باعتماد مفهوم الموت كحقيقةٍ واحدةٍ عديدة التأويلات، يمكن اعتبار رحيل الروائي السوري خالد خليفة ليس فجيعةً مباغتةً، بقدر ما هو نهايةٌ مؤجلةٌ لاحتمالات النجاة؛ ذلك أن الثلاثة عشر عامًا الأخيرة، التالية للثورة السورية، كان كل يومٍ خلالها يعني أنه تفادى احتمالات الموت في اليوم السابق، بعدما اختار البقاء في بلاده التي تواطأ العالم على جعلها مسرحًا للجحيم.
لماذا بقي في سوريا؟ ذلك السؤال الذي طالما أزعجه، كان يجيبه الراحل بسؤالٍ يعده أكثر منطقية "لماذا أغادر؟"، وإذا كان في مزاجٍ أهدأ بـ"هل أستطيع المغادرة؟". لم يكن صاحب "دفاتر القرباط" ممنوعًا من الخروج، بل مفتوحة أمامه سبل الحصول على "كل فِيز العالم"، وهو ما لم يكن متاحًا لأصدقائه من الفنانين والمبدعين السوريين الفقراء، رغم ذلك لم يعتبر مكوثه بينهم تضامنًا معهم بقدر ما كان تضامنًا مع ذاته.
أيضًا لم يعدّ قرار البقاء في دمشق، محاصرًا بالقصف الذي كان يضطر معه إلى النوم في الممرات، أو البرد الذي كان يُلجئه إلى قضاء ليال طويلة في سيارته، تضحيةً أو فرط شجاعة، بل على العكس؛ كان يرى أنه "أجبن من أن أترك بيتي ومدينتي وشعبي".
في مقابل ذلك الجبن العاطفي، كان لدى خليفة شجاعة كبيرة في مواجهة الموت المطوِّق لبلاده، لأنه كان يعرف أنه إذا اضطُر للرحيل عنها "أيضًا سأموت"، ولكن أكثر حسرة.
البقاء خيارٌ تراجيديٌ، كان الرجل يدرك ذلك تمامًا، لذا لم يعتب على أصدقائه ممن رحلوا، بقدر ما كان يتمنى لو بقوا، أو لو عادوا بأسرع وقت؛ لكلٍ منهم أحلامه وفي القلب منها البقاء حيًا، أما هو فكان يرى أنه أخذ حصته المٌرضية من الحياة "عشت حياتي وكتبت الروايات التي أردت، وفعلت أشياء كثيرة كنت أحبها، اخترتها ودافعت عن خياراتي؛ إذا مِتُّ الآن فلن يكون خبرًا حزينًا على الإطلاق"؛ الحزين بالنسبة له كان ألا يشارك شعبه الممرور في أخذ حصته من الألم، أو ما وصفه على لسان إحدى شخصيات روايته لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة، بـ"أخذ حصته من العار".
الموت في سوريا
منذ أواخر القرن الماضي يسكن صاحب "حارس الخديعة" في العاصمة السورية دمشق، بينما تسكنه مدينته الأم حلب، وتسكن كذلك غالبية أعماله التي اتخذتها مسرحًا، متتبعة عبر رحلة عكسية في الزمن فصول لعنتها المجاوزة للقرون.
حلب المدينة العصية على الحياد حتى لدى العابرين، تظل بالنسبة لمن ولد وعاش فيها، وتصادف أن قرأ وكتب عنها، أو من اقترب ورأى، فردوسًا مفقودًا. ومنذ اندلاع الثورة السورية التي رد عليها نظام الأسد بإحراق الأرض حقيقةً ومجازًا، كان على من يريد الاحتفاظ في ذاكرته بهيئة ذلك الفردوس الهجرة عن المدينة، وذاك ما فعله خليفة.
انقطع الكاتب عن زيارتها منذ الحرب، بل وقاطع صورها على الشاشات، وعندما زارها بعد عشر سنوات، واضطر لمعاينة الجحيم الذي طال مرابع طفولته، انخرط في بكاء حارٍ دام لأربعة أيام.
بعد تلك الواقعة انتظر البعض أن يكون هولوكوست ما بعد 2011 بؤرة الأعمال الروائية التالية للكاتب، فقد كان مثيرًا للغرابة أن يتورط يوميًا في أحداث الثورة، ويشارك في مسيراتها ويهتف ضد أعدائها ويشيع ضحاياها، فيما يحيدها تمامًا في كتابته، لكنه واصل نهجه بقناعة أن الفن الجيد هو المكتوب برأس بارد، بعيدًا عن احتقان اللحظة الحارة.
قد يستثنى من ذلك مرة وحيدة حضرت خلالها سوريا ما بعد الثورة روائيًا عبر رواية الموت عملٌ شاق (2016)، لكنها كانت فقط خلفية جيوسياسية واجتماعية للأحداث، التي تجمعها حكاية مغلقة حول جثةٍ أوصى صاحبها أن يدفن في مدينته الأم، وعلى بساطة الأمنية، وبداهتها بالنسبة للشعب السوري الذي يحرص على احتضان رفات ذويه، تم توقيف الجثة واعتراضها واعتقالها والتنكيل بها من كل الأطراف المتناحرة على طول الطريق بين دمشق وحلب، حتى تعفنت وصارت وليمةً للكلاب.
على فداحة مآلها وربما بسببه، رأى الكثيرون في تلك الجثة رمزًا صريحًا لسوريا التي تداعت عليها الذئاب، لكن الأمر كان أكثر ذاتية، إذ صرح الكاتب في أكثر من لقاء بأنه استلهمها من تجربته في مقاربة الموت، إثر إصابته عام 2013 بجلطةٍ قلبيةٍ كادت تودي بحياته، فاستوقفه مصير جثمانه.
كانت الرواية بحسبه أشبه برؤيا، أو حلم، كتبها كدفقةٍ واحدة تمحورت حول مصير جسده في رحلته لمعانقة روحه الساكنة سلفًا في حلب؛ لذا لم يعدها الكاتب روايةً عن الثورة رغم نتوء آثارها على حركة الحكاية المركزية.
ربما كان الإسقاط الأكثر وضوحًا هنا؛ هو رحلة حياة خليفة العائش بجسده في دمشق منذ ربع قرن، بينما روحه تشارك الأطفال اللعب في ريف حلب، وحوْل الحرب بين التئام الجسد والروح.
لا أعرف إذا ما كان للرواية علاقة بقرار دفنه في دمشق، وتفادي تلك الرحلة/النبوءة، لكن العاصمة صار لها أخيرًا حظ من خالد، طالما افتقدته في رواياته التي عجزت عن فرض حضورها عليها، وإن كتب غالبيتها بها، لكنها لم تُكتب عنها.
في الإبحار عكسًا
"الموت عمل شاق" هي الرواية الأكثر حظا لكاتبها، ترجمت إلى 17 لغة، ووصلت إلى القائمة النهائية لـجائزة الكتاب الوطني الأمريكي للأدب المترجم عام 2019، وحصلت على جائزة بانيبال لأفضل ترجمة، وربط البعض ذلك بطبيعة موضوعها، لكن أعماله الأخر منذ "مديح الكراهية" التي سبق صدورها الانتفاضة السورية بنصف عقد، وتالياتها من الروايات كـ"لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" 2013، ثم "لم يصل عليهم أحد" 2019 نال جميعها تقديرًا عالميًا كبيرًا، وصدر لها عديد الترجمات.
ضمنت رواية "مديح الكراهية" في القائمة الطويلة لجائزة الإندبندنت لأدب الخيال الأجنبي، واختيرت ضمن قائمة Muse List لأفضل مائة رواية عبر العصور مع نخبة من أهم كتاب العالم.
وعربيًا ضمنت الروايات الثلاث للقوائم الطويلة والقصيرة لجائزة البوكر، في الدورات التي زامنت أعوام صدورها، وفازت رواية "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" بـجائزة نجيب محفوظ بالقاهرة عام 2013، مانحة كاتبها ما وصفه بواحدة من أسعد لحظات حياته.
وهذه الروايات يمكن عدها ثلاثية منفصلة متصلة عن مدينة حلب، في القرون الأخيرة، بدأت "بمديح الكراهية" التي تناولت الصراع بين حزب البعث والإسلاميين في الفترة بين نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات انتهاءً بمجزرة حماة التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من القتلى أكثرهم من المدنيين.
وفي رواية "لا سكاكين في هذه المدينة" انطلق الكاتب من الانقلاب البعثي، الذي بدأ فصلًا جحيميًا جديدًا في التراجيديا السورية عام 1963، إلى الوراء، لمحاولة فهم جذور المأساة، التي كانت دائمًا ما تترك أعنف تجلياتها على مدينة حلب، قبل أن يواصل الإيغال في رحلته العكسية في روايته الأخيرة "لم يصل عليهم أحد"، حتى الفترة ما بين نهايات القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، أي سوريا ما قبل البعث، ليرصد التنوع العقائدي والثراء الاجتماعي الذي حاصره التشدد الأصولي وصراع الهويات الممهدين لكل النوازل التي اجتمعت على البلد؛ مع كوارث طبيعية كالطوفان وطواعين وزلازل، كانت ما إن تقضي على طبقة من الرثاثة حتى تخلفها طبقةً أعمق من العفن.
لقد كان خيار الروائي الراحل الإبحار عكسًا عبر هذه الروايات، انطلاقًا من حلب لتتبع تراجيديا المدينة التي وصفها بذبيحة كل العصور؛ خاصةً وقد كان يعيش في قلب تراجيديا آنية تكتظ بفصولٍ لم تنته من الجحيم، لا يحتاج توثيقها لأكثر من عدسةٍ أو شاشةٍ أو نافذة، لكن الأخيرة كانت بحسبه "تراجيديا ضخمة ومنفتحة على كل المسافات، يصعب اختزالها في رواية أو أكثر، بل سيظل السوريون يكتبون عنها لألف عام ومن المبكر الكتابة عنها الآن".
لخالد خليفة روايتان أسبق من "مديح الكراهية" التي دشنته روائيا كبيرًا، أولاهما "حارس الخديعة" التي صدرت عام 1993، وكانت بحسبه "تصفية حساب مع الشعر"؛ إذ تمرد فيها على الأطر المعتادة لفن الرواية مطلقًا العنان للعب والتجريب، مدفوعًا بما وصفه بحماقة فائضة طالما حن إليها بعد ذلك، لكنه لم يستطع الاستسلام لها.
والثانية "دفاتر القرباط"، التي تناولت فاصلًا من حياة غجر سوريا، وما ارتبط بهم من غرائبية وبهجة واحتفاء بالحياة وأيضًا لعنات، بأسلوب يجمع الواقعي بالمتخيل، ويحتفي بالمكان وخصوصيته الثقافية النابعة من كونه قلعة أكراد سوريا في عفرين شمال حلب، ويعتمد بنية الحكي الدائرية، وتعدد مستويات اللغة.
صدرت هذه الرواية عام 2000، بالتزامن مع ظهور العمل الدرامي الأول الذي كتبه خالد للتليفزيون "سيرة آل الجلالي" وأخرجه مواطنه هيثم حقي، وتلته أعمال درامية وسينمائية ووثائقية أخرى، كـ "قوس قزح" ، و"ظلّ امرأة"، و"هدوء نسبي" و"العراب" وغيرها، قبل أن يتفرغ تمامًا للفن الروائي الذي كان يعتبر كل كتابةٍ دونه، بما فيها الشعر، تمارين أولية على اللغة وتقنيات الكتابة.
كان الراحل وفيًا للكتابة الأدبية، ومحظوظًا بكونه أحد الكتاب العرب القلائل الذين "أطعمهم الأدب خبزًا"، بعد أن عاين الفقر، في مرحلةٍ رغم قسوتها لم تحمله يومًا على المساومة، وكان وفيًا للحياة بقدر ما قارب الموت، وللأصدقاء العديدين رغم شكوته الدائمة من الفقد والوحدة، ومحبًا للطبخ والرقص والسفر والإقامة، وبرحيله المؤسي التأمت وجوهه العديدة هذه، وعاين الموت بوصفه ليس "غيابًا أبديًا" وإنما "اكتمال الذكريات".