تصميم أحمد بلال- المنصة
الاكتشافات العلمية الكبيرة التي استطاعت البشرية التوصّل إليها لم تكن وليدة صدف من نوع ما

عن لحظة تردد فاتنة

منشور السبت 22 أبريل 2023 - آخر تحديث السبت 22 أبريل 2023

في رسالة يرجع تاريخها إلى عام 1754، كتب السياسي الإنجليزي هوراس والبول رسالة إلى أحد أصدقائه، يحكي له فيها عن اكتشافه للوحة مفقودة لم يكن يتوقع العثور عليها أبدًا. وللمرة الأولى، حسبما هو مُسجل على الأقل، استخدم والبول تعبير serendipity، لوصف ما حدث، الذي يمكن ترجمته، بدرجة ما من التجاوز، إلى الصدفة السعيدة التي يقابلها المرء دون سعي أو بحث منه.

لكن أليست كل الصدف كذلك؟ هنا يكمن الارتباك الذي يحمله معنى الكلمة، الذي يفترض أن يشير بالتحديد إلى نوع الصدف الذي يخرج حتى عن المألوف أو المعتاد، أن يذهب المرء للصيد فيجد حب حياته، أو أن يذهب إلى المقهى فيكتشف نظرية في علوم الفلك. هذه هي السرنديبية.

كان والبول في رسالته، يحيل إلى حكاية شعبية فارسية، تحمل اسم "أميرات سرنديب الثلاث"، وتتكرر فيها تلك الثيمة؛ أن تكتشف واحدة منهن أشياء عجيبة ومبهجة، بمحض الصدفة، دون محاولة للبحث عنها من الأصل.

سرعان ما انتشرت هذه الكلمة في سياقات مختلفة، وتحرّكت إلى لغات أخرى، حاملة معها ذلك المعنى بالضبط. ومع الوقت، دخل ذلك المصطلح إلى مساحة العلوم والاكتشافات، واستقر هناك، بحيث أصبحت تلك الكلمة تعبيرًا يُستخدم لوصف كثير من الاكتشافات العلمية التي لعب الحظ فيها الدور الأساسي، أكثر مما لعبه المنهج العلمي التقليدي، وفي العادة تُستدعى مجموعة من الأحداث للدلالة على تلك الحالة أو الفكرة.

هناك الأشعة السينية مثلًا، والهاتف، والديناميت، والبسنلين، أول مضاد حيوي في التاريخ. كلها تلعب السرنديبية، أو الصدفة تجاوزًا، دورًا أساسيًا في اكتمالها. 

يغمر أرشميدس جسده بالماء، ويلاحظ ما انزاح منه، فيصرخ وهو يركض عاريًا "يوريكا" (أي وجدتها)، يرجع فليمنج إلى مختبره بعد غياب فيجد مجموعته من أطباق بتري قد تلوثت بالعفن، لكنه يتردد في التخلص منها، متسائِلًا عن سبب حدوث قدرة ذاك العفن على قتل البكتريا، فيكتشف البنسيللين. يعبث فلهلم رونتجين بأحد أنابيب أشعة الكاثود في معمله، ثم يلاحظ وجهًا في الغرفة المظلمة، تقوده الملاحظة في النهاية إلى الأشعة السينية.

لأي درجة تقترب الصورة من الحقيقة؟

تُنسب إلى إسحق آزيموف، واحد من أهم كُتاب الخيال العلمي على الإطلاق، عبارة شهيرة يقول فيها إن لحظة العلم الحقيقية لا تبدأ من كلمة "وجدتها"، بل على العكس تمامًا، من كلمة "هذا أمر غريب". القصد هنا هو أن صورة العالِم الذي يضع بعض الأشياء على بعضها في المعمل، لتُخرج نتيجة جديدة تفاجئه، ليست فقط غير قريبة من الحقيقة، بل ربما تقع على الناحية الأخرى من الأصل.

يمكننا القول إذن أن الاكتشافات العلمية الكبيرة التي استطاعت البشرية التوصّل إليها على امتداد القرون الماضية لم تكن وليدة صدف من نوع ما، بل من الخطر أن نظن ذلك أو ندفع ناحيته، فالأمر كان على العكس بالكامل في أحيان كثيرة. "عقل مستعد" كما يصفه لويس باستور في معرض حديثه عن كلمتي الصدفة والحظ.

عقل فليمنج كان مستعدًا بالكامل حين اكتشف البنسلين، عالم مختبرات بارع اشتهر بالمنهجية الصارمة في البحث، وذاع صيته في أروقة المعامل، وحظى باحترام زملائه الكامل.

قبل أن يكتشف أي شيء له علاقة بذلك المضاد الحيوي، سجّل فليمنج باسمه اكتشاف الليسوزيمات، أو الإنزيمات الحالّة، التي توجد في كثير من سوائل الجسم، مثل اللعاب والمخاط، وتظهر بأوضح ما يكون في قطرات الدموع. تملك الليسوزيمات قدرة على تفكيك الجراثيم، ما يفسّر بالمناسبة، السبب الذي يجعل العين، هذا العضو الرقيق والحساس من الجسم، أقل عرضة بكثير للالتهابات مقارنة بغيره.

كان فليمنج هو الشخص الذي توصّل إلى تلك المواد بالذات، بالتحديد، عبر سلسلة من التجارب المحكمة التي انتهت بوضعه لقطرات من سائل العين في وسط يمتليء بالجراثيم، وسجّل فليمنج ملاحظاته: الجراثيم تموت. ولهذا السبب بالذات، أمسك فليمنج بطبق بتري الملوّث، ولم يرمه.

أحب دائمًا بالمناسبة أن أفكر في أن لحظة التردد تلك هي التي ندين لها بكل شيء. أظن أن أي شخص آخر غيره، أي عالم آخر أقصد، في ظروف أخرى غير تلك الظروف، وبمساحات اهتمام أخرى غير تلك المساحات، وبنظرة أخرى إلى الواقع المحيط كما هو الحال معه، ربما كان ليلقي تلك الأطباق في القمامة، لكن لحظة التردد تلك بالذات، دون غيرها، هي التي دفعته للتوقف والتساؤل: ما الذي يحدث هنا بالضبط؟ أما الصدفة نفسها؟ أي الحدث نفسه. فليس لها من قيمة.

أنواع من السرنديبية

في ورقة بحثية منشورة عام 2017، حاول الباحث أوهيد ياكوب استكشاف تلك المساحة، لأي درجة يمكننا عزو الاكتشافات العلمية الهامة خلال القرن الماضي إلى الصدفة أو إلى غيرها.

حدد ياكوب أربعة أنواع من الاكتشافات العلمية، أولها أن يبحث العالم في مساحة معينة، لينتهي به الحال إلى مساحة أخرى تمامًا تختلف عن الأولى، مثل اكتشاف العلاج الكيماوي لأمراض السرطان عن طريق البحث في مساحة أخرى تمامًا، هي قنابل غاز الخردل.

النوع الثاني هو أن يأتي الاكتشاف ببساطة دون أي تخطيط من العالِم. والثالث، هو أن يأتي الحل المتوقع لكن بطريقة أخرى غير التي يسعى إليها العالم (فليمنج واكتشافه مثلًا). أما الأخير، فهو أن يأتي الحل قبل أن تظهر المشكلة.

 كل ذلك جميل، لكن الحقيقة تبقى أن واقع الاكتشافات العلمية يختلف تمامًا في تعامله وتعريفه للصدفة عن المصطلح الدارج الذي يُستخدم للمفارقة في التعبير عن الاكتشافات العلمية. الصدفة هنا غير الصدفة هناك.

من هنا يمكننا القول إن كل شيء يحدث بالصدفة، ولا توجد أي صدف في هذا العالم. لأن الصدفة، ككل الأشياء ذات الأهمية في الحياة، تختفي بمجرد أن يقبض عليها كف اليد، وتتحول إلى شيء آخر.

ربما ليس من الصواب تمامًا أن ينهي المرء حديثه في هذا السياق بأبيات شعر، لكن الواقع أن هذه الأبيات بالذات، تكثّف المعنى بدرجة تستحق النظر.

لا دور لي في القصيدة إلا إذا انقطع الوحي

والوحي حظ المهارة إذ تجتهد

محمود درويش