كان عام 1905 مفصليًا في علاقة المعرفة الإنسانية بعلم الفيزياء وما كنا نعتقد أنه بديهي، وعلى رأس ذلك تصوراتنا عن الزمن باعتباره ثابتًا مطلقًا. كان ذلك العام مفصليًا أيضًا في حياة العالم الأشهر ألبرت آينشتاين، ليس فقط لأنه حصل فيه على شهادة الدكتوراه، بل بسبب أربعة أبحاث رائدة أنجزها خلاله، من ضمنها "النسبية الخاصة".
بعد تخرجه عام 1901 من كلية البوليتكنيك الفيدرالية السويسرية، حصل ألبرت، بمساعدة والد صديقه مارسيل جروسمان، على وظيفة في مكتب براءات الاختراع السويسري. أتاحت له تلك الوظيفة فرصة جيدة لينهي رسالة الدكتوراه، ويتفرغ لإنجاز أبحاثه الأربعة المهمة؛ وهي إلى جانب النسبية الخاصة، بحث عن التأثير الكهروضوئي وحصل بسببه على جائزة نوبل للفيزياء عام 1921، وبحث عن الحركة البراونية، وبحث عن تكافؤ الكتلة والطاقة.
نشأ آينشتاين، المولود عام 1879 لأبوين يهوديين في مدينة أولم جنوب ألمانيا، في أسرة متوسطة الحال. امتلك أبوه مصنعًا كيميائيًا صغيرًا، فيما كانت أمه شغوفة بالموسيقى الكلاسيكية، وحثته، بل أجبرته، على تعلم العزف على الكمان وهو في السادسة. كره الطفل الكمان في البداية، لكنه سرعان ما أحبه.
لم يكن بارعًا في اللغات والمواد التي تتطلب الحفظ، رغم ولعه بالرياضيات والفيزياء. فسبب له ذلك الكثير من المتاعب في الثانوية وفي كلية البوليتكنيك، التي لم يُقبل فيها من المرة الأولى. لكنه تمكّن عام 1897 من الالتحاق ببرنامجها للفيزياء والرياضيات، وهناك تعرف إلى زميلته الوحيدة في هذا التخصص؛ الفتاة الصربية ميلفا مريك. سعد ألبرت كثيرًا بصحبتها ومناقشة الفيزياء والرياضيات معها، وسرعان ما ارتبطا عاطفيًا ثم تزوجا بعد تخرجه.
نسبية الحركة
في ورقته عن النسبية الخاصة، يقدم آينشتاين وصفًا فيزيائيًا لأجسام تتحرك بالنسبة لبعضها بسرعة ثابتة، لذلك تسمى "خاصة"، كونها تتناول حالات خاصة تكون سرعات الأجسام فيها ثابتة. لكن إذا أردنا تقديم وصف فيزيائي أعم، فلا بد أن نعرض النظرية النسبية العامة، التي تصف الحركة العامة للأجسام، أي الحركة بسرعات متغيرة مع الزمن.
رغم مفهوم الحركة النسبي في فيزياء نيوتن فإنها تقدم مفهومًا مطلقًا عن الزمن
أحد المفاهيم التي تصف هذه الأجسام هو مفهوم نسبية الحركة، أي أنه لا توجد بين هذه الحركات حركة مطلقة أو سكون مطلق.
على سبيل المثال، لنتخيل سفينة فضاء على متنها شخصان يتقاذفان كرة بينهما. وبينما تتحرك السفينة بسرعة ثابتة في خط مستقيم، تمر بجوار سفينة أخرى على متنها شخص ثالث. تبدو السفينة الثانية ساكنة بالنسبة لركاب السفينة الأولى، فيما يعتقد الشخص الثالث أن سفينته هي التي تتحرك، والسفينة الأولى ساكنة. فأيهما مُحق؟
في الواقع لا توجد تجربة فيزيائية واحدة تُمكِّن أيًا من الركاب من معرفة المتحرك والساكن. فعلى سبيل المثال؛ إذا حاول شخص في السفينة الأولى رمي الكرة لأعلى أو تحريك بندول يسارًا ويمينًا، ليلاحظ أي إشارة إلى حركة سفينته بسرعتها الثابتة أو سكونها، فلن يجد فرقًا بين الحالتين!
هذا هو مفهوم نسبية الحركة، وهو مبدأ فيزيائي محوري لكل من فيزياء نيوتن أو نسبية آينشتاين، ويؤكد أنَّ قوانين الفيزياء تظهر بنفس الطريقة لجميع المشاهدين الذين يتحركون بسرعات ثابتة.
سرعة الضوء ثابت مطلق
لنناقش مفهوم ثبات سرعة الضوء، من الأفضل عرض قانون جمع السرعات أولًا، ومن أجل ذلك، سنعود إلى سفينتي الفضاء والركاب الثلاثة. إذا تحركت السفينة الأولى براكبيها بسرعة ثابتة قدرها ألف كيلومتر في الساعة، وكانت سرعة الكرة التي يتقاذفانها تبلغ مائة كيلومتر في الساعة، وفي نفس اتجاه حركة السفينة، فإن الشخص الثالث على متن السفينة الثانية، الساكنة، سيرى الكرة وهي تتحرك بسرعة 1100 كيلومتر في الساعة.
لقد جُمعت سرعة السفينة وسرعة الكرة في ظاهرة اسمها قانون جمع السرعات.
ورغم مفهوم الحركة النسبي في فيزياء نيوتن، فإنها تقدم مفهومًا مطلقًا عن الزمن. فبالنسبة له، للزمن نفس القيمة بالنسبة لأي مشاهد بغض النظر عن حركته، بالطبع عند ضبط الساعات معًا. كأننا نستطيع أن نملأ الكون بهذه الساعات فتقيس نفس الزمن لأي مشاهد متحرك أو ثابت، أو كأنَّ الزمن يتدفق عبر الكون بنفس الطريقة دائمًا.
لا يسري قانون جمع السرعات على الضوء وهذه أغرب حقيقة نعرفها عنه
دحضت النسبية الخاصة هذا المفهوم لتنزع عن الزمن رداءه المطلق، لكنها في الوقت نفسه، قدمت مفهومًا مطلقًا آخرَ وهو سرعة الضوء. فهذه السرعة تأخذ القيمة نفسها بالنسبة لأيِّ مشاهد، مهما كانت طبيعة حركته.
أثبتت تجارب الفيزيائيين مايكلسون ومورلي الرائدة عام 1898 أنَّ سرعة الضوء ثابتة ولا تعتمد على كون المشاهد ثابتًا أو متحركًا.
لنعود مجددًا إلى سفينتنا؛ إذا توقف الراكبان عن لعب الكرة وأشعل أحدهما ضوء مصباحه اليدوي في نفس اتجاه حركة السفينة، وبافتراض أنها أصبحت الآن تسير بسرعة قدرها نصف سرعة الضوء، فإن الشخص الثالث في سفينته الساكنة لن يرى الضوء منطلقًا بسرعة قدرها مرة ونصف سرعة الضوء، وفق قانون جمع السرعات، بل سيرصده بسرعته الاعتيادية، نحو 300 ألف كيلومتر في الثانية!
هذه هي أغرب حقيقة نعرفها عن الضوء، وهي التي تأسست عليها النظرية النسبية الخاصة.
تباطؤ الزمن وانكماش الطول
تخيل شعاعًا من الضوء ينعكس بين مرآتين متقابلتين، إحداهما في أرضية السفينة الأولى والأخرى في سقفها. إذا انطلق الشعاع من منتصف المرآة السفلى، فسوف يسير لأعلى بشكل عمودي على المرآة العلوية، لينعكس منها نحو المرآة السفلى في وقت محدد، لنفترض أنه ثانية واحدة.
سنستخدم هذا التجهيز كساعة لقياس الوقت.
الآن تتحرك هذه السفينة بسرعة قريبة من سرعة الضوء وتمر بجوار السفينة الساكنة (بالنسبة لها). هنا، لن يرى المشاهد الثالث شعاع الضوء عموديًا بين المرآتين في رحلته من السقف للأرضية، كون السفينة الأولى متحركة، لذلك، سيأخذ الضوء بالنسبة له مسارًا كرقم ثمانية "U" نتيجة لحركة السفينة، والمرآة السفلى (مصدر الضوء) معها.
لكنَّ هذه المسافة التي قطعها الشعاع، كما يراها الراصد الساكن، ستكون أطول من قبل. ونظرًا لأن سرعة الضوء ثابتة، فسيكون زمن رحلته ذهابًا وإيابًا أطول من الثانية. أي أنَّ هذه الساعة ستكون أبطأ!
تسمى هذه الظاهرة "تباطؤ الزمن". أي أنَّ الزمن في السفينة المتحركة، كما يقيسه المشاهد الساكن، سيكون أبطأ من زمن سفينته الساكنة.
عندما تتحرك الأجسام بسرعة قريبة من سرعة الضوء، لا يتباطأ الزمن فحسب بالنسبة إلى الراصد الساكن، بل ينكمش طول الجسم المتحرك أيضًا. أي أنَّ الراصد الساكن سيرى السفينة المتحركة أقصر من طولها وهي ساكنة! وهذا ما يسمى ظاهرة "انكماش الطول".
عند السرعات العادية لا يمكن رصد هذا الانكماش، فعلى سبيل المثال، السيارة التي تتحرك بسرعة 200 كم/ساعة، تنكمش بجزء من ألف مليون مليون من المتر! ولكن إذا اقتربت سرعة الجسم من سرعة الضوء، سيصبح الانكماش ملحوظًا.
فمثلًا، الجسم الذي يتحرك بسرعة تبلغ 85% من سرعة الضوء، سيتقلص طوله بالنسبة للراصد الساكن بمقدار النصف، لكن عند وصول سرعته إلى 99.5% من سرعة الضوء، سيكون الطول المرصود عُشر طوله الأصلي فقط. لكن الراكب داخل السفينة سيرى أنَّ سفينته ساكنة وأنَّ الكوكب هو المتحرك، كذلك طول السفينة لا يتغير، لكنَّ الكوكب انكمش طوله، فصار شكله أقرب لقرص.
يعمل تمدد الزمن وانكماش الطول معًا على ضمان بقاء قيمة سرعة الضوء ثابتة لكلا الراصديَن؛ الثابت والمتحرك.
هكذا غيرت النسبية الخاصة منظورنا عن الزمن بشكل كبير، فالآن نرى الزمن كمقياس نسبي للوقت، أي أنه بُعد آخر يمكن أن نميز به الأحداث بالنسبة لمشاهد معين كالطول والعرض والارتفاع، وليس شيئًا مطلقًا. لذلك، فضل آينشتاين التفكير في المكان والزمان ككيان واحد لا شيئين منفصلين، وأطلق عليهما اسم الزمكان.
النسبية تُفسر سلوك الميونات
لكن كل هذا أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع، فكيف عرفنا أن ما يقوله آينشتاين ليس هذيانًا؟ إنَّ الاختبار الحقيقي لأفكار الفيزياء المجنونة هو التجربة. لذلك أجرى العلماء العديد من التجارب لاختبار النسبية الخاصة، وجاءت كلها مؤيدة لتنبؤاتها وبدقة.
للنسبية الخاصة تبعات عديدة أهمها دمج مفهومي المكان والزمان في نسيج كوني واحد
أشهر هذه التجارب تجربة قياس عُمر الميونات. والميونات جسيمات شبيهة جدًا بالإلكترونات لكنها أثقل منها بمائتي مرة، وتتكون في الغلاف الجوي نتيجة اصطدام جسيمات قادمة من الفضاء بجزيئات غازات الغلاف الجوي، فينتج سيل من الميونات عمرها 2.2 ميكروثانية (جزآن من مليون جزء من الثانية). يتحلل الميون إلى جسيمات أقل كتلة، لكن عندما نحاول رصدها من سطح الأرض، نرى أعدادًا كبيرة منها.
ولكن من المفترض أن تتحلل هذه الجسيمات في الغلاف الجوي ولا تصل أبدًا للأرض.
فسرَّت لنا النسبية الخاصة هذا اللغز؛ الميونات التي تسقط نحو الأرض يمكن أن تصل إلى سرعات عالية للغاية تقترب من 99.5% من سرعة الضوء، والتي تتسبب، تبعًا للنسبية الخاصة، في ظاهرتي انكماش الطول وتباطؤ الزمن.
إذا وضعنا أنفسنا مكان الميون الساقط بهذه السرعة، سنرى أنَّ الغلاف الجوي يتحرك بسرعة تقترب من سرعة الضوء، وله عُشر طوله (الساكن) فقط، لذلك سيكون لديه الوقت لعبوره بالكامل قبل أن يتحلل. وإذا عدنا مجددًا إلى الأرض، سنجد الميونات تتحرك بسرعة عالية جدًا ونتيجة لذلك سنرصد تباطؤ زمنها، أي أنَّ عمرها سيبدو أطول بكثير بالنسبة لنا، وسيكون لديها الوقت الكافي للوصول إلى الأرض قبل أن تتحلل، وبالفعل هذا ما تم قياسه بالفعل في المعامل الأرضية.
للنظرية النسبية الخاصة تبعات عديدة، أهمها دمج مفهومي المكان والزمان في نسيج كوني واحد، مهَّد لإحدى أعمق نظريات الفيزياء الحديثة؛ النسبية العامة، التي تصف ظواهر الجاذبية، وتصاعدت أهميتها حديثًا مع اكتشاف موجات الجاذبية الناتجة عن تصادم ثقبين أسودين، وكذلك صعود مفهومي المادة والطاقة المظلمة في علم الكون.