كنت في الرابعة عشر من عمري، أقرأ كتاب القوى في الطبيعة، للمؤلفين ف. جريجورييف وج. مياكيشيف، حين استوقفني للمرة الأولى ما كُتب على قبر إسحق نيوتن، فأثار تهكمي. كتب المؤلفان "لتبتهج البشرية الزائلة لأنه قد عاش بين ظهرانيها مثل هذا العَالم الذي يُعتبر زينة للجنس البشري". وبغض النظر عن معرفتي ببعض انجازاته وقتها، أحسست بالمبالغة.
أدركت بعدها بسنوات أن أحدًا لم يغير معرفتنا وإدراكنا للعالم وحياتنا اليومية باكتشافاته وأعماله مثلما فعل نيوتن، ولذلك استحق الرجل عن جدارة ما كتب على قبره. فقد أسَّس علم التفاضل والتكامل، أحد أهم فروع الرياضيات، والذي من دونه يستحيل وجود الفيزياء كما نعرفها، وهو مؤسس علم الديناميكا، أهم فروع الميكانيكا، وواضع قوانينه الثلاث العامة والتي تصف حركة الأجسام من حبات الرمل إلى المجرات.
اكتشف نيوتن كذلك قوى الجاذبية الكونية، التي تؤثر على الأجسام ذات الكتل، وفسر بها حركة جميع الأجرام والأنظمة الفلكية. كما أنه واحد من مؤسسي علم البصريات، ومخترع تليسكوب المرايا المستخدم حتى اليوم في الأرصاد الفلكية.
ومثلما بدأت الثورة العلمية مع أفكار كوبرنيكوس عن مركزية الشمس، ولاقت قبولاً بين العلماء بعد أرصاد براهي وأبحاث كبلر الفلكية، كان لأعمال جاليليو شديد الأثر على العلم، خاصة مع إدراكه المبكر أن الرياضيات هي لغة الطبيعة، ولا غنى عنها لوصفها وفهما بدقة.
ويمكننا القول إن هذه الثورة اكتملت مع نيوتن، الذي نجح في تكوين بناء علمي متماسك للفيزياء، يتمتع بعمق ودقة في وصفه للظواهر الفيزيائية، حتى صار نموذجًا يحتذى به في العلوم الأخرى، سواء كانت طبيعية أو إنسانية.
كان لأعمال نيوتن كذلك تبعات فلسفية وفكرية عميقة، أثّرت بعمق على فهم الإنسان للكون. بيّن نيوتن قدرتنا كبشر على تفسير أكثر ظواهر الكون تعقيدًا، بل وعلى قابليتها للفهم والوصف والحساب، فعزز بذلك ثقة الإنسان في امكاناته التحليلية والعقلية.
طفولة مضطربة
ولد نيوتن في الرابع من يناير عام 1643، ومات والده قبل ولادته بعدة أشهر، وعندما كان في الثالثة تزوجت أمه ثانية وأُرسل للعيش في بيت جده لأمه، فقضى طفولته وحيدًا مع كهلين صارمين، وإن كانا يحبانه. أثر ذلك على علاقته بأمه. وفي سن الثانية عشر، أرسلته أمه إلى مدرسة في مدينة أخرى، ليسكن مع أسرة صيدلي وزوجته حتى أنهى الدراسة، والتحق بالجامعة عام 1659.
كان طفلًا متميزًا في المدرسة، وظهر ذلك في تصميمه لنماذج لطواحين هواء وطائرات ورقية مزودة بمصابيح يطلقها ليلًا!
قررت أمه إخراجه من المدرسة قبل إتمامه الثانوية، رغم تفوقه، كي يدير لها شؤون ممتلكاتهم من أراض زراعية وثروة حيوانية. لكن بعد عدة حوادث قررت أنه من الأفضل إبعاده عن هذه الأمور، فألحقته بالجامعة بعد نصيحة شقيقها بذلك.
في إحدى تلك الحوادث هبت رياح قوية في المنطقة، وبدلًا من أن يهتم بأحوال المواشي التي تهدمت حظائرها ومحاولة جمعها في مكان آمن، حاول نيوتن قياس شدة الرياح بالقفز في اتجاه الرياح مرة وعكسها أخرى، ليحسب الزيادة في مسافة القفزة، ومنها يحسب شدة الرياح!
ورغم موافقة الأم على التحاقه بالجامعة، فإن المبلغ الذي خصصته لدراسة نيوتن لم يتعد العشرة جنيهات استرلينية في السنة، مع الوضع في الاعتبار أنها كانت تحصل على دخل يقدر بـ 700 جنيه سنويًا عن أملاكها. لذلك قضى نيوتن سنواته الخمس الأولى في جامعة كامبريدج في بؤس، إلى أن حصل على منحة من الجامعة بعد ذلك.
لم تكن جامعة كامبريدج وقتها متميزة مثلما هو الحال اليوم، مقارنة مثلًا بجامعة أوكسفورد، كما يَذكر المؤرخون. قيل وقتها إنها تُخرج إما رجل دين جيد أو طبيبًا غير ماهر، إلى أن خصص لها هنري لوكاس وقفًا لأستاذية الرياضيات، وسمي الوقف على اسمه، وشغله أعظم علماء الفيزياء، فكان لذلك كبير الأثر على سمعة الجامعة التي صارت ملء السمع والبصر.
من أشهر من شغل أستاذية لوكاس هم إسحق نيوتن، وجيمس كلارك ماكسويل، وبول ديراك، وستيفن هوكينج. وكان إسحق بارو أستاذًا لنيوتن، وتأثر به كثيرًا، وهو أول من شغل هذا الكرسي.
رياضي متميز
رغم تواضع مخصصات المنحة التي حصل عليها نيوتن لاستكمال دراسته، فإنها كانت كافية لسد احتياجاته البسيطة. وكانت أهميتها في منحه حق الإقامة في الجامعة ليَدرس ما يشاء، خاصة بعد حصوله على درجة البكالوريوس عام 1665 وحتى إتمامه لدرجة الماجستير.
حصل نيوتن على الماجستير عام 1667، وبعدها ذاع صيته في كامبريدج، بوصفه رياضيًا وفيزيائيًا متميزًا. وفي تلك الفترة بدأ نيوتن أبحاثه في حساب التفاضل والتكامل وأرسلها لأستاذه بارو، الذي رأى عبقرية هذا الشاب، فأوصى بأن يشغل بعده أستاذية كرسي لوكاس في الرياضيات. وبالفعل، ترك بارو الكرسي عام 1669، وشغله نيوتن وهو لا يزال في السادسة والعشرين.
لنعود الآن إلى الوراء قليلًا، تحديدًا لما بين عامي 1665 و1667، حيث ضرب الطاعون أوروبا فتفرق طلاب الجامعات عائدين إلى ديارهم. حينها انكب نيوتن على مجموعة من المسائل الرياضية والفيزيائية الصعبة التي حيرت العلماء لقرون، فاستطاع أن يصيغ حساب التفاضل والتكامل، الذي مكننا من حساب معدل تغير أي كمية رياضية نسبة لأخرى، ما نسميه تفاضل الكمية بالنسبة للأخرى.
لكن قوانين الحركة الثلاث بقيت واحدة من أهم الإنجازات التي استطاع نيوتن التوصل إليها
يمكننا مثلًا حساب معدل تغير سرعة جسم متحرك نسبة للزمن، وفي الحالات البسيطة يكون هذا المعدل هو الفرق بين سرعتي البداية والنهاية مقسومًا على المدة الزمنية بينهما.
واليوم، يصعب على أي فيزيائي أن يتصور وجود فيزياء لا تتضمن التفاضل والتكامل. ويرجع ذلك لسببين: الأول هو أن معظم الكميات الفيزيائية في علم الميكانيكا تُكتب بوصفها تفاضلات. والثاني هو أن معظم قوانين الفيزياء الأساسية تكتب كمعادلات تحتوي على تفاضلات. وبالفعل فدون هذا الحساب تكون الفيزياء شبة مستحيلة!
توصل نيوتن كذلك إلى قوانين الحركة الثلاث الشهيرة، التي تحمل اسمه، كما قام بدراسة الضوء، وتوصل إلى تحليل الضوء الأبيض لألوانه السبع من خلال منشور زجاجي، وأن الضوء يسير في خطوط مستقيمة، وصاغ النظرية الجسيمية للضوء.
لكن قوانين الحركة الثلاث بقيت واحدة من أهم الإنجازات التي استطاع نيوتن التوصل إليها، والتي تعتبر اليوم واحدة من أُسس علوم الفيزياء التقليدية.
القانون الأول
ينص القانون الأول على أن "كل جسم يظل على حالته من سكون أو حركة بسرعة ثابتة، ما لم تؤثر عليه قوة تغير من حالته (أي سرعته)".
يكاد هذا القانون يناقض حِسنا العام لمفهوم الحركة، أو بالأحرى ضلالات الحس العام كما وصفها معاصرو نيوتن. ندرك بشكل ما أننا لكي نحافظ على حركة كرة بولينج، تسير بسرعة ما، على أرض غرفة طويلة، يجب علينا الاستمرار في دفعها وإلا ستتوقف بعد حين. ولذلك توقع أرسطو أن حركة الجسم تحتاج دائمًا إلى قوة كيلا تتوقف.
لكن تخيل معي أننا جعلنا أرض الغرفة أقل خشونة، ملساء أكثر، فالنتيجة أن الكرة سوف تتحرك مسافة أكبر أو تظل على سرعتها الأولى لوقت أطول. حسنًا.. ماذا لو غيرنا أرض الغرفة لتصير ملساء تمامًا ومصقولة كالمرآة، ستتحرك الكرة دون احتكاك، ولن تقل سرعتها، بل ستظل على سرعتها حتى تصطدم بحائط.
لاحظ أن الجسم الآن لا تؤثر فيه أي قوى احتكاك، أو أي قوة أخرى. ولذلك نستنتج أنه في غياب أي قوة سيظل الجسم متحركًا بنفس السرعة للأبد، سائرًا في خط مستقيم، حتى تؤثر عليه قوة ما تغير من سرعته. هذا هو قانون نيوتن الأول.
لهذا القانون آثار عملية واسعة، نستفيد من هذا القانون مثلًا في إعداد مركبات الفضاء، فمثلًا للسفر بين الأرض والمريخ لا نحتاج إلى وقود يدفع مركبة الفضاء على امتداد كل المسافة بين الأرض والمريخ، فيكفي بعض الوقود الذي يوصلها إلى أقصى سرعة لها، ثم يُطفأ المحرك، فتسير المركبة بالسرعة نفسها حتى تصل للمريخ، نظرًا لغياب أي قوة تؤثر على المركبة في الفضاء. لكن هذه المركبة بالطبع ستحتاج إلى الوقود كي تنفذ عملية الهبوط بسلام على المريخ، ولكي تقاوم جاذبيته عند خروجها من مداره.
القانون الثاني
تخيل الآن أنك في سوبرماركت تحاول بكل ما أوتيت من قوة دفع عربة مشترياتك الساكنة الفارغة، فتلاحظ أنه في خلال خمس ثوان فقط زادت السرعة من صفر إلى عشر أمتار في الثانية. نَصف ذلك التغير بكمية نسميها التسارع أو العجلة، وهي فرق السرعتين مقسومًا على الزمن، أو 10/5=2، أي أن 2 هي قيمة العجلة هنا.
في المقابل، إذا دفعت بالقوة نفسها سيارة فيات 128 فسوف تكون سرعة السيارة بعد خمس ثوان هي عشر سنتيمترات في الثانية، أو 1/10 متر في الثانية، ولذلك تكون العجلة هي 1/50= /1/10x 1/5 في هذه الحالة.
لاحظ الفرق في السرعة النهائية في الحالتين، مع أننا استخدمنا القوة نفسها. بالطبع سبب هذا الفرق هو اختلاف الكتلة في الحالتين، فكتلة السيارة هي تقريبًا 1000 كجم لكن كتلة عربة المشتريات 10 كجم فقط.
ينص قانون نيوتن الثاني على أن "القوة هي حاصل ضرب الكتلة في العجلة"، أو القوة = الكتلة X العجلة.
لاحظ أننا الآن نستطيع أن نحسب قوتك، التي لا نعرف قيمتها حتى الآن، من المعطيات السابقة. ففي حالة عربة المشتريات قوتك هي 10 (كتلة) X 2 (عجلة)= 20 (قوة). أما في حالة السيارة قوتك هي، 1000 (الكتلة) X 1/50 (عجلة)= 20 (قوة). بالفعل القوة نفسها كما أسلفنا!
نستنتج من ذلك أنه كلما كانت كتلة الجسم كبيرة صغر معدل تسارعه أو عجلته. وكلما كانت كتلة الجسم صغيرة زاد تسارعه أو عجلته. وكذلك تزداد قيمة التسارع للجسم عند ازدياد مقدار القوة المؤثرة عليه.
القانون الثالث
ينص هذا القانون، وهو الأشهر من بين الثلاثة، على أن "لكل فعل (قوة) رد فعل (قوة أخرى مرتبطة بها)، مساوٍ له في المقدار (أي القيمة العددية)، ومضاد له في الاتجاه (أي عكس اتجاهها)".
كمثال على ذلك، نحن نعرف أن الأشياء تسقط باتجاه الأرض نتيجة لوزنها، أو الجاذبية الأرضية، فإذا تركت كتابًا على ارتفاع ما في الهواء سيسقط الكتاب بفعل قوة وزنه إلى الأرض، وهي القوة الوحيدة المؤثرة في هذه الحالة.
لكن ما الذي يجعل الكتاب مستقرًا ساكنًا فوق منضدة. هل اختفت الجاذبية أو قوة وزنه؟ لا لم تختف! فما الذي حدث؟ دعنا نفسر ذلك باستخدام القانون الثالث.
يمثل وزن الكتاب قوة تدفع بالكتاب تجاه المنضدة، فيضغط عليها باتجاه الأرض، وكرد فعل لهذه القوة (لها قيمة مساوية للوزن) تضغط المنضدة بقوة لأعلى على الكتاب (عكس اتجاه قوة الوزن). الآن القوى المؤثرة على الكتاب هي: قوة الوزن التي تدفعه لأسفل، وقوة رد فعل المنضدة على الكتاب تدفعه لأعلى، وهما متساويان في المقدار، فتكون المحصلة صفرًا، أي تلغي كل منهما الأخرى تمامًا.
بمعنى آخر، لا يوجد قوة تغير من حالة الكتاب، ولذلك يظل ساكنًا!
نشر نيوتن كتابه المسمى Principia/المبادئ، والذي يعتبر من أهم الكتب في تاريخ العلم إن لم يكن أهمها، عام 1687، واحتوى الكتاب على قواعد علم الميكانيكا المتمثلة في القوانين الثلاثة السابقة، وأساسيات حساب التفاضل والتكامل، وكذلك قانون الجذب العام، الذي فسر من خلاله كل قوانين كبلر.
يجادل كثير من المتخصصين ومؤرخي العلوم بأن هذا الكتاب ربما يكون أحد أكثر الكتب تأثيرًا في تاريخ الإنسانية كلها، ففيه استطاع نيوتن تحويل الظواهر الطبيعية إلى معادلات وقوانين، يمكن التعامل معها وتفسيرها، بل والتنبؤ بمستقبلها. تحوّلت أفكار نيوتن وأطروحاته في هذا الكتاب إلى نموذج ذهبي، سمح لنا، ربما للمرة الأولى، بالتعامل مع الظواهر الطبيعية ووصفها وحسابها بدقة بالغة.