تصميم: أحمد بلال - المنصة

كوبرنيكوس.. بداية الثورة العلمية

التصورات الأولية عن مركزية الشمس وميلاد علم الفلك

منشور السبت 11 مارس 2023 - آخر تحديث الأحد 12 مارس 2023

كانت الثورة العلمية في أوروبا نتاجًا طبيعيًا لعصر النهضة، الذي امتد من القرن الرابع عشر حتى السابع عشر، وشهد ازدهارًا للآداب المكتوبة باللغات المحلية واللاتينية، إلى جانب ترجمات من نصوص أدبية يونانية، من بينها أشعار هوميروس وآخرين.

وكثير من هذه النصوص جاء من الإمبراطورية البيزنطية، التي انتقل عدد من مفكريها إلى مدن إيطاليا الغنية، قبل انهيار الإمبراطورية أواخر القرن السادس عشر. وجلبوا معهم ثقافتهم، مع بعض المخطوطات اليونانية القديمة. مما أثر في نهضة أوروبا، كمتمم لما اُنجز في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، من ترجمات للنصوص العربية واليونانية في الفلسفة، والرياضيات، والعلوم، والطب.

عالَم لا نعرف عنه شيئًا

بادر الأوربيون وقتها بنشر مفاهيم ترفع من قيمة الإنسان، وظهر هذا واضحًا في الآداب والدراسات الإنسانية. كما نظروا للعالم بواقعية ظهرت واضحة في الإنتاج الفني والأدبي لهذه الفترة. ويمكننا القول إن ذلك العصر مثّل بداية الانطلاق نحو القيم الإنسانية بصورتها المعروفة اليوم.

وشكّلت فترة النهضة الأوروبية مناخًا مناسبًا لظهور العلم الحديث، بفضل ما أتاحته من حرية الفكر، سمحت بنقد المعارف القديمة، إلى جانب تراكم معارف الأوربيين وقتها، وقدرتهم على نزع القداسة عن نصوص وأفكار فلاسفة وعلماء اليونان، والوقوف أمامهم بندية.

 هناك بالطبع أسباب سياسية واقتصادية، مهّدت لظاهرة العلم الحديث، وساعدت على انتشار التعليم والثقافة على نطاق واسع، بجانب انتشار الجامعات في المدن الأوروبية. كما كان للتوسع في الكشوف الجغرافية تبعاته الفكرية، عندما أدرك الأوروبيون وجود عوالم وطبيعة لم تكتشف بعد، ولم يعرف عنها عباقرة الأقدمين شيئًا.

يفسر هذا حماس فرانسيس بيكون الشديد للكشوف الجغرافية وحديثه عن روعة اكتشاف الطبيعة وتأثر مذهبه التجريبي بذلك. السبب الآخر الذي ينبغي الالتفات إليه هنا، هو اختراع الطباعة التي ساهمت في نشر الأفكار الجديدة، مما جعل المجتمع الأوروبي لاحقًا مبنيًا على المعرفة والأفكار.

عن كوبرنيكوس

مع الحديث عن الرواد، لا يمكننا إغفال تأثير أعلام مثل نيكولا كوبرنيكوس، وفرانسيس بيكون، ويوهان كبلر، وجاليليو جاليلي وغيرهم، والدور الذي لعبوه في إطلاق الثورة العلمية وتعزيز أسسها، مدركين أن التغيرات السياسية والاقتصادية والفكرية لعبت الدور الرئيس في ظهور هؤلاء الرواد، وآخذين في الاعتبار مواهبهم المميزة كمفكرين وعلماء.

يعتبر إصدار كتاب نيكولا كوبرنيكوس "في دوران الكرات السماوية" عام 1543، لحظة بداية العلم الحديث، لذا فمن المنطقي أن تبدأ رحلتنا بمعرفة هذا الرجل وما قدمه من إسهامات في علوم الفلك. 

غلاف طبعة نورمبرج عام 1543 لكتاب "عن دوران الأجرام السنوية"

ولد نيكولا في مدينة تورون البولندية 1473، لأب ثري توفي عندما كان ابنه صبيًا، فربته أمه بمساعدة خاله، أسقف مقاطعة فارميا. ذهب الشاب إلى جامعة كراكوف 1491، ودرس الفلك والرياضيات على يد علماء متميزين، وتعرف وقتها على كتاب لجورج بيورباخ ويوهانز موللر، كان له عظيم الأثر في نقده لنموذج بطليموس فيما بعد.

وفي عام 1495، انتخب مساعدًا لخاله في أسقفية فرامبورك. وكانت لهذه الوظيفة تبعات مستقبلية في حياته، إذ وفرت له الوقت اللازم والحياة الكريمة لدراسة علم الفلك ولوضع نموذجه عن حركة الكواكب.

وعام 1496 ذهب نيكولا لدراسة القانون في بولونيا بإيعاز من خاله، وهناك عمل مع الفلكي الإيطالي دومينيكو نوفارا، المعروف بنقده للنموذج البطلمي، وأجرى معه عمليات رصد فلكية. كما تعلّم الآداب الكلاسيكية واللغة اليونانية، ليقرأ كتب الفلك القديمة ومنها كتاب بطليموس "المجسطي".

عاد الرجل إلى إيطاليا للدراسة في جامعة بادوا، وبدأ دراسة الطب ولم يكملها، والتحق بجامعة فيرارا ونال درجة الدكتوراة في القانون الكنسي.

وعلى الرغم من أنه لم يحصل في العلوم الكثيرة التي درسها على درجة الدكتوراه سوى في القانون، فإنه كان موسوعيًا بحق، وعمل طبيبًا وفلكيًا وعالم رياضيات ورجل قانون ورجل دولة، وترجم إلى اللاتينية أشعارًا يونانية كلاسيكية، فكان من مفكري عصر النهضة الموسوعيين.

الثورة على الفلك القديم

وضع كوبرنيكوس نموذجًا للعالم مركزه الشمس وحولها تدور الكواكب والأرض. كان ذلك مخالفًا لنموذج بطليموس السكندري، المتمثل في مركزية الأرض ودوران الأجرام والشمس حولها، فتمكن بذلك من تقديم تفسير أبسط لحركة الكواكب ومطابقًا للمشاهدات الفلكية الدقيقة التي جاءت بعده بأكثر من نصف قرن. لكن ما هو نموذج بطليموس لحركة الأجرام السماوية؟

تأسس علم الفلك القديم على فيزياء أرسطو، التي اعتقدت أن المادة تنقسم إلى أربعة عناصر: الأرض (التراب)، والماء، والهواء والنار. يتحرك أي من العناصر الأربعة نحو الأرض، كالتراب والماء، أو مبتعدًا عنها، كالهواء والنار، متخذًا مسارًا مستقيمًا. وبحسب هذه الفكرة، كانت مادة الأجرام السماوية هي الأثير (العنصر الخامس)، وتصور القدماء أنها تسير بسرعة ثابتة في دوائر محكمة مركزها الأرض.

عرف علماء فترة ما بعد أرسطو أن هذا النموذج لا يتفق مع حركة الأجرام المرصودة، التي لا تسير في دوائر محكمة وتتغير سرعتها في مداراتها.

جاء بطليموس، في القرن الثاني الميلادي ليقدم نموذجًا حاول من خلاله الحفاظ على مبادئ أرسطو لحركة الأجرام، فوصف حركة كل جرم بوصفها حركة في دائريتين، إذ يتحرك الجرم في دائرة صغيرة، تسمى "فلك التدوير"، وأثناء ذلك يتحرك مركز الدائرة الصغيرة راسمًا دائرة كبيرة حول الأرض، تسمى "الناقل"، وذلك لتفسير حركة الاجرام المرصودة وكيفية تغير سرعاتها في مداراتها. كان لهذا النموذج مشاكل منها أن مركز الدائرة الكبيرة ليس هو الأرض، لكنها نقطة أخرى بجوارها، فالأرض ليست هي مركز الحركة كما قال أرسطو.

العناصر الأساسية لعلم الفلك البطلمي. وتظهر فيه الأرض في الوسط (لاحظ أنها ليست في المركز) وأحد الأجرام وفلك التدوير (الدائرة الصغيرة المشرطة) والناقل (الدائرة الكبيرة المشرطة).

من المهم أن نذكر أن نقد نموذج بطليموس يعود لفلكيي العصور الوسطى ومنهم العرب، أو المتحدثين بالعربية على وجه الدقة، خاصة مدرسة مراغة في فارس، التي أسسها نصير الدين الطوسي في القرن الثالث عشر، وكان من أشهر فلكييها ابن الشاطر الذي تبين حديثًا تأثير كتاباته على كوبرنيكوس.

فكان فلكيو العصور الوسطى يستخدمون نموذج بطليموس بوصفه نموذجًا حسابيًا وهم يدركون ما يعتريه من أوجه قصور، لكنهم ارتضوا بذلك، إذ لم يُتَح لهم نموذجًا أفضل يُمكنهم من خلاله  تفسير المشاهدات وعمل حسابات دقيقة لمواقع الأجرام.

ويرى مؤرخون أن تأثر كوبرنيكوس بفلكيي جامعة كراكوف واطلاعه على كتاب جورج بيورباخ ويوهانز موللر "الموجز" الصادر عام 1496 كان له كبير الأثر على فكره، كذلك على نقده لنموذج بطليموس. كان الكتاب موجزًا حديثًا عن كتاب "المجسطي" لبطليموس، والذي صدرت أحدث ترجمة له في القرن الثاني عشر، وأضيفت إليه تفاصيل لبيانات رصد حديثة وبعض الحسابات. لكن أهم إضافة كانت تعليق المؤلفين النقدي على مشاهدات رصد القمر التي لا تشير إلى تغير حجمه كما يقتضي نموذج بطليموس.

كان هناك سبب آخر لاقتناع كوبرنيكوس بعدم صحة نموذج بطليموس، كما عبر عن ذلك في كتابه، وهو أن مركز الدوائر الكبرى للأجرام ليس الأرض في نموذج بطليموس، وأن حركة الجرم غير منتظمة (السرعة ليست ثابتة)، فقاده ذلك إلى عدم اتساق مبادئ أرسطو مع المشاهدات الفلكية لحركة الأجرام وضرورة وجود نموذج آخر أفضل.

من أين جاءت مركزية الشمس؟

ما الأسباب التي جعلت كوبرنيكوس يقترح فكرة مركزية الشمس؟ لا يعرف المؤرخون على وجه اليقين ما أسبابه، لكن يرى بعضهم أن نيكولا ربما تأثر ببعض مفكري ومثقفي عصر النهضة في إيطاليا أثناء إقامته فيها والذين ظهرت بينهم مذاهب فكرية كالأفلاطونية الجديدة أو الهرميسية التي يؤمن أتباعها بمركزية الشمس.

ويرى آخرون أن وصوله لمفهوم مركزية الشمس كان اجتهادًا فرديًا جاء بعد تحليل دقيق لحركة الأجرام وهندسة مساراتها؛ لأن الفلكيين السابقين والمعاصرين له لم يأخذوا بهذا المفهوم لتعارضه مع الحس العام الذي يرى أن الأرض ثابتة لا تتحرك.

نموذج كوبرنيكوس لتفسير حركة الكواكب انطلاقًا من فرضية "مركزية الشمس"

بين عامي 1512-1514، أتمّ كوبرنيكوس نموذجه، ووزع موجزًا صغيرًا منه على المقربين تحت عنوان "التعليق الصغير" (باللاتينية: Commentariolus)، لكنه نشر كتابه عن نموذجه الجديد عام 1543 وهو على فراش الموت أي بعد ثلاثين عامًا. فما السبب في ذلك؟

يظن كثير من الناس أنه فعل ذلك للهروب من اضطهاد الكنيسة كما حدث بعده لجاليليو وآخرين. لكن بعض المؤرخين على الناحية الأخرى يرون ذلك غير دقيق على الإطلاق. فصحيح أن الكنيسة اضطهدت عددًا من العلماء لكن لم يحدث ذلك مع كوبرنيكوس، إذ علمت الكنيسة بأمر "التعليق الصغير" وقدم بعدها سكرتير البابا يجوهان فيدمانشتاد عرضًا لهذا الموجز بحضور البابا كليمنث السابع وعدد من الكاردينالات.

وكتب الكاردينال نيكولا فون شونبرج رسالة إلى كوبرنيكوس يستحثه فيها ويشجعه على نشر أفكاره في كتاب، ضمها كوبرنيكوس لاحقًا إلى الصفحات الأولى من كتابه.

نقد ودروس مستفادة

يفسر المؤرخون أن سبب تأخر كوبرنيكوس في نشر كتابه يرجع إلى إدراكه عدم قدرة نموذجه على حل كل مشاكل نموذج بطليموس، بل إن نموذجه خلق مجموعة من المشاكل الجديدة. إذ يحتاج نموذج نيكولا إلى وجود أفلاك تدوير، ليصبح بالإمكان تفسير عدم انتظام سرعات الكواكب في مداراتها، ولم تكن الحسابات الناتجة عن نموذج كوبرنيكوس أكثر دقة من حسابات بطليموس كما تُبين مشاهدات الرصد.

حلت هذه المشاكل بعد أكثر من نصف قرن مع ظهور العالِم يوهانس كيبلر، الذي أضاف فرضًا بسيطًا لنموذج كوبرنيكوس، وهو سير الأجرام في مسارات بيضاوية مما جعل النموذج أدق من نموذج بطليموس بشكل واضح.

المشكلة الأخرى التي ظهرت مع نموذج  كوبرنيكوس هي مشكلة حركة الأرض، فلماذا لا نشعر بهذه الحركة وأين الرياح والآثار الأخرى التي كان يُعتقد بحتمية ترتّبها عن هذه الحركة.

سوف تنتظر الإنسانية قرنًا من الزمان كي تجيب عن هذه الأسئلة بشكل وافٍ مع قدوم إسحاق نيوتن.

أرجح الظن أن هذه هي الأسباب التي جعلت كوبرنيكوس يتردد في نشر عمله المهم لسنوات، لكنه بعد بضع عقود وبعد حث عدد من الفلكيين ومنهم رهيتيكوس (جورج يواكيم فون لوشين)، تولى أندريا أوسياندر نشر الكتاب وأحضر نسخة لكوبرنيكوس وهو على فراش الموت. 

انتشر نموذج كوبرنيكوس في القرن الأول بعد وفاته ببطء، للأسباب التي ذكرناها، لكن أهمية النموذج حتى في هذه الفترة كانت لبساطته في تفسير المشاهدات والحسابات. لكن بعد ظهور أعمال كيبلر أصبح هو النموذج السائد بلا منازع.

أما الدرس هنا، فهو أن تاريخنا العلمي هو قصة صراعنا مع أوهام خبرتنا اليومية وحِسّنا العام، فكأنهما نظارة سوداء تمنعنا من رؤية حقائق العالم وفهم قوانينه.