تصميم: يوسف أيمن- المنصة

عن ثنائية الوحدة والائتلاف في شعر الأبنودي

منشور الثلاثاء 11 يوليو 2023

قضيت ليلة العيد وحيدًا كالعادة. رغم وجود أصدقاء في حياتي، لا أعلم من أين يأتي شعوري بالاغتراب. في تلك الليلة ألقى عليّ عبد الرحمن الأبنودي قولًا ثقيلًا "وارجع يا خواني آخر الليلة غريب، فرّادي، ومطرود، وغريب، وأحس معاكم إني وحيد. جربتوا يا رفاق الصحبة لما تكون غربة؟"

ارتبكت من وقع الكلمات على أذني، وشعرت ببعض الحزن. يقولون إن الشعر يكتبنا، جملة رأيتها مبتذلة عندما قرأتها للمرة الأولى، لكنني شعرت بوطأتها عندما استمعت إلى شعر الأبنودي في تلك الليلة.

لم تكن تلك المرة الأولى التي يعبر فيها الأبنودي عن المعنى ذاته، الشعور بالغربة كمُعادل للوحدة في شعره وأغنياته، رغم وجود أصدقاء، ويمكنني القول إنني لم أصادف تلك الثنائية في أي عمل قرأته أو شاهدته من قبل. فالوحدة عنده لا تعني عدم وجود بشر حولك، والشعور بها قد ينبع من الإحساس بالاغتراب، أي عدم القدرة على خلق تواصل حقيقي مع محيطك من أهل وأصدقاء، سواء كان ذلك نتيجة الاكتئاب أو القلق الاجتماعي، أو ضعف المهارات الاجتماعية.

هذه الثيمة تعبر عنها، حسب قراءتي، ثلاثة قصائد: "أحزاني العادية" و"الخواجة لامبو" و"أحمد سماعين: سيرة إنسان"، التي من وجهة نظري، أوضح قصائده في طرح تلك الثنائية.

تقدم القصائد ثلاثة صور من الغربة/الوحدة، فالأولى تقدم وحدة مواطن بلا اسم وجد نفسه في السجن، والثانية عن فنان متشرد دون مأوى، أما الثالثة فتقدم وحدة إنسان اقتُلع من جذوره هربًا من وطأة الحياة بعد موت أقرب أصدقائه.

الأحزان وكتوف الأصحاب

يحكي الأبنودي في قصيدته التي كتبها عام 1981، عن بطل دون اسم أو عائلة، يتحايل على أحد الضبّاط حتى لا يدخله إلى السجن. ذلك البطل الذي يشعر بالوحدة حتى أنه يتحدث مع القمر "أنا اللي واخد ع القمر ومكلمه أطنان من الشهور". والقمر يحمل معنى الدليل، كما قال من قبل في أغنية موال النهار "وعشان نتوه في السكة، شالت من ليالينا القمر".


ذلك القمر نفسه، الذي يختفي وقت موت البطل الزائف/المغشوش "وفي ليلة التشييع، كان القمر غافل ما جاش"، مما يعطّل رؤية الميت أثناء رحلته إلى الحياة الأخرى، أو في حقيقة الأمر، رحلته في الحياة الحالية. يسترد البطل رؤيته مرة أخرى، بعد نومه على أكتاف أصحابه "ما أجمل نومة على كتوف أصحابك/ تنظر صادقك من كدّابك/ تبحث عن صاحب أنبل وش/ في الزمن الغش/ والرؤية قصادي اتسعت".

وهذه أحد أعذب الصور عن الصداقة، فالبطل الذي يشعر بالوحدة ويتحدث مع القمر، دليله في الليالي الحالكة، لا يمكنه العيش، أو الموت حتى، دون أصدقاءه، دليله الحقيقي للنظر والرؤية.

على طول القصيدة، وبعد القبض على بطلها، يختفي الأصدقاء تقريبًا، فيعود للوحدة، يتأمل حاله وأحوال الناس. في السجن يرثي البطل حاله، تهون الدنيا في عيناه "دنيا في هيئة خنفسة"، يغرق في حزنه ويدرك أن لا معنى لذلك كله "دنيا فِسا، ما أتعس الإنسان، ما أسعد الحيوان". 

لكنه، في لحظة، يقرر أن ينتفض، وهي لحظة الغضب التي اشتهرت بها القصيدة، كانت شرارتها أن الضابط قتل أصحابه، دليله وسنده "وآخر الليل جانى بدم صحابي في الأكل"، هذه اللحظة تحديدًا تؤكد شدة ارتباط البطل بأصحابه، رغم شعوره بالوحدة، وسيره وحيدًا طوال القصيدة تقريبًا.

العجوز والجيتار والقطة

سمعت قصيدة "الخواجة لامبو العجوز" في بداية سنواتي الجامعية، لم أكن أعلم الكثير عن الأبنودي غير أنه كتب بعض الأغاني لمنير وعبد الحليم حافظ وغيرهما. أتذكر أنني قرأت جزءًا منها على حساب الشاعر مصطفى إبراهيم، فبحثت عنها ووجدت أنه ألقاها في أحد لقاءاته مع المذيع محمود سعد فسمعتها. أتصور أنني لم أبكِ في حياتي عند سماعي لقصيدة مثلما بكيت عند سماعي لها لأول مرة، ومنذ ذلك الوقت وأنا لا أتمالك دموعي كل مرة.


تبدأ القصيدة بمشهد في صبيحة يوم العيد في إسبانيا، لكنه ليس صباحًا مشرقًا، فالشمس، في ذلك اليوم، لم تتمكن من طرد الضباب والجليد. غير ذلك يبدو كل شيء مثاليًا ليوم عيد، الأطفال سعداء، القس سعيد، الجميع بخير، عدا الخواجة العجوز لامبو "والجديد، الخواجة لامبو مات".

يصف الأبنودي الخواجة بأنه "شاعر مغني"، يحب الشمس والناس والغيطان والجيتار وقطته "أول الناس اللي تحفظ غنوته"، يسير لامبو في الشوارع ليغني للجميع، للأطفال والكبار، حتى عمال المناجم السكارى في البارات "اللي المحاجر حولتهم زيها أزمة وحجارة". يحاول الترفيه عن الجميع رغم أنه "ما كانلوش سكن، والحياة في قريته ما لهاش تمن".

ورغم وحدته وعدم وجود أصدقاء حوله أو عائلة، كان يحب الجميع "كل أطفال البلد كانت تحبه، كلهم كانوا في يوم كورَس للامبو". يتأثر لامبو بكل ما يحدث حوله، وكأنه جزء من كل بيوت القرية، بل من القرية ذاتها، هذا التأثير الذي وصفه الأبنودي بعذوبة "وشه كان وش البلد، تبتسم يضحك لها، تزعل القرية أساه يصبغ خضار ورق الشجر".

لكن، وعلى الرغم من تلك المحبة، لم يتمكن لامبو من أن يكون بطلًا. ذات ليلة نهره الشاويش ومنعه من غناء تلك الأغاني التي وصفها بـ "أغاني الفقرا". لم يعترض على الأمر ولم ينفذه، هذا العجز الذي شعر به لم يتمكن من تخطيه "لامبو دمّع، الحياة عايزة الجسارة، والخلايق عاوزة أبطالها يكون فيها جدارة، عاوزة أبطالها في عز البرد مشحونة حرارة".

هذا البرد الذي حاول المغني مقاومته بالغناء والرقص وضوء الشمس، هزمه في النهاية. لم يتحمّل قلبه برودة المنع "قلبه كان لابس خفيف، ومات (...) مات وكان عاوز يعيش، غيرشي بس الظلم برّم له شنبات الشاويش". ولأنه وحيد، رغم محبة الجميع له، لم يعلم أحد بموته إلا في الصباح، حزن الجميع، حتى قطته.

عند قراءة أو سماع هذا البيت تحديدًا أشعر بالحزن، لأنه يزيد من وطأة الوحدة على قلبي. الوحدة، التي يمكنها قتلك حتى لو حاوطك ألف محب، إذا لم يكن لك عائلة وأصدقاء مقربين، يحبونك بحق ويهتمون لأمرك، فأنت وحيد، حتى لو كنت سببًا لنشر الدفء بين الجميع، حتى لو مزقت قلبك ووهبته للغرباء جميعًا، لن يحميك من البرد إلا العائلة والأصدقاء الحقيقيون المقربون، وهو ما يظهر واضحًا جليًا في قصيدة الأبنودي التالية.

الغربة وسط الصحبة

يقول الأبنودي عن أحمد سماعين إنه شخص شديد العادية، بل يمكن وصفه بأنه يعيش على هامش الحياة "حاجة منسية في أبنود". مات أبواه وهو في سن صغيرة، فعرف اليتم والحزن والوحدة، وكبرت الوحدة في قلبه، حتى أنه يشعر في منزله وسط ذكريات عائلته بالغربة "الغربة مرار/ وأمرّ من الغربة.. الغربة/ ما أنا طول عمري في غربة/ ده حتى دلوقتي في مكانكم يا أمّاي وغريب".


هذه الغربة هي لعنة أحمد سماعين، الفلاح الذي يعمل بالأجرة، والذي تعرّف على أهميتها للفقير منذ الصغر "إن اليوم ليه أكل، وأن الأكل لازم له شغل، وإن حصول الفقرا ع القرش صعيب"، لذلك لم يحظ بطفولة سعيدة، بل يمكن أن تقول إنه لم يحظ بطفولة على الإطلاق "طيلة عمره ما كانشي أولاد/ وإذا جيت تسأل أحمد/ عن ليه ما لعبش أيام ما هو كان عيل/ على طول هيرد عليك/ والضحكة في نص عينيه/ والدمعة في نص عينيه/ "آه يابو خالو/ ليه هو إنت ما تعرفش؟/ مش أول ما أمي ولدتني/ لغوا الأولاد؟".

لم يكن أحمد سماعين متطلبًا، بل كريمًا يعامل الناس بمودة "كان لما يلاقي بنود جاية على الغلطان/ يخلق أسباب.. ويقول "الناس أعذار/ ويعود للفاس/ ويسيب أحوال الناس للناس/ هو ما كانشي يشارك إلا في العُذر وفي الحوجة/ لو حد احتاجه.. خدام/ إنما حُكمه علي ده أو ده/ كان دايمًا سايبه للأيام".

لكن ذلك الأحمد أصابه الحزن الشديد. لم يعد كالسابق يشارك بالغناء في الأفراح، بل ثقيلًا كأنه يحمل هم العالم فوق كتفيه "من سابع دار، تسمع صوت الأفكار، في دماغ أحمد سماعين المِندار، وكأن في راسه حلقة ذكر".

يحكي الأبنودي في إحدى حلقات برنامج أيامي الحلوة, الذي قدمه مع زوجته المذيعة نهال كمال، عن صديق له يدعى هاشم الكيّال، الذي وصفه بأنه مضحك القرية. يشارك في الأفراح بالغناء، وفي جلسات السمر بالغناء الساخر والضحك. لكن هذه الضحكات تحولت إلى وجوم دائم بسبب موت أعز أصدقائه، الذي مات خطأ في عراك بالعُصيّ، من بعدها لم تعد الابتسامة إلى وجه الكيّال مرّة أخرى.

يبدو أن الأبنودي استلهم تلك القصة في قصيدة "أحمد سماعين"، الذي فقد كل صِلاته بأبنود بعد موت صديقه جودة، الذي أكلته ماكينة الطحين، ومنذ ذلك الوقت لم يتوقف أحمد سماعين عن الشعور بالغربة، وفكر في أن يترك أبنود ويذهب للعمل في القاهرة، البلد التي وصفها ناظر المحطة بأن أهلها "يبيعوا كرسي العرش"، لكنها تظل في عيون أحمد أفضل من أبنود، التي ضاقت ولم يعد لحياته بها معنى بعد موت جودة.

لكن قرار الابتعاد عن أبنود ليس سهلًا "لكن دي الغربة، والناظر قالك.. الغربة صعب، قالك لو مزنوق في السكة، علشان ترتاح منها راح تدفع قرش". ورغم إحساسه بالغربة داخلها، إلا أن وجود الصُحبة يخفف صعوبات الحياة "المر هنا، أحلى من اللقمة اللي يغمسها الراجل بشبابه، أهو برضه الواحد مقتول مقتول بصحيح، لكن بيرد له نفسه معاكم.. آخر الليل".

يتمزق أحمد بين إحساسه الشديد بالغربة بعد موت والديه وصديقه المقرب، وبين وجود صُحبة وأصدقاء حوله. قرار السفر صعب، والبقاء أصعب. لكنه يقرر في النهاية بيع البيت الذي تركه له والداه، مما يعني قطع كل صلة مادية له بأبنود، التي ضاقت رغم وجود الأحباب "وأديني باخطّي الجسر/ وأدي المشوار الرمل اللي ما بين الشجرات/ والكُشك/ ياما مشيته/ لكن ياما حلمت امشيه وأنا مسافر/ وأديني ماشي عليه/ وأنا راحل على مصر".

يسافر أحمد إلى القاهرة، ويموت لامبو على رصيف إسبانيا البارد، وينتفض بطل قصيدة "أحزاني العادية" في وجه السجّان. كل هؤلاء الأشخاص وحيدون، لكنهم يحبون الناس والأصدقاء، وينفضون معهم تراب الهم والمرار. هم دليلهم في طريق الحياة، ومحركهم الأساسي في جميع خطوات حياتهم تقريبًا، حتى لو كانت الطرق وعرة، أو كما تقول أغنية فرقة آخر زفير "هدا الطريق آخرتو لحن حزين".