجزته الشخصية التي طالما سُئل عنها، فضلًا عن شعرنة الإيديولوجيا وتمريرها، كأنها خبرة حدثية التقطها الشعر، فلا صراخ ولا هتاف.

ويضاف لذلك تعامله شديد الكثافة مع التراث محاورة وجدلًا، والذي بلغ ذروته في ديوانه الفاتن "لعنات مشرقية"، وهو نص استعادي لألف ليلة وليلة يتوزع على 44 مقطعًا مأخوذة عن الليلة 401، كان نتاج محاولة لزرع نص قصيدة النثر في التراث العربي بعدما ساد لعقود أنها ابنة الوعي الغربي.

كان الشاعر دارسًا ولهًا للتراث العربي، ويرى أنه، وضمنه الشعر تحديدًا، مرجعية لا يمكن تجاوزها على مستوى الشعر العالمي والإنساني، وأن لدى العالم العربي شعراء عالميين بكل ما تحويه الكلمة من معنى.

ما لم يذكره محمود أنه كان أحد أهم هؤلاء الشعراء الذين أشار إليهم، وأنه صاحب مسيرة شعرية وإنسانية ستظل ملهمةً عربيًا وإنسانيًا. وهو وإن ظل يرفض فكرة الأستاذية وثنائية القطب والمريدين؛ إخلاصًا لفكرة عدم مساعدة القديم على الترهل والتسلط، ولا محاصرة الجديد بصكوك غفران انتزعها القدماء بـ"قسمات الشيخوخة" فإنه سيظل أستاذًا ومرشدًا روحيًا لجميع محبي الشعر، ومن يرونه جديرًا بالفناء لأجله.


أنا بطلُ الروايات الناقصة/ أعني أنني بالضرورة/ سيدُ العشاقِ الخائبين/ أنا الذي يَتَنَشَّقُ هُرَاءَ مَجدِه/ ولا يرى سبيلا لِقلب حبيبته/ فيَدُقُّ صورتَها بإبرةِ الحِجَامة/ على ثَنْيَاتِ بطنِه/ يسلم حذاءه للطير/ وتخْرُجُ شِبكَّةُ صَيدِه خاليةَ الوِفاض/ وأنا الرسام الأرعَن/ اسمي "محمود "وصنعتي تربية النظر/ أقرأ "جوستاف فلوبير" كبحَّار مغامر/ وأعتبره مِثْلي..غبيًا أنيقًا/ لكنه يَغرَقُ على ما يرام/ أُخَمِّنُ آلام الأشجار/ قَبْل الزفرة الأخيرة لِفصل الربيع وعندما تتساقط الثمراتُ حَوْلَ قدميَّ.. أقول: غدًا سآكُلُها.. وفي الغد تكنسها الرياح.

تفضل هنا مبغى الشعراء (2015).