يضم إرنست زوجته مولي إلى حضنه في لحظات مرضها القاسي، وبيده يعطيها الدواء. احتاجت مولي سنوات طويلة لتكتشف أن ما تتلقاه ليس إلا سم يستهدف قتلها بالبطيء. كان الزوج ينفذ خطة خاله التي نجح من خلالها في قتل جميع أفراد عائلة زوجته، ليرث أرضهم العائمة فوق ثروة هائلة من النفط، وتنتقل ملكيتها إلى المستعمرين الجدد؛ الأمريكان البيض.
في فيلمه الجديد "قتلة زهرة القمر"، يقدم مارتن سكورسيزي قصة رومانسية تلوثها الدم والخيانة، بلغة سينمائية ترصد جذور الشر الإنساني، دون أن تستغرق في استعراض مشاهد القتل، الذي دائمًا ما يأتي عبر خيانات متكررة، مفاجئًا، من الخلف.
عندما بدأ سكورسيزي التحضير لعمله الأحدث، المقتبس من كتاب ديفيد جرام، الصادر بالاسم نفسه عام 2017، كان يبتغي حكيه، ملتزمًا بالخط السردي للكتاب، من وجهة نظر رجال التحقيقات الفيدرالية الذين حققوا في جرائم قتل سكان الأوساچ بولاية أوكلاهوما في العشرينيات، لكنه قرر لاحقًا، أثناء جلسات العمل مع ليوناردو دي كابريو، أن يستبعد سردية "الرجل الأبيض المنقذ" ليمنح الأوساچ أنفسهم الفرصة لسرد القصة من منظورهم، لا كضحايا بل بشر. لكن هل خرج الفيلم كما خطط له سكورسيزي؟
في الواقع، يظهر الأوساچ في النص المرئي ضحايا مفعول بهم طوال الوقت، يتعرضون لقتل ممنهج في استسلام تام لقبضة الحكومة الأمريكية، راضين أن يكونوا "فاقدي الأهلية" فيسهل التحكم فيهم، كان ذلك واقعهم الفعلي، لكن المعالجة الدرامية عززت من شعور المتلقي بضعفهم واستسلامهم، وهو شعور استمر حتى نهاية الفيلم. وعندما عرفت مولي أن زوجها وخاله هما من قتلا أسرتها لم تفعل شيئًا، لم تثر، أدارت ظهرها ومضت في سلام.
أبيض ينظر وملون صامت
مثل أغلب أفلامه يحكي سكورسيزي أحداث "قتلة زهرة القمر" من وجهة نظر العصابة، وهو اختيار يمكنه من استعراض الشر المستتر وراء أناقتهم المزيفة، كما يتيح له كذلك كشف القتلة منذ البداية فيورطنا مسبقًا في إدانتهم، بينما تستمر قصة حب مولي وإرنست حتى نهاية الفيلم، كخيط رفيع يثير الأمان المزيف، لكنها تصبح مع انعدامه مشاهد تعذيب مستمرة.
خلق سكورسيزي في فيلمه "عصابات نيويورك" صراعًا بين عصابات المهاجرين القدامى والجدد إلى نيويورك، وهو صراع بين الأوروبيين على ملكية الأرض الأمريكية لتحديد ساكنها الأصلي؟ صراع بين الإيمان والشيطان، بين طرفين متكافئين في القوة، وهو مختلف تمامًا عن صراع سكان الأوساچ الهادئ، والحب السام بين مولي وإرنست.
يقع المُشاهِد في حيرة من أمره تجاه تلك العلاقة، فالحب قوي، بينما ينتفي الأمان، وتذبل زهرة مولي حتى الموت، والمتلقي الذي يعرف أكثر مما تعرف الشخصيات تربكه تحولات تلك العلاقة ووحشيتها، لأن إرنست ورغم كل جرائمه لا يزال يحب زوجته. السم في قصة الحب تلك مندس في العسل، ليكشف تناقض البطل الشرير الملتوي، وفي المقابل يخلق ضحية ضعيفة وهشة ومسلوبة القوة لكنه لا يصنع منها بطلة قوية.
لو أن سكورسيزي حكى الفيلم حقًا من وجهة نظر مولي، فإننا حتمًا سنشاهد وجهة نظر تمثل الأوساچ، وهي نظرة يمكنها أن تجيب على الأسئلة التي لم تحسم تمامًا، خاصة وأنها تعرف بمكر زوجها منذ البداية، فلماذا وقعت في حبه؟ كل المشاعر المكتومة لمولي كانت بحاجة للظهور على السطح لو أنها لم تكن ضحية دون صوت.
مقاطعة ومحاكمة
قبل إطلاق الفيلم انتشرت حملة على السوشيال ميديا لمقاطعته بسبب تصريحات باراماونت، الشركة الموزعة، الداعمة لإسرائيل. كانت الحملة من أولى الحملات الداعية لمقاطعة كل ما هو داعم رسمي للكيان المحتل، وما يثير التأمل هنا، هو أن ثمة مؤسسة تدعم قضية وتهاجم أخرى شبيهة في الوقت نفسه. هل علينا الفصل بين حسابات الفن وحسابات رأس المال؟
يعيد فيلم سكورسيزي كشف ما تم محوه من تاريخ أمريكا الفعلي المليء بالممارسات الاستعمارية والعنصرية، بهدف تلطيخ يد الرجل الأبيض بدماء ضحاياه حتى يتطهر من ذنب الماضي، وهو الشيء نفسه المميز لأفلام المخرج الأمريكي عمومًا: شخصيات تخطئ وأخرى تكفر عن آثامها.
وفي مفارقة غير محسوبة يتزامن عرض الفيلم المحتوي على تلك الرغبة التطهرية، مع دعم أمريكا للكيان الإسرائيلي في إبادته الفلسطينيين. ألا يبدو المشهد متناقضًا وسخيفًا؟
التشابه بين الماضي والحاضر يدفعني لقراءة منهجية المستعمر في التعامل مع سكان الأرض الأصليين، سواء كانوا الأوساچ أو الفلسطينيين.
السلطة في يد المستعمر
حتمًا لا يشعر الأثرياء بالعجز أو فقدان السيطرة، فالمال قوتهم، والانحدار من سلالة غنية وامتلاك أراضٍ يسبح تحتها البترول يمنحهم امتيازات اجتماعية، والمستعمر بدلًا من منح أثرياء الأوساج امتيازات يعاملهم باعتبارهم "فاقدي الأهلية".
نرى ذلك في مشاهد مولي التي تذهب فيها إلى الوصي القانوني كلما احتاجت أن تصرف من مالها، والوصي رجل أمريكي أبيض، يتعجب من مصروفاتها ويلمح إلى أنها مبالغة وسفيهة. لا يدافع الأوساج عن ممتلكاتهم، رغم أن ذلك وضعهم لسنوات طويلة. والمستعمر يسلب منهم مصادر قوتهم ليستمر في طغيانه.
يمكننا مقاربة المنطق الاستعماري نفسه بوضع الدولة الفلسطينية الذي يبدو تحكمها في جزء من أراضيها ظاهريًا، لكنها في حقيقة الأمر لا تتحكم في شيء، بل محاصرة في سجن كبير.
كتابة التاريخ
يبدو سؤال "من يملك السلطة" مشروعًا، في حين تشرح إجابته الكثير. ولأن السلطة في يده فإن المستعمر يكتب التاريخ من وجهة نظره ويمحو ما يناهض صورته المثالية، وعلى صعيد آخر يسعى لتدمير صورة المُستَعمر، فيصف الأوساچ بأنهم همج وغير متحضرين كأنه بذلك يبرر وحشيته. وهي الأوصاف العنصرية الاستعمارية نفسها التي تبرر الحرب على فلسطين. حرب الإنسانية ضد البربرية.
التاريخ يكتب من جديد، بينما تحتاج الحكاية الأصلية وقتًا طويلًا حتى تطرح نفسها في مقابل الزائفة. فكتاب قتلة زهرة القمر المقتبس منه الفيلم كُتب بعد قرابة مائة عام من جرائم إبادة الأمريكان للأوساج.
يقول روبرت دي نيرو إن الأمريكيين أصبحوا أكثر وعيًا بالعنصرية النظامية بعد جورج فلويد. قُتل جورج، الأمريكي من أصول إفريقية، على يد رجال الشرطة البيض وكان هذا الوعي المتأخر الذي يقصده دي نيرو في عام 2020.
التطهير العرقي
يشرح إيلان بابيه منهجية تطهير الفلسطينيين ويعرِّف "التطهير العرقي" بأنه "سياسة محددة جيدًا لدى مجموعة معينة من الأشخاص تهدف إلى إزالة منهجية لمجموعة أخرى عن أرض معينة على أساس ديني أو عرقي أو قومي، وتتضمن هذه السياسة العنفَ وغالبًا ما تكون مرتبطة بعمليات عسكرية ويتم تنفيذها بكل الطرق الممكنة".
وهي منهجية القتل نفسها التي شاهدناها في الفيلم، وإن بدت تخطيطًا فرديًا ولكنها في الوقت نفسه تمثيل للقتل الممنهج للأوساچ بهدف الاستيلاء على الأرض والممتلكات. ويبدو اختيار ويليام لابن أخته إرنست منطقيًا فهو عائد لتوه من الحرب العالمية الأولى، وكأن جذور القسوة ووحشية الحرب الطازجة، تعميان قلبه، وتمكنانه من القتل دون تفكير.
الزواج السياسي
تكرار زاوج الأمريكيين من نساء الأوساچ بدا نوعًا من المصاهرة التي يشوبها التساؤل، وهو ما فهمناه في الفيلم كمحاولة منهم لتوطيد العلاقات وتثبيت أقدامهم، فبالمصاهرة نرث الأرض. ولا تختلف الفكرة كثيرًا عن التطبيع الذي يورط الدول في علاقات اقتصادية ودبلوماسية مع العدو لتحقيق المصالح المشتركة، وعليه تتزايد قوة المستعمِر.
يختم سكورسيزي الفيلم بمشهد مسرحي يظهر فيه بنفسه ليسرد مصائر الشخصيات، نهاية خارج إطار الفيلم لكنها تعيدنا إلى أن الحياة تمضي بهزلية وعلينا في النهاية أن نصفق تكريمًا للحكاية التي لم يحكها لنا التاريخ بإنصاف. وهكذا كل شيء ينتهي ببساطة، والقتلة لم ينالوا العقاب الرادع فالرجل الأبيض يتحايل دائمًا، حتى اليوم، لينتصر.
ليس سكورسيزي وحده من أقدم على إنجاز فن يعيد إبراز التاريخ الدموي الأمريكي أو سرد التاريخ من وجهة نظر مختلفة، فثمة أفلام أخرى تتجه نحو قراءة التاريخ من زاويا أخرى، مثل أوبنهايمر، الذي يعيد سرد ما وراء قصة اختراع القنبلة الأمريكية وإلقائها على اليابان. تلك التجارب السينمائية وغيرها تجعل الفن يبدو وكأنه اليد التي تكفر عن ذنوب السياسات الاستعمارية الكبرى، فيما أنها لا تزال مستمرة، وتأبى أن تدفع الثمن.