"ضيّعت عمري في الفضا!"
باظ يطير، لعبة، فيلم حكاية لعبة
في اللقاء الأول بين وودي الكاوبوي وباظ يطير في فيلم حكاية لعبة، تظهر واحدة من عُقد الفيلم الأساسية، التي ترتبط بشخصية باظ يطير تحديدًا.
عالم الفيلم المعروض منذ اللحظة الأولى، هو عالم ليست الألعاب فيه ألعابًا بالمعنى المفهوم، بمعنى أن الحياة تدبّ فيها، محققة واحدًا من أهم أحلام الطفولة، بمجرد أن تتأكد من عدم وجود من يراها. كل الألعاب تعرف ذلك، وكلها تلتزم بهذا التصوّر عن الذات، وبالتوقف عن الحركة بمجرّد دخول إنسان للمكان، وكلها تعرف أنها ألعاب، مثال لشيء حقيقي.
الكلب ليس كلبًا حقيقيًا، هو جسم بلاستيكي على صورة كلب، شريف الغرب الأمريكي، الذي يحمل اسم وودي، ليس رجل إنفاذ قانون حقيقي، لكنه لعبة أكشن فيجر بلاستيكية على هذه الهيئة. كل الألعاب تعرف ذلك عن نفسها. إلا باظ يطير.
مأزق باظ يطير، الذي نتورّط فيه منذ اللحظات الأولى، هو اقتناعه الكامل بأنه رائد فضاء حقيقي لا مجرد لعبة عادية، بل وليس أي رائد فضاء، بل رائد فضاء مهم ذو حيثية. عضو في الهيئة الكوكبية لجوّالة الفضاء، يحمي المجرّة من تهديد غزو الإمبراطور زورج، العدو اللدود للحلف الكوكبي. مشكلة كبيرة طبعًا.
ما السبب الذي جعل باظ يطير، دونًا عن الألعاب كلها، يتورّط في هذه الضلالات بالكامل ويصدقها؟ سؤال مهم لا توجد إجابة واضحة عليه في الفيلم. لكن عيوب الإنتاج واردة دائمًا، ومن خط إنتاجٍ فيه آلاف الألعاب، سنجد لدينا لعبة أو اثنتين تعتقد أنها رائد فضاء أو حتى موظف في مديرية الصحة. الخلل وارد عامة، ولابد أن هناك ألعابًا أخرى في أماكن أخرى لم يسعدنا الحظ برؤيتها، تعتقد أشياء أغرب.
طبعًا نحن تجاوزنا منذ زمن موضوع أن الألعاب تتحرّك حينما لا نراها، وأصبح ذلك في حكم الحقيقة. لا داعي للتساؤل الآن عن صحة هذا الاعتقاد. فقد اتفقنا عليه، واتفاقنا عليه يعني أن الواقع قد اصطبغ بصبغته. وعلى المتضرر أن يخلق لنفسه ضلالات أخرى.
أما عن العقدة الأساسية في الفيلم، فهي أن وودي يشعر بالغيرة من باظ يطير، لأن وودي كان لفترة قريبة هو اللعبة المفضلة عند الطفل آندي. لكن ذلك تغيّر تمامًا مع وصول باظ. انبهر الطفل بباظ يطير، بأجنحته البلاستيكية التي تنفرد عند الضغط على زر ما، بالليزر المدمّر الذي يطلقه من يده. ترك وودي، اللعبة القماشية، على الرف، "مع السلامة يا وودي"، تعال يا رائد الفضاء لنغامر في المجرّة ونحميها من هجمات الإمبراطور زورج. قصص رعاة البقر ليس لها مكان هنا.
نشهد ذلك التوتّر بين اللعبتين في وقت مبكّر جدًا من الفيلم. وودي غيران، وغاضب، ويشعر بالتهديد. يمسك بالأجنحة الملحقة ببذلة باظ الفضائية ويهزّها قائلًا للألعاب المتحلقة حولهما انبهارًا: "دا مجرد بلاستيك". يعترض باظ طبعًا، كما يليق برائد فضاء يتعرّض للاستهزاء، ليقول إن هذه الأجنحة مصنوعة من سبيكة خاصة من كربونات التريليوم. ليست هذه مادة حقيقية بالمناسبة، لا يوجد شيء اسمه كربونات التريليوم. لكن ربما هي موجودة في عالم ضلالات باظ. ولا أعرف ما الذي يجعلها أقل حقيقيّة.
كان ماركو بولو جاهزًا لرؤية اليونيكورن، فرآه
في واحد من مشاهد الفيلم، وبعد أن تعقدت الأمور، وأصبح وودي وباظ سجينين في بيت يطاردهما طفل مخبول يحاول تدميرهما، يجد باظ يطير شباكًا مفتوحًا. ينظر له بفرح شديد، أخيرًا! شباك!
مشاعر باظ هي السعادة الواضحة، انتهت المشكلة، سأطير إلى الشباك، وسأخرج من هذه المزبلة. أنا رائد فضاء يستطيع الطيران، وهذا شباك يمكنني الطيران عبره والهرب. نعرف كلنا ما سيحدث، تمامًا. لكنه لا يعرف أي شيء بعد. يقف فاردًا ظهره وذراعيه على درابزين السلم، ويقفز ليبدأ رحلة طيران عادية كما يفعل أي رائد فضاء يستطيع الطيران، ثم يقع على الأرض كما يحدث لأي لعبة بلاستيكية لا تطير. ينتهي المشهد من الأعلى. نرى باظ على الأرض، مكسور الذراع.
يكتشف باظ أن اعتقاده بكونه رائد فضاء طول الفترة الماضية، هو اعتقاد خاطيء تمامًا، وكان في الحقيقة مبنيًا على مجموعة من الأفكار المغروسة في دماغه مُسبقًا.
بعد عدة مشاهد، يفقد فيها باظ عقله تمامًا بعد الصدمة التي تعرّض عليها، صدمة اكتشاف الحقيقة بأصعب طريقة ممكنة. يقول باظ، "ضيّعت عمري في الفضا!" في النسخة العربية الجميلة من الفيلم، وبأداء درامي واضح، تعليقًا على هذا الاكتشاف. تحمل الجملة تورية في كلمة "الفضا"، التي يمكن أن تأتي بمعنى: الفضاء، خصوصًا أنه كان يعتقد لفترة طويلة أنه رائد فضاء، في حين أن معناها الأصلي هو: الفضا. يعني الولا حاجة. وهي سخرية قدرية موفقة، تنقل باقتدار روح الكارثة التي يعاني منها.
المثير للتأمل بالنسبة لي، أن اللعبة التي لا تستطيع الطيران، تختار بالفطرة التلقائية أن تعبّر عن ضياع العمر في اللا شيء، بكلمة من صميم العالم الذي اكتشفت زيفه، بعد أن عاشت فيه طوال عمرها. وهي كلمة: الفضا. لأن اكتشاف الواحد لزيف عالم يعيش فيه، لا يعني التوقف عن كونه أسيرًا لهذا العالم، فيظل يستخدم مفرداته، لأن اللغة هي آخر ما يتحرر.
المألوف أقوى من الحقيقة حتى لو كان بالكامل ضلالات
سقط باظ يطير مرّتين إذن، المرة الأولى حين حاول الطيران بالفعل، فسقط وانكسر ذراعه البلاستيكي الأيسر، والثانية حين أراد التعبير عن ضياع عمره في خدعة كبيرة أقنع بها نفسه، فاستخدم نفس مصطلحات العالم المزيّف الذي عاش فيه مخدوعًا. هذه الجملة بالتحديد، تنقل كل هذا.
هذه الجملة التي لو كان رجل فضاء حقيقي قالها، لأصبحت تقديرًا حقيقيًا للعمر الذي ضاع في أمر جليل.
فاصل مع ماركو بولو
أيام العصور الوسطى، كان اليونيكورن حيوانًا مهمًا يحظى بشعبية في الخيال. اليونيكورن هو حيوان جميل، حصان له قرن، مشكلته الوحيدة أنه حيوان خيالي. لفترة طويلة آمن الناس وقتها في أوروبا بوجود حيوان يحمل هذه المواصفات. لكن أحدًا لم يره طبعًا. نعرف جيدًا الآن أنه لا وجود لحصان له قرن.
في أثناء رحلة عودة ماركو بولو من الصين، تحديدًا عند مروره بجزر جافا في إندونيسيا، شاهد ماركو بولو حيوانًا اعتبره اليونيكورن المنشود، الذي تبحث أوروبا عنه منذ زمن طويل. لكنه في كتاباته، لم يستطع إخفاء خيبة أمله، أثناء وصفه لهذا الحيوان: يشبه الثور، يملك جلدًا ثخينًا متغضنًا يشبه جلد الفيل، أسود اللون لا أبيض، وقرنه ليس ملونًا بألوان جميلة، بل هو قرن رمادي اللون ملوّث خشن.
حيوان لا يحمل أي مقومات جمالية تستحق الذكر. حيوان قبيح بصراحة، يا للأسى، مقارنة بالحيوان الجميل الذي تخيّله من الحكايات التي تملأ أوروبا. نعرف الآن أن ماركو بولو يصف وحيد القرن. الحيوان الذي لا يملك أي مواصفات جمالية من أي نوع.
رأى بولو حيوانًا له قرن، فلم يجد إلا طريقة تعبير واحدة: يونيكورن.
كان ماركو بولو جاهزًا لرؤية اليونيكورن، فرآه. كان مستعدًا لذلك، لكنه رآه في حيوان آخر. كان جاهزًا لرؤية حيوان يملك مواصفات معينة، فأسقط تلك المواصفات على أول حيوان يشبه، من بعيد، ما سمعه في طفولته وشبابه. لم يكن يعرف أنه يشاهد أمامه نوعًا مختلفًا تمامًا، لا علاقة له بالحيوان الذي في خياله. لكن وبما أنه لا مفر للمرء من نفسه، لم يستطع استحضار وصف جديد، فاضطر لاستعارة وصف مما يعرفه. مما يألفه. من العالم الذي جاء منه.
عودة إلى باظ المنقذ
وحين قرر باظ يطير أن يُعبّر عما يشعر به تجاه قناعته الراسخة بكونه رائد فضاء، لم يجد إلا ألفاظًا من ذلك العالم الذي يألفه، حتى لو كان عالمًا غير حقيقي على الإطلاق. المألوف أقوى من الحقيقة في تلك اللحظات، حتى لو كان المألوف ضلالات بالكامل.
لكن ربما في تلك اللحظة، التي أعلن فيها باظ يطير أنه قد ضيّع عمره في الفضاء، كان باظ أقرب ما يكون بالفعل إلى رائد فضاء حقيقي.