تفاعل الإنسان مع عالمه الخارجي عبر عدد قليل من الحواس التي جَمعت كمًا هائلًا من المعلومات في أدمغتنا، فأنتجت خبرات وأفكارًا جرى تناقلها وتطويرها عبر أزمنة طويلة لتكون بذورًا لمعارفنا الإنسانية. فمثلًا، كان لاكتشاف العلاقة بين زمن المسار اليومي للشمس في السماء وتتابع الفصول أثر مباشر على الزراعة ومعرفة مواسم الصيد وفيضانات الأنهار، كما حدث في مصر القديمة.
كان الإنسان الأول يرى الحياة في كل مُكون من مُكونات الطبيعة، جامدًا كان أو حيًا. ولأن هذه المكونات حية مثله فهي حرة تفعل ما تشاء، لم تكن مقيدة بعد بقوانين الطبيعة. ظلت هذه الأفكار سائدة في حضارات العالم القديم حتى بدايات العصور الوسطى.
القانون الطبيعي ومبدأ الاختزالية
مع ظهور علم الفلك في حضارات العالم القديم رصدَ الإنسان العديد من الظواهر الفلكية، واستطاع التنبؤ مثلًا بالخسوف والكسوف. في تلك الحقبة، وكنتيجة لأفكار عدد من الفلاسفة أهمهم أرسطو، ظهر في اليونان مفهوم القانون الطبيعي. وبدأنا نرى أن الطبيعة ليست حرة تمامًا فيما تفعل، بل قد تتبع سلوكًا يمكن التنبؤ به.
ظهرت فكرة القانون الطبيعي مجددًا في عصور النهضة الأوروبية، ونتيجة لأعمال علماء أهمهم جاليليو جليلي (1545-1632)، الذي صرح بأن لغة الطبيعة وقوانينها هي الرياضيات، ورأى فائدة عظيمة لاختزالها عددًا كبيرًا من الظواهر في جُمل/معادلات رياضية بسيطة.
مبدأ الاختزالية يحاول أن يرد فهم أي نظرية أو ظاهرة معقدة إلى أخرى أبسط منها
فمثلًا، يمكننا التعبير عن ظاهرة تمدد الغازات عند رفع درجة حرارتها بقانون بسيط، يلخص لنا بدقة كل ما نعرفه عن هذه الظاهرة ويفسر سلوك أي نوع منها. فيوفر علينا عناء ملء عدد كبير من الدفاتر بأرقام مقادير الحجم ودرجات الحرارة لكل غاز نعرفه. القانون إذن هو طريقة لتكثيف المعارف الإنسانية عن مجموعة ظواهر محددة. استخدمت هذه الفكرة في جميع أفرع العلوم مثل الكيمياء والأحياء وكذلك العلوم الإنسانية.
في القرن التاسع عشر تأثر المجتمع العلمي والثقافي الأوروبي بمبدأ الاختزالية/reductionism، الذي يحاول أن يرد فهم أي نظرية أو ظاهرة معقدة إلى أخرى أبسط منها. على سبيل المثال، نستطيع فهم الكيانات البيولوجية، مثل الخلايا، من خلال فهم الكيانات الفيزيائية والكيميائية المكونة لها، مثل الذرات والجزيئات، مثلما نستطيع فهم قوانين الغازات من خلال ميكانيكا نيوتن.
كذلك تُطبق الاختزالية بين فروع الفيزياء، فعرفنا مثلًا أن قوانين علم البصريات يمكن استنتاجها من قوانين علم الكهرباء والمغناطيسية، وأن قوانين الديناميكا الحرارية يمكن استنتاجها من قوانين علم الميكانيكا الإحصائية! بل ظهر في هذه الحقبة أنَّ ثمة علاقات تربط العلوم المختلفة ببعضها، مكونة نسقًا معرفيًا واحدًا يربطها كشبكة من المعارف.
في هذه الشبكة تنقسم العلوم إلى المجموعات الآتية: العلوم الصورية، وهي المنطق والرياضيات، وهي تَعني بالاتساق المنطقي ولا تَعني بالمحتوى المعرفي ولا تحتاج لأي علم آخر. وهناك العلوم المعرفية، وهي منقسمة إلى علوم طبيعية، مثل الفيزياء والكيمياء والأحياء والجيولوجيا، وعلوم تطبيقية، كالهندسة والطب والزراعة والتعدين...إلخ. وآخر العلوم الإنسانية، مثل علم الاجتماع، وعلم النفس والاقتصاد وغيرهم.
القانون الطبيعي منتج معرفي مبني على فرضيتي موضوعية العالم وسببيته
كمثال هنا، يمكننا استخدام مفهوم الاختزال لنرد من خلاله قوانين الكيمياء إلى الفيزياء والرياضيات، فلذلك تعتمد الكيمياء عليهما. هذا التقسيم ينظم أيضًا هذه العلوم من حيث درجة تعقيدها، فأكثر العلوم تعقيدًا هي العلوم الإنسانية، كعلمي الاجتماع والنفس، وأبسطها هي العلوم الطبيعية، كالفيزياء والكيمياء. يسمى هذا "التقسيم الاختزالي" للعلوم.
خصائص القانون الطبيعي
من المهم أن نذكر هنا أن القانون الطبيعي منتج معرفي مبني على فرضيّتي موضوعية العالم وسببيته. نعني بذلك أن التجربة العلمية التي تقوم بها بشروط معينة، وتحصل فيها على نتائج معينة، هي تجربة يمكن لأي شخص تكرارها بنفس الشروط والحصول على ذات النتائج.
ولكي نجد القانون الذي يصف ظاهرة ما، لا بد أن نتبع خطوات محددة نسميها المنهج العلمي، وهي: وضع نموذج مبدئي يحدد المفاهيم والكميات الفيزيائية المراد قياسها لدراسة وتحليل الظاهرة، ثم إقامة تجارب لقياس سلوك تلك الكميات والعلاقات بينها، ثم عمل نموذج رياضي لصياغة سلوك الكميات والعلاقات بينها.
بعد ذلك، يتم اختبار النموذج الرياضي من خلال تجارب جديدة لتأكيد أو نفي صحة النموذج المقدم. قد تسأل: ماذا لو استطعت أن أخمن أو أكتب هذا القانون؟ نعم تستطيع ذلك، لكن القول الأخير للتجربة. فإن كان القانون مُتسقًا مع التجربة فهو صحيح، أما غير ذلك فلن يكون صحيحًا. لاحظ أيضًا أن احتمالية تخمينك لأي قانون طبيعي صحيح بدون معطيات تجريبية دقيقة تقريبًا صفرية!
قد يسأل القارئ، هل يصف القانون الظواهر بشكل كامل، فلا نعود لتحسينه أو تغييره مستقبلًا؟
إن ما يقدمه القانون أو النظرية العلمية ليس شيئًا مطلقًا، بل شيء يتغير ويتطور مع معارفنا. لذلك يُقدم العلم نظرياته في صورة نماذج لوصف سلوك الظواهر ومحاكاتها، من خلال بعض المفاهيم والكميات الفيزيائية، وقانون رياضي يصف التغير في هذه الكميات.
فمثلًا، في ميكانيكا الكم نصف الجسيم الذري باستخدام مفهوم نسميه الدالة الموجية. ومع ذلك لا يمكن قياس هذه الدالة ككمية فيزيائية معمليًا، لكن يمكننا أن نحسب منها كمية أخرى تقاس معمليًا، وهي احتمالية وجود الجسيم في أي مكان!
أي أن الدالة التي تصف معادلاتها الأنظمة الذرية ليس لها معنى أو وجود فيزيائي. لكن مع ذلك يعتبر هذا النموذج إحدى أدق النظريات التي عرفها الإنسان!
لا بد هنا من ذكر أن لكل نموذج مدى تطبيقيًا محددًا، أي المدى الذي يكون فيه النموذج متفقًا مع التجربة. فمثلًا المدى التطبيقي لميكانيكا نيوتن هو الأنظمة الفيزيائية، بدءًا بحجم المجرة إلى أن نصل لحجم أكبر قليلًا من الجزيئات أو الذرات.
الانبثاق والاختزالية
هناك مفهوم آخر يسمى الانبثاق/emergence وهو يعبر عن ظهور سلوك جديد في الأنظمة التي تحوي عددًا من المكونات أو الأجزاء المتفاعلة. هذا السلوك الجديد يكون سُلوكًا جمعيًا/collective behavior مختلفًا عن السلوك الخاص بكل جزء على حدة. مثال لذلك: الموجات التي يكوّنها جمهور كرة القدم بأجساده صعودًا وهبوطًا في المباريات الرياضية. فهذه الموجة لا يستطيع شخص القيام بها وحده، فهي غير ممكنة إلا بتفاعل الناس.
يُعرِّف فلاسفة العلم "الانبثاق" الذي تحدثنا عنه حتى الآن بـ"الانبثاق الضعيف". لكن يوجد نوع آخر وهو "الانبثاق القوي". ويعرَّف الانبثاق الضعيف بأنه سلوك جمعي يمكن استنتاجه من خصائص المكونات وتفاعلاتها، هو إذن انبثاق قابل للاختزال.
لكنَّ "الانبثاق القوي" سلوك جماعي لا يمكن استنتاجه من خصائص المكونات وتفاعلاتها، فهو غير قابل للاختزال. فمثلًا ظاهرة انتشار الصوت هي انبثاق ضعيف، لأننا نستطيع اختزالها/تفسيرها مستخدمين فيزياء جزيئات الهواء. لكن على النقيض، لا نستطيع تفسير ظواهر الانبثاق القوي مستخدمين فيزياء الأجزاء المكونة له.
حتى الآن، يرى معظم علماء الفيزياء أنه لا توجد ظاهرة فيزيائية معروفة يمكن فهمها على أنها مثال على الانبثاق القوي. ومع ذلك يدَّعي بعضهم أن بعض الظواهر يمكن فهمها على أنها أمثلة على الانبثاق القوي. لكن يجب التنويه هنا أن ما رأيته من حجج لهؤلاء لم يكن مقنعًا لي حتى الآن.
الانبثاق القوي ونظرية كل شيء
ماذا لو وجدنا يومًا ما ظواهر فيزيائية لا يمكن تفسيرها إلا عن طريق مبدأ الانبثاق القوي، هل يكون لذلك أهمية؟ في الحقيقة نعم، وسوف يؤثر ذلك في مبدأ الاختزالية الذي سادت أفكاره الفيزياء، وقادنا لأهم تطوراتها منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم. فالانبثاق القوي سيؤدي ببساطة إلى حقيقة مفادها أن معرفة قوانين الفيزياء الأساسية، مثل الفيزياء الكمية، لن تفيد في فهم التركيبات الأكثر تعقيدًا للمادة، ولهذا فإن له تبعات على مستوى الفيزياء ككل.
ظل الفيزيائيون لأكثر من قرن يحلمون بتوحيد قوى الطبيعة المختلفة، القوى الكهرومغناطيسية والنووية الضعيفة والقوية والجاذبية. وهي القوى التي تصف لنا كل الظواهر والأنظمة الفيزيائية.
نجحت نظرية سلام-واينبرج-جلاشو في الستينيات في وصف كل تلك القوى بدقة متناهية، ما عدا الجاذبية. لو أننا استطعنا ضم الجاذبية لهذا التوحيد، لكانت لدينا مجموعة معادلات قليلة تستطيع أن تصف جميع ظواهر الفيزياء وتفاعلاتها، ما عدا ظواهر المادة والطاقة المظلمة المرصودة في الكون.
كذلك ستصف النظرية المفترضة كل الظواهر التي تتجمع فيها الجسيمات في أنظمة أكبر، ذلك بافتراض أن كل ظواهر الكون هي انبثاقية ضعيفة. أي أننا حينها سنحصل على نظرية تفسر كل شيء، أو "نظرية كل شيء"! أما إذا كانت هناك ظواهر انبثاقية قوية، فهذه النظرية لن تفيدنا شيئًا في تفسير أي تجمعات لهذه الجسيمات لعدم قابلية النظرية للاختزال.
أي أنه مع وجود ظواهر الانبثاق القوي في الفيزياء ستتبخر أحلامنا في الحصول على "نظرية كل شيء"، لكن حينها قد تكون الفيزياء أكثر إثارةً وتحديًا، نتيجة لوجود ظواهر جديدة غير مُفسَّرة، لا نعرف عنها الكثير لكنها أيضًا أكثر صعوبة!