لم تنتشر أفكار نيكولا كوبرنيكوس المتعلقة بمركزية الشمس، والتي عبر عنها في كتابه في دوران الكرات السماوية عام 1543، إلا في عدد قليل من جامعات أوروبا. واستمر ذلك لسبعة عقود، حتى جاء يوهانس كبلر واستخدم نموذجه في وضع قوانين فسرت حركة الكواكب في مداراتها، بدقة لم يسبقه إليها أحد.
لم يكن كوبرنيكوس شخصًا مشهورًا قبل ظهور جاليليو جاليلي ويوهانس كبلر، حتى أن مكان قبره لم يكن معروفًا حتى وقت قريب، إلى أن وجدته عام 2008 مجموعة من الأثريين البولنديين، خاليًا من أي علامات، في كنيسة سانت جونز في فرومبورك، بولندا.
كان لأعمال كل من جاليليو جاليلي ويوهانس كبلر الدور الأكبر في توطيد نموذج كوبرنيكوس وطرحه كنموذج فيزيائي دقيق في وصفه لحركة الكواكب، يتوافق مع بيانات الرصد الفلكية. في مقالنا هذا سوف نتناول أعمال جاليليو جاليلي بشكل عام، وخصوصًا مشاهداته التي أكدت صحة نموذج كوبرنيكوس.
أول العلماء
ينظر معظم مؤرخي العلم إلى جاليليو جاليلي على أنه أول العلماء، فهو أول من طبق المنهج العلمي على كل ما درسه وناقشه من ظواهر فيزيائية. كذلك كان أول من أكد على المبدأ القائل بأن العلوم الطبيعية هي معارف مؤسسة على مجموعات من الظواهر لها وصف كيفي وكمي، وللوصف الكمي الدقيق لابد أن تكتب هذه العلوم بلغة الرياضيات ليمكن اختبارها تجريبيًا بأكثر دقة ممكنة.
أسس جاليليو كذلك قواعد علوم جديدة، منها علم الميكانيكا/الحركة، وعلم الهيدروستاتيكا/توازن ضغوط السوائل، وعدد غير قليل من الاختراعات العلمية التي أثرى بها عصره.
وفي نظر المؤرخين، تميز جاليليو عن معظم المشتغلين بالعلم في تلك الحقبة ببعده عن الأفكار والنزعات غير العلمية، مثل التنجيم والخيمياء، التي شاعت بين كثير من رجال هذا العصر.
ولد جاليليو في مدينة بيزا في إيطاليا عام 1564 لعازف موسيقي محترف يدعى فيسنزيو وأم تدعى جيوليا، وكان أكبر إخوته الثلاث وهما أختان وأخ. وبعد أن أتم تعليمه الأساسي ألحقه والده بكلية الطب بجامعة بيزا أملًا في أن يصير طبيبًا.
كان جاليليو طالبًا كثير الجدل مع أساتذته وأقرانه حتى شاع لقبه "المشاغب" لحبه للمحاججة. قد يكون ذلك ما أعطاه قدرة تحليلية متميزة، فكان يفند فيزياء أرسطو التي أكدت سقوط الجسم الأثقل وزنًا أسرع من الأخف وزنًا، وبالتالي وصوله أولًا إلى الأرض إذا سقطا من نفس الارتفاع.
أدت دراسة جاليليو لحركة الأجسام الساقطة إلى إثبات خطأ هذه المقولات، فكان من أهم العلماء الذين هدموا فيزياء أرسطو بعد أن سادت لنحو 19 قرنًا. في ذلك الوقت لم يكن مقبولًا نقد أرسطو، فذلك كان ضد القانون في معظم جامعات أوروبا، خاصة الكاثوليكية منها.
التأرجح العلمي في بيزا
لم يرغب جاليليو الشاب في دراسة الطب، واهتم بدراسة الرياضيات وفلسفة الطبيعة، أو ما نسميه اليوم الفيزياء، في جامعة بيزا. في هذه الفترة تُحكى قصة طريفة عنه من خلال أحد تلاميذه.
في يومٍ ما، كان عليه الذهاب إلى الكاتدرائية لحضور قداس يوم الأحد، وفي أثناء القداس لاحظ أن الهواء المار عبر النوافذ العليا للبناء يحرك عددًا من ثريات الكاتدرائية يمينًا ويسارًا في حركة منتظمة. جذبه ذلك الانتظام ولاحظ أن الثريات التي لها نفس الطول ولها شدة تأرجح مختلفة (أي تتحرك يمينًا ويسارًا مسافة أكبر أو أصغر) يظل لها نفس زمن التأرجح، وهو زمن الرحلة الواحدة ذهابًا وعودة.
وليتأكد من ذلك استخدم نبض معصمه لحساب زمن التأرجح لعدد من الثريات، فوجد بالفعل أن زمن التأرجح لا يعتمد على شدة التأرجح. وكذلك وجد أن زمن التأرجح يعتمد على طول حبل الثريا ولا يعتمد على ثقلها أو خفتها.
كان لتليسكوب جاليليو أثر مهم على نموذج كوبرنيكوس
ساعدت تلك القوانين جاليليو فيما بعد في ابتكار ساعة البندول المعروفة، فكان أول من صنعها. ورغم عزوفه عن دراسة الطب إلا أنه أفاد الطب بابتكاره حيث استخدم الأطباء البندول في قياس نبض المرضى بعد ذلك. وبعد أربع سنوات ترك جاليليو جامعة بيزا دون الحصول على أي شهادة جامعية، لكنه اهتم في السنين القليلة التالية بالرياضيات والفيزياء، ودرسهما حتى ذاع صيته، وقبلته جامعة بيزا أستاذًا للرياضيات بعد أربع سنوات من تركها.
لم تؤمِّن هذه الوظيفة له راتبًا يكفي للإنفاق على عائلته الصغيرة، كان قد تزوج وأنجب، وكذلك على أختيه وأخيه الموسيقي، لذلك انتقل إلى كرسي الرياضيات في جامعة بادوا المرموقة في جمهورية فينيسيا الغنية عام 1592.
جاليليو في بادوا
ذاع صيت جاليليو في بادوا لأسباب عديدة منها أعماله عن التحصينات العسكرية التي اهتمت بها دوقية فينيسيا بشدة، كذلك أكمل عمله المهم في الميكانيكا، والذي تمت صياغته بشكل رياضي دقيق فكان مثالًا رائعًا لنيوتن الذي اقتدى به بعد ذلك في صياغة أفكاره ومعادلاته التي كونت الفيزياء الكلاسيكية.
بجانب ساعة البندول، كان لجاليليو العديد من المخترعات منها اختراعه لترمومتر أولّي لم ينتشر استخدامه، كذلك آلة معدنية تستخدم كآلة حاسبة. لكن أهم هذه المخترعات كانت التليسكوب نظرًا لأهمية تبعات اكتشافه.
تليسكوب جاليليو ورؤية السماء
بعد أن علم جاليليو أن هناك صانع عدسات يحاول إقناع دوق فينسيا بشراء تليسكوب منه، بادر بصنع تليسكوب بنفسه، ولم يكن أحد يعرف عن التليسكوبات شيئًا سوى أنها عدستان محدبتان في أنبوب، وكانت هذه وقتها تقنية حديثة جدًا.
لكن جاليليو، كما تقول الرواية، صنع تليسكوبًا بعدستين واحدة محدبة والأخرى مقعرة، كي تكون الصورة طبيعية وليست مقلوبة كما في التليسكوب ذي العدستين المحدبتين، فكان أقوى تليسكوب صُنع في وقته.
أعطى جاليليو هذا التليسكوب هدية إلى دوق فينسيا، لكنه بعد ذلك صنع عددًا من التليسكوبات الأخرى التي بعث بها لبعض الشخصيات المهمة، وكان أحدها من نصيب كبلر، وتسبب ذلك في ربط أواصر الصداقة بينهما.
كان لتليسكوب جاليليو أثر مهم على نموذج كوبرنيكوس، حيث اكتشف به أربعة أقمار للمشترى بعد أن رآها تدور حوله، وحسب زمن دورانها. كذلك اكتشف أن درب التبانة، مجرتنا، ما هي إلا تجمع هائل للنجوم. وان للقمر تضاريس كالأرض، وديان وهضاب وجبال، وليست من "الأثير" الأملس، كما كان يعتقد أرسطو وبطليموس. لكن أهم اكتشافين كانا أقمار المشترى ورؤية أطوار الزهري.
كانت أطوار الزهري، كأطوار القمر من هلال إلى بدر، أحد تبعات نموذج كوبرنيكوس التي من الصعب أن تُرى بالعين المجردة. كانت اكتشافات جاليليو مهمة لأنها أكدت صحة نموذج كوبرنيكوس بشكل مباشر وغير مباشر. كان تأكيدًا مباشرًا في رصد أطوار الزهرة لأن هذه الأطوار غير موجودة إلا في نموذج كوبرنيكوس، أما التأكيد غير المباشر فكان في هدم نموذج بطليموس من خلال رؤية أربعة أجرام سيارة تدور حول المشترى، وليس الأرض.
معاداة الكنيسة تحامل الكنيسة على برونو وجاليليو
تغيرت المياه وتحاملت الكنيسة على نموذج كوبرنيكوس وأفكاره رغم تأييدها له ولكتابه في البداية، ما كان واضحًا عندما راسله أحد كاردينالات البابا ليحثه على إصدار كتابه المهم. لكن بعد ذلك منعت الكنيسة هذا عام 1616، واعتبرته "هرطقة وتجديفًا"!
هذه الأسباب لها علاقة قوية بقصة كل من برونو وجاليليو مع الكنيسة.
برونو.. شهيد حرية الرأي
ما هو شائع أن جيراردو برونو أُحرق نتيجة لإيمانه بنموذج كوبرنيكوس عن مركزية الشمس. كان برونو أحد القلائل الذين آمنوا ليس فقط بنموذج كوبرنيكوس، لكن أيضًا أن الكون لا نهائي، وأن النجوم ما هي إلا شموس حولها كواكب وحيوات أخرى. ما نعرفه اليوم هو أنه كان من أتباع حركة تسمى الهرمسية، فيها يقدسون الإله تحوت المصري، أو معادله هرمس اليوناني إله الحكمة والعلم.
بعض معتقدات أو أفكار هذه الحركة كان يحملها عدد ممن يسمون بـ"الإنسانيين" في فترة عصر النهضة. قُبض على برونو عام 1592 في فينيسيا، وظل تحت المحاكمة لثماني سنوات حاولت خلالها الكنيسة أن تجعله ينكر أفكاره، التي وصفت بالمتطرفة حيث دعا الكنيسة إلى العودة إلى العقيدة الصحيحة وتقديس هرمس. ربما كان ذلك سبب طول مدة سجنه قبل حرقه عام 1600.
لا توجد سجلات تفصيلية لهذه المحاكمة، لكن يوجد ملخص لها يؤكد على قبوله للعقيدة المسيحية، لكنه ظل متمسكًا بأفكاره عن الكون، وتحديدًا فكرة تعدد العوالم! في روما الآن، وفي يوم ومكان مصرعه، يتم الاحتفال به سنويًا كشهيد لحرية الرأي.
وفي عصر النهضة، انتشرت بعض الأفكار الهرمسية والأفلاطونية الجديدة في دوائر الإنسانيين، ورأت الكنيسة في ذلك تهديدًا لها، بالإضافة إلى حركات الانشقاق البروتستانتية التي عززت من ذلك الإحساس. رأت الكنيسة في أفكار برونو جرس إنذار يحذرها مما يحمله نموذج كوبرنيكوس من فكر جديد قادر على تغيير أفكار الناس عمومًا، يهدد تصورات الكنيسة عن الكون وسمعتها الفكرية والروحية.
جاليليو.. قيد الإقامة الجبرية
في عام 1616 استدعت الكنيسة جاليليو بعد صدور كتابه "البشير النجمي"، الذي صاغ فيه مشاهداته الفلكية عبر التليسكوب. أثناء ذلك، كانت هناك لجنة بابوية تحقق في مدى صحة نموذج كوبرنيكوس انتهت إلى إدانته بالتجديف ووضع كتابه في قائمة الممنوعات. وأصدرت الكنيسة حينها تعليمات لجاليليو بألا يؤيد أو يدافع أو يدرِّس أفكار كوبرنيكوس، وإذا أعترض على هذه التعليمات يتعين تحذيره من محاكم التفتيش.
في عام 1624 التقى جاليليو البابا، واستطاع الحصول على إذن رسمي لكتابة كتاب يتحدث عن كلا النموذجين لبطليموس وكوبرنيكوس، بشرط ألّا ينحاز لأحدهما على حساب الآخر، سمي بعد ذلك "المحاورة".
صاغ جاليليو الكتاب كحوار بين ثلاثة أشخاص، أحدهم مؤيد لأفكار كوبرنيكوس، والثاني مؤيد لأفكار بطليموس، والثالث كان محايدًا. لكن الحوار أدير بطريقة ظهر منها أن أفكار المدافع عن بطليموس ساذجة وبسيطة، مما أخل بالتوازن الذي وعد به البابا.
لم يتوقف الأمر هنا، بل إن عددًا من المحيطين بالبابا علموا أن جاليليو كتب رسائل إلى شخصيات عامة ومرموقة يذكر فيها صراحة إنه مؤيد لنظام كوبرنيكوس.
كان ذلك دافعًا للكنيسة لاستدعائه في محاكمة كاملة الأركان. أحد المقربين نصحه بأن ينفذ ما يطلب مُنه بدون محاججة وإلا تعرض للتعذيب. في المحكمة، وتحت تهديد تعذيب محاكم التفتيش، تراجع جاليليو عن تأييده لأفكار كوبرنيكوس، وتمت إدانته بالتالي:
- وجود شبهه هرطقة في أقواله ("شبهة" لأن إثبات الهرطقة يعني الإعدام).
- تمنع الكنيسة كتاب "المحاورة".
- يُسجن مدة يحددها القاضي، لكنها عُدلت إلى الإقامة الجبرية في منزله.
كان جاليليو وسيظل أحد أهم وأبرع العلماء والرياضيين الذي تعلمت منه البشرية الكثير، حتى أن نيوتن نفسه، المولود في نفس عام وفاته، يعترف بتأثره بهذا العملاق ويقول إنه وقف على كتفه كي يرى أبعد من أي شخص آخر قبله.