تصميم: أحمد بلال- المنصة
هل أراد نولان رسم خط واضح بين العسكري والعالِم؟

أوبنهايمر.. لماذا لم ينته العالم حتى الآن؟

منشور السبت 26 أغسطس 2023 - آخر تحديث الأحد 27 أغسطس 2023

بمجرد انتهاء فيلم أوبنهايمر، الذي شاهدته حسب التوصيات في سينما IMAX للحصول على "التجربة كاملة"، تراجعت أحداثه لصالح ما أعرفه مسبقًا من تسلسل للوقائع في الحقيقة. مثّلت لحظة القنبلة الذرية ورحلة تصميمها، بفضل مشروع مانهاتن، واحدة من القصص المبهرة بالنسبة لي، ولفترة طويلة غرقت في تفاصيلها العلمية والسياسية وشخوص أبطالها العجيبة. 

ليس هذا ريڤيو للفيلم إذن. تجربتي مع أوبنهايمر، الفيلم* لا الشخص، انتهت بمجرد خروجي من السينما التي كانت ممتلئة عن آخرها بمشاهدين أغلبهم من الشباب، لم يعاصر أيّ منا عالم القنبلة الذرية بطبيعة الحال، ولم نعاصر حتى تبعات إلقاءها، أو العالم الذي تلا كل ذلك. لكن هذا لا يجب أن يحجب عنّا فكرة أنَّ كل ما يحيط بنا، أي هذا العالم الذي نعيش فيه كلنا، هو نتيجة مباشرة لتلك اللحظة التي وقعت على بعد آلاف الأميال ليصل مداها إليَّ ومَن حولي، بعد عدة أجيال.

انتهى الفيلم بعد ثلاث ساعات، لكن أسئلته بقيت معي. ورغم أن جرعة الإبهار البصري كانت أقل من أعمال كريستوفر نولان السابقة، فإن أثره كان أقوى وأعمق. وجاءت الموسيقى في بعض اللحظات، أو غاب الصوت تمامًا في أخرى، ليجعل ذلك الأثر أكثر تركيزًا؛ وربما كان ذلك هو السبب الذي جعل هواجسي الأولى تتخذ سريعًا شكل أسئلة وأفكار واضحة.

ترايلر فيلم أوبنهايمر لكريستوفر نولان


لماذا نصفّق للقنبلة؟

أول الأسئلة مثلًا، هو السبب الذي جعل الناس يصفقون في السينما عند مشهد نجاح تجربة "ترينيتي"، أول انفجار نووي في التاريخ. أخبرني كثير من الأصدقاء بذلك، أنا نفسي سمعت ما يشبه التصفيق في السينما، لكني لم أنتبه كثيرًا.

حكى بعضهم عن الاستغراب الذي داهمهم وهم يرون أمامهم مشاهد تصوّر اللحظات الأولى لمولد قنبلة ذرية في هذا العالم، بينما التصفيق يدوي حولهم. هل جُنَّ الناس؟

لا. لم يُجنّوا بعد.

صفّق الناس لأن الفيلم أخبرهم أن وقت التصفيق والتهليل قد حان. لأن أدواته، بحسب تعبير محمد المصري، السيناريست والكاتب، دفعتهم دفعًا إلى تلك المساحة. وهو على حق في ذلك، لكن نقطة اختلافي الأساسية مع هذه الفكرة هي أن الفيلم أيضًا سيستخدم أدوات أخرى ليقول العكس بالضبط. أنَّ هناك كارثة قد وقعت في هذا العالم. 

في النصف الأول من الفيلم، وعلى طريقة أفلام الأكشن، نشاهد أوبنهايمر يجمع فريقًا خارقًا من أنبغ العقول العلمية في عصره، للمشاركة في مختبر سري سيحمل اسم "لوس ألاموس"، أنشأه مشروع مانهاتن الشهير، الذي تولى مهمة إنتاج القنبلة الذرية في أسرع وقت، قبل أن يصل النازيوّن إليها.

خلال الحرب العالمية الثانية، تولت جامعة كاليفورنيا، فرع بيركلي، إدارة هذا المختبر، الذي اختير مقره في منطقة بعيدة من ولاية نيومكسيكو، تحديدًا في صحراء تحمل اسمًا أطلقه عليها المستعمرون الأسبان الأوائل، خورنادا ديل مويرتو/ Jornada del Muerto، وترجمتها طريق الرجل الميت. من كان ليتوقع، صح؟ لا للمجاز طبعًا وللإغراق في العلامات. لكن المفارقة أوضح من أن نتجاهلها، بل إن تجاهلها ربما سيثير السخرية أكثر.

على كل حال، في تلك المشاهد، أعني مشاهد تكوين الفريق، نشاهد الخلطة المعتادة لأفلام الأكشن، وبطريقة لا تختلف كثيرًا عن سلسلة أفلام Ocean's مثلًا، أو Justice League. أنت تملك العلم، فهنيئًا لك به، تعال معنا لنبني قنبلة ذرية نحارب بها النازيين.

وعلى امتداد سلسلة من المقابلات مع العلماء، لتكوين فريق الأحلام الذي سينقذ العالم من النازي، نرى استعراضًا عامًا لمشهد الفيزياء في تلك اللحظة من الزمن، ما الذي يستطيع كل واحد من هؤلاء أن يفعله؟ وكيف يمكنه أن يساعدنا؟

لا ينبغي أن تفوتنا حقيقة أن مبتكر القنبلة الذرية هو الجيش الأمريكي في النهاية، لم يكن "العلماء" من فعلوا ذلك بالمعنى الذي نعرفه

واحدة من التغريدات التي أضحكتني كثيرًا على تويتر، رحمة الله عليه، إكس حاليًا، كانت تقول إن منهج فيزياء الثانوية العامة كله في الفيلم، وإنك ستجد أمامك كثيرًا من الثوابت والقوانين الفيزيائية التي درستها، متمثلة في العالِم الذي توصل إليها أو وضعها. هذه ملاحظة ذكية طبعًا، لا مضحكة فحسب. لأنه من المهم أن ننتبه هنا لكون تلك الفكرة التي تدور الأحداث حولها، أي تحرير الطاقة النووية، كانت السؤال الأهم لعلم الفيزياء وقتها.

سيستمر التصاعد الدرامي وتوظيف الموسيقى بشراسة في أحداث تطوير القنبلة الذرية، ومثل أي بناء درامي أصيل، نشاهد التعقيدات التي يواجهها العلماء، ومعظمها دقيق لدرجة تثير الإعجاب. معضلات علمية، ألغاز من العيار الثقيل، كيف يمكن للأشياء أن تحدث؟

هناك معضلات لوجستية أيضًا، معظمها بدوره دقيق لدرجة تثير الإعجاب، أمطارٌ تسقط في ليلة التفجير، ومخاوف من الفشل. تخيّل ما الذي كان سيحدث لأوبنهايمر لو فشلت تجربة ترينيتي. تخيّل ما الذي سيحدث للعميد ليزلي جروفز (مات ديمون) لو لم تنفجر القنبلة. كل هذه المخاوف تدور في الخلفية وأنت تشاهد مشاعرهم على الشاشة. أنت معهم بطبيعة الحال. الفيلم يضعك معهم.

من المفيد هنا الإشارة إلى أن تطوير القنبلة الذرية في تلك اللحظة كان معضلة هندسية أكثر منها فيزيائية، بمعنى أن اكتشافنا لإمكانية شطر النواة من ناحية فيزيائية، جعل السباق يتجه بالكامل نحو الجوانب التقنية الهندسية والوصول إلى أحسن طريقة لفعل ذلك.

لكن الفيلم لا يُولي اهتمامًا كبيرًا للتفريق بين الأمرين، يختلط الهندسي بالفيزيائي والعكس بالعكس. لا ينبغي أن تفوتنا حقيقة أن مبتكر القنبلة الذرية هو الجيش الأمريكي في النهاية، صحيح أن ذلك حدث اعتمادًا على مجموعة من النظريات والأفكار الفيزيائية، لكن لم يكن "العلماء" هم من فعلوا ذلك بالمعنى الذي نعرفه. تطلّب الأمر إمدادات وميزانية مهولة.  

علماء خارقون

تمتد محاولة الفيلم لوضعك بين العلماء حتى على مستوى المظهر. في مشاهد الفيلم الأولى، نرى أوبنهايمر مرتديًا لزي عسكري أشبه بالكشّافة، يتجوّل كالأبله في نواحي لوس ألاموس. لكنه يخلعه، إثر ملاحظة من أحد زملائه.

وفي مشهد يشبه المشاهد التي يرتدي فيها الأبطال الخارقون ملابس شخصيتهم الخارقة، نراه وهو يرتدي بذلته ويحكم قبعته الأيقونية فوق رأسه. وكأن تحوّلَ أوبنهايمر اكتمل أخيرًا والحمد لله، ها قد دخل شخصيته الخارقة. ظهر باتمان في المدينة، واختفى بروس واين.

مساحات التأويل هنا واسعة. هل أراد نولان رسم خط واضح بين العسكري والعالِم؟ هل ينفي عن أوبنهايمر صفة التوّرط العسكري، فيحيله مدنيًا يمشي في معسكر؟ لا أعرف فعلًا، ولا أريد التوّرط بإجابات، لكننا نشاهد أوبنهايمر بعد ذلك وهو يمشي في المعسكر/ المدينة المرتجلة كما يمشي الشريف/The Sheriff في أرجاء بلدته بالغرب الأمريكي، يداه على وسطه والغليون في فمه، أحيانًا فوق حصانه كذلك. استوقفتني تلك المشاهد بحد ذاتها. القبعة كذلك.

بالمناسبة، تنتمي هذه القبعة إلى نوع كلاسيكي يُطلق عليه الفيدورا، حظيت بنجاح واسع في فترة العشرينيات والثلاثينيات. وكانت علامة من العلامات البصرية لشخصية أوبنهايمر في الحقيقة، وفي فيلم نولان.

ترايلر آخر لفيلم أوبنهايمر لكريستوفر نولان


في الفيلم قبعة أخرى ذات دلالة؛ قبعة أينشتاين. نراها تسقط من على رأسه في أول لقاء مع أوبنهايمر. يبدأ المشهد بأوبنهايمر يمشي في ساحة خضراء باتجاه أينشتاين، الواقف أمام بحيرة شارد الذهن، ثم نرى قبعة الأخير وهي تطير بفعل الريح لتسقط على الأرض. يلتقطها أوبنهايمر وينفضها ثم يعيدها له.

قبعة أينشتاين هي الأخرى تنتمي إلى الفيدورا، في الحقيقة وفي الفيلم. كان نوعًا شائعًا وقتها. هل لذلك أي دلالة؟ ممكن. لكن ذلك المشهد كله يحدث بعد حوار يدور بين ستراوس وأوبنهايمر، يقول فيه الأول إن أينشتاين هو أعظم عقل علمي في هذا الجيل، ليرد أوبنهايمر  مُصححًا "في جيله"، مشيرًا إلى أن أينشتاين نشر ورقته البحثية الأهم قبل أربعين عامًا من تلك اللحظة.

نشر أينشتاين ورقته الأولى عن النسبية الخاصة عام 1905، لتحتل مع الوقت موقعًا مركزيًا في عالم الفيزياء الحديثة. يمكننا وصف هذه الورقة بالأهم في تلك المساحة على الإطلاق، من ناحية الشهرة والتأثير. كانت هذه لحظة تغيّر فيها وجه الفيزياء الكلاسيكية بالمعنى المباشر، ولحظات كهذه لا تتكرر كثيرًا في عالم العلوم.

بعد عشر سنوات، نشر أينشتاين ورقته البحثية الثانية، عن النسبية العامة، التي ضمّنها أفكاره عن الجاذبية هذه المرة. بهاتين الورقتين احتل أينشتاين المركز، متجاوزًا حتى مساحات العالِم التقليدية، ليصبح شخصية عامة، مؤثرًا/influencer، لو كان لنا أن نستخدم هذه الكلمة الآتية من عالم الإنترنت.

وحتى الآن، لا تزال أشياء مثل صورة العالِم وهيئته الخارجية من الشعر المنكوش، السرحان المستمر، التوهان في خارج المعمل، مزيج الانبهار والسخرية من غرابة الأطوار وحِدتها، مرتبطة بأينشتاين نفسه. أينشتاين في تلك اللحظة كان هو العالِم. صورة وجوهرًا، بالتعريف.

رسالة من فاعل خير

في الثاني من أغسطس/آب من عام 1939، قبل شهر واحد من اندلاع الحرب العالمية الثانية، كتب عالم الفيزياء ليو زيلارد ذو الأصول المجرية، رسالة إلى الرئيس الأمريكي وقتها فرانكلين روزفلت، يطلب منه توجيه اهتمام الولايات المتحدة ومواردها لبدء مشروعها النووي. جاءت تلك الرسالة على خلفية ما تواتر من أخبار حول قدرة النازيين على تطوير قنبلة ذرية، وهي كارثة حقيقية؛ نازي يحمل قنبلة ذرية.

لم يكن زيلارد وجهًا معروفًا في تلك الأوقات، ليس لدرجة توجيه رسالة إلى الرئيس الأمريكي بنفسه، ولذلك السبب استعان بألبرت أينشتاين، النجم، للتوقيع على تلك الرسالة.

تتفق كثير من الأدبيات العلمية على كون زيلارد هو أول شخص يقترح فكرة التفاعل النووي المتسلسل عام 1933، بعد فترة قصيرة من اكتشاف النيوترونات. اقترح زيلارد أن هناك أساسًا نظريًا يسمح لنا باستخدام النيوترونات في إحداث تفاعل نووي متسلسل، وهو الأساس الذي قامت عليه فكرة تفجير القنبلة الذرية أصلًا.

لكننا لا نعرف ذلك بعد. نحتاج إلى المزيد من الوقت. على الأقل حتى يهرب زيلارد من أوروبا، ويذهب إلى الولايات المتحدة، حيث سيرسل رسالته إلى الرئيس الأمريكي مُحذرًا من خطورة امتلاك النازيين لهذا السلاح.

هذه الرسالة بالتحديد، المعروفة الآن باسم "رسالة أينشتاين – زيلارد"، يُنسب إليها الفضل بالكامل في توجيه الأموال ناحية هذه المساحة، وقرار إنشاء مشروع مانهاتن الذي تمكّن في نهاية المطاف، على يد الفريق العلمي الذي يقوده أوبنهايمر، من تطوير القنبلة الذرية، التي لم تُلق على أي مدينة ألمانية، لأن ألمانيا كانت سُحقت وقت الانتهاء من تطويرها، فأُلقيت على مدينتين يابانيتين؛ هيروشيما، وناجازاكي.

رسالة ألبرت أينشتاين وليو زيلارد إلى الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت التي يحثانه فيها على الإسراع في امتلاك قنبلة ذرية.

الذين عاشوا في الخيال

نشر هربرت جورج ويلز، روايته العالم يتحرر عام 1914. يتفق كثيرون، وأنا معهم، على أن ويلز هو "أبو الخيال العلمي"، بالمعنى الحديث. صحيح أن كثيرًا من المحاولات الجيدة سبقته، لكنه كان من أخَذ ذلك النوع من الكتابة إلى طرق غير مأهولة. والأهم أن كتاباته كانت خيالًا علميًا فعلًا، بمعنى العلم الذي نعرفه الآن، لا هلوسات في الفراغ. أغلب ما كتبه ويلز اعتمد بصورة ما على ما كان يقرأه من علوم، وقد كان قارئًا نهمًا.

ليس لرواية العالم يتحرر حبكة ممتعة أو مختلفة، لكن المثير للانتباه هو ما يرد فيها عن نوع مختلف من الأسلحة، أكثر قدرة على التدمير، ولا يمكن التحكم فيه. تخيّل ويلز أن هذه القنابل ستعتمد في تصميمها على اليورانيوم، وأنها عند تفجيرها، ستستمر في الانفجار، سيولّد الانفجار انفجارًا آخر. التفاعل المتسلسل.

قرأ زيلارد ذلك الكتاب، وكتب في وقت لاحق أن هربرت جورج ويلز جعله يدرك القدرة التدميرية الهائلة التي يمكن أن يسببها تحرير الطاقة الذرّية.

لحظة كهذه تُغري بالوقوف عندها. لا أقول طبعًا إن ويلز كان مسؤولًا بشكل ما عن تطوير القنبلة من خلال قصة كتبها، ولا أحاول أبدًا أن أقارن بين ويلز، بوصفه أبًا للخيال العلمي، وأوبنهايمر، بوصفه أبًا للقنبلة الذرية، من حيث أن كليهما توصل إلى شيء لم يدرك كيف كان ليُستخدم.

فأوبنهايمر كان عالم فيزياء في النهاية، يعمل ضمن فريق تابع للجيش الأمريكي، بهدف تطوير قنبلة مهولة التدمير. نجح أوبنهايمر في ذلك، وإن كان السؤال عن مسؤوليته الأخلاقية لا ينتهي. وهو ما يشير إليه الفيلم سريعًا، ودون تركيز، في أكثر من مشهد.

الأب مرتبكًا

هنا يتجلى ارتباك الفيلم في رأيي. فإصرار نولان على تبني طريقته التقليدية في العبث بالسياق الزمني للأحداث، ودمج القصص، مع تغيير لون الشاشة إلى الأبيض والأسود في أوقات بعينها، أدى إلى عجز عن فهم الموضوع الذي يتحدث عنه الفيلم بالضبط.

هل هو أوبنهايمر نفسه، شعوره بالذنب بعد إطلاق العنان لهذه القوة التدميرية الهائلة؟ أم عن المكارثية وما فعلته بأمريكا؟ أم عن مسؤولية العالِم الأخلاقية أمام التاريخ، حسبما يقول نولان نفسه في عدد من لقاءاته، مشيرًا بالتحديد إلى أنه أخرج الفيلم وعينه على ما نعيشه الآن من لحظة مماثلة مع الذكاء الاصطناعي.

في الغالب أراد نولان أن يتحدث عن كل ذلك، لكن النتيجة الطبيعية كانت أن خطوطًا مهمة وأساسية في الفيلم غابت عنّا تمامًا لصالح الهوس بالتوثيق.

لا نعرف مثلًا السبب الأصيل وراء البغض الشديد الذي يكنه لويس ستراوس لأوبنهايمر، والتي يظهرها الفيلم واضحة أثناء جلسة الاستماع الأمنية. يقول لنا الفيلم إن السبب في ذلك هو ظن الأول الخاطئ بأن أوبنهايمر أوقع به عند أينشتاين وأوغر صدره، وسخر منه علنًا. لكن هل يمكن لهذه الأسباب وحدها أن تبرر العداوة الشديدة الذي تُذهل المرء عن نفسه؟ والتي أداها روبرت داوني جونيور ببراعة مدهشة، رغم غياب السبب الذي يجعلها منطقية؟

يرفض ترومان أي تشكيك في "امتلاكه" للقنبلة. صحيح أنت اخترعتها أيها العيوّطة، لكنني أنا من فعلت بها الأفاعيل

لم يتطرق الفيلم لقرار أوبنهايمر الذهاب إلى جلسة الاستماع بخصوص إلغاء تصريحه الأمني، رغم أن الحقائق تخبرنا أن ذلك التصريح كان سينتهي بعد أسبوعين. لماذا ذهب إلى تلك الجلسة، وكان بإمكانه الرفض؟ لماذا اختار الذهاب طوعًا؟ ما الذي يقوله ذلك عن تلك الشخصية الفخورة بنفسها والمثقلة بما فعلت؟

ظني أن أوبنهايمر كان بالفعل فخورًا باختراعه، القنبلة الذرية، ولذلك لم يبدِ أدنى إحساس بتأنيب الضمير في أي لحظة من اللحظات أو يتراجع عن "امتلاك" حقه فيه. حتى مع الشعور بالذنب الذي يُغرقه، وحتى في لحظة جلوسه أمام الرئيس الأمريكي ترومان، الذي أمر بإطلاق القنبلة.

يقول له أوبنهايمر في اجتماع طلبه بنفسه لمناقشة سعي أمريكا لامتلاك قنابل أكثر تطورًا، من بينها القنبلة الهيدروجينية، إنه يشعر بأن يديه ملوثتان بالدماء. لا يقول جملة كهذه إلا من يرى نفسه صاحب اختراع. يشعر بالذنب نعم، لكنه صاحب الاختراع.

يخرج ترومان منديلًا من جيبه بسخرية، ويرد بأنه هو من أمر بإلقاء القنبلة، وينعت أوبنهايمر بعد ذلك بأنه عيّوطة/cry baby، ويخبر مساعديه بأنه لا يريد لقاء هذا العالِم مرة أخرى. يدعي العلم ملكيته، وتقول السياسة هنا لا ينازعني أحد في مُلكي.

يرفض ترومان أي تشكيك في "امتلاكه" للقنبلة. صحيح أنت اخترعتها أيها العيوّطة، لكنني أنا من فعلت بها الأفاعيل. لكن الفيلم للأسف لا يستثمر هذه اللحظات في سياق أوسع. ولا يتطرق إلى مسؤولية الطرفين. كانت فرصة ذهبية في رأيي، خاصة حين وضعها بجوار أحاديث نولان نفسه، لكنها ضاعت.

عبر الراديو

بعد نجاح تجربة "ترينيتي"، وقرب نهاية الحرب العالمية الثانية، نرى أوبنهايمر محمولًا على الأعناق، يلوّح بقبعته للحشد حوله، وخلفه يرفرف العلم الأمريكي. يملؤني المشهد بالقرف.

لكن ذلك المشهد له نظيره. يدخل أوبنهايمر إلى قاعة ممتلئة بالجماهير المنخرطة في احتفال هيستيري. أبناء قريته الوهمية في قلب الصحراء. الثيمات الصوتية التي تتكرر طوال أحداث الفيلم تتضح أبعادها الآن. نعرف من أين تصدر. خبطات أقدام عنيفة على الأرض، تشبه المارشات التي تصاحب خطوات الجنود. يقف أوبنهايمر على المنصة ليلقي خطابه الاحتفالي.

أحد أفيشات فيلم أوبنهايمر لكريستوفر نولان

يقول كلمات مثل "ليت الألمان لم يستسلموا، لكنا ألقينا القنبلة عليهم". يكرر كلمات المجد والانتصار. لكن الكاميرا تكشف أمامنا عن أن ما يراه ليس هو ما يقوله. يشاهد أمامه وجوه الناس المنتشية متوحشّة الانتصار وهي تنصهر متفسخّة. يسقط الجلد عنها، وكأنها هي التي تتعرّض للانفجار النووي.

لا يعرض الفيلم مشهدًا واحدًا لضحايا الانفجار النووي، سواء في هيروشيما أو ناجازاكي، المشهد السابق هو الوحيد الذي نشاهد فيه أي ضحايا من أي جهة، وهم ضحايا خياليون، لكنه مقلوب المشهد الذي يُفترض عرضه. لأن كل شيء يحدث في رأس أوبنهايمر.

وحتى عندما يجلس أوبنهايمر في قاعةٍ لعرض نتائج القنبلة الذرية، نراه مشيحًا بالنظر. بينما تنعكس أضواء الشاشة على وجهه.

نولان نفسه تحدث عن المسألة، في حديثه مع تشاك تود. من ناحية تاريخية، عرف أوبنهايمر بخبر القنبلة النووية عبر الراديو، مثله مثل أي شخص آخر يعيش تلك اللحظة من تاريخ العالم.

حبكة الفيلم الأساسية إذن ليست عمّا إذا كان قرار إسقاط القنبلة الذرية على هيروشيما وناجازاكي، والتي قتلت ما يقارب نصف مليون إنسان، قرارًا ضروريًا لإنهاء الحرب. يُهمّش هذا السؤال بكل تعقيداته، ونكتفي بملامح وجه كيليان ميرفي المثقلة بالرعب وتأنيب الضمير، وعيناه الثاقبتان الهلوعتان، لصالح التركيز على الحملة الرهيبة التي تعرّض لها أوبنهايمر، والتي اتهمته بالعمالة للسوفييت، أو التعاطف معهم في أفضل الأحوال، ولصالح الصراعات المكتومة والمُعلنة بينه وبين ستراوس.

وحتى عندما ينتهي الفيلم بمشهد لأوبنهايمر وهو يختبر ما يُشبه الرؤيا، تعم فيها النيران كوكب الأرض كله، فإننا لا نعرف بالضبط ما الذي يحاول نولان أن يقدمه لنا. لم ينته العالم فعلًا. تقول الحقيقة إنه لم ينته. حتى الآن. حتى مع المخاطرة بأن يحدث ذلك في أي وقت، حتى مع إمكانية حدوث ذلك، على يد التعديلات الجينية غير المنضبطة؟ الذكاء الاصطناعي؟ التغيّر المناخي؟ الاستنساخ؟ جنون البقر؟ فيروس كورونا؟

لم ينتهِ العالم. في كل مرة استطاع البشر أن يبتكروا طرقًا جديدة للتعامل مع الواقع الذي يحيط بهم. لم يكن الحظ وحده. لكن الاعتماد على كون البشر يجدون طريقة دائمًا هو عين الحماقة. تلك الفكرة بالضبط هي التي ربما منعتنا من الوصول إلى عوالم أكثر عدلًا وأمنًا.

نحن مسؤولون عمّا فعلناه بأيدينا في هذا العالم منذ امتدت مساحات سيطرتنا عليه. إدراك ذلك مهم، حتى لو كنت مثلي، مواطنًا من مواطني دول العالم الثالث، لا أوروبيًا ولا أمريكيًا، يدخل فيلمًا عن رجل عاش في القرن الماضي، وأشرف على تصنيع قنبلة ذرية، شكّلت العالم الذي نعرفه الآن.


* يكاد الفيلم يكون تمثيلًا دراميًا شديد الإخلاص للكتاب المقتبس عنه؛ بروميثيوس الأمريكي: أمجاد جي روبرت أوبنهايمر ومأساته/American Prometheus: The Triumph and Tragedy of J. Robert Oppenheimer، للمؤلفين كاي بيرد، ومارتن شيروين، 2005، الفائز بجائزة البوليتزر عن فئة الأعمال غير الأدبية في 2006.