في المقال السابق قدمت بإيجاز أهم ما أنجزه نيوتن في الفيزياء والرياضيات، باستثناء قانون الجاذبية العام، الذي استخدمه لتفسير حركة الأجرام السماوية ومساراتها، ويعتبره كثيرون أحد أهم اكتشافاته.
في هذا المقال نتحدث عن هذا القانون، ونعرض بعض الجوانب الأخرى من حياة نيوتن، لا يُسلّط الضوء عليها عادة إلا فيما ندر، رغم أنها تُظهر بوضوح مدى تعقيد شخصيته.
هالي ونيوتن: اكتشاف قانون الجاذبية
إدموند هالي Edmond Halley (1656-1742)، هو واحد من أهم الفلكيين المعاصرين لنيوتن، وقد حظي بشهرة واسعة بعد تقديمه لثلاثة أبحاث عام 1676، أولها يتناول مدارات الكواكب وثانيها عن حجب القمر لكوكب المريخ، أما الثالث فعن بقعة شمسية كبيرة. بعد ذلك ذاع صيت هالي بوصفه فلكيًا متميزًا في الجمعية الملكية البريطانية.
أبدى هالي اهتمامًا بمسارات المذنبات منذ عام 1682 عندما ظهر مذنب في سماء أوروبا، حرص على تفسير حركته حول الشمس، إذ تحرك نحو الشمس أولًا حتى اختفى، ثم ظهر بعد ذلك وكأنه قادم من ناحيتها، فظنه البعض مذنبًا آخر.
كان هالي وقتها في رحلة سياحية إلى أوروبا، وقد أثارت مناقشاته مع علماء وفلكيين أوروبيين حماسه لتفسير مسار هذا المذنب، الذي حمل اسمه فيما بعد.
كان نيوتن حساسًا للنقد بدرجة مفرطة، وأثر ذلك في علاقاته، وفي صحته النفسية
عاد هالي إلى إنجلترا عام 1684، وانخرط في مناقشات مع عالمين آخرين هما روبرت هوك وكريستيان رين عن مدارات الكواكب وكيفية فهم قوى الجاذبية.
في ذلك الوقت، كان بعض الفيزيائيين والفلكيين يناقشون إمكانية فهم الجاذبية بين جرمين بوصفها قوةً تتناسب عكسيًا مع مربع المسافة بينهما. لم يكن نيوتن حينها هو الفيزيائي الوحيد الذي أدرك ذلك، فقد كان هناك آخرون، منهم الهولندي كريستيان هيجنز، الذي ناقش تلك الفكرة عام 1673.
كانت فكرة هيجنز أن حركة جرم مثل الأرض حول الشمس، يمكن مقارنتها بحركة حجر مربوط في حبل يديره المرء، واقفًا في دائرة مركزها يده الممسكة بالحبل، مثلما اعتدنا أن نفعل صغارًا. نلاحظ هنا أن الحركة دائرية منتظمة، وانتظامها يعني أن قوة الطرد المركزية التي تدفع الحجر بعيدًا عن يدك تساوي قوة شد يدك للحبل.
وبالعودة إلى نظام الأرض والشمس، فمن اللازم وجود قوة تجاذب بين الشمس والأرض تناظر قوة الشد في الحبل، لكي تكون حركة الأرض دائرية حول الشمس. تلك القوة نطلق عليها قوة الجاذبية، ولكي نحصل منها رياضيًا على قوانين كبلر المعروفة، نجد أنها يجب أن تتناسب عكسيًا مع مربع المسافة بين الأرض والشمس.
لكن ماذا عن المدارات الأخرى؛ البيضاوية أو الإهليجية للكواكب والمذنبات. هل نستطيع إثبات أن قانون التربيع العكسي للجاذبية كافٍ للحصول على كل أنواع المسارات التي نراها؟ وما علاقة هذا القانون بكتل الأجسام؟ هنا تأتي عبقرية نيوتن في صياغة قانون الجاذبية بشكل كامل، والإجابة عن هذه الأسئلة جميعًا.
الطريف أنه أثناء مناقشات هالي وهوك، ادعى الأخير أن بإمكانه استنتاج المدارات البيضاوية من قانون التربيع العكسي، بل راهن على قدرته تلك، لكنه لم يستطع تنفيذ ذلك.
وبالمصادفة، أو ربما بتخطيط مسبق، عرض هالي على نيوتن هذه المشكلة أثناء زيارته لكمبريدج عام 1684، واعترته الدهشة حين أخبره نيوتن أنه حلَّ هذه المشكلة منذ سنوات، لكنه لم يجد أوراق حساباته أثناء زيارة هالي، وغالبًا أجرى مجموعة من الحسابات الجديدة.
كان لهذه الزيارة عظيم الأثر على نيوتن، فقد أدرك حينها أهمية نشر أعماله في كتاب المبادئ، والذي يعتبر اليوم قلب علم الفيزياء الكلاسيكية.
تناول الكتاب قوانين الحركة الثلاثة التي تحدثنا عنها في المقال السابق، وكذلك قانون الجاذبية العام الذي صاغة نيوتن بدقة كالتالي "تتناسب قوى الجذب بين جسمين طرديًا مع حاصل ضرب كتلتيهما، وعكسيًا مع مربع المسافة بينهما".
حاول جاهدًا حينها محو تاريخ هوك وتراثه من الجمعية حتى أنه تخلص من صورته الوحيدة
معنى ذلك أنه بزيادة كتلة أي من الجسمين أو كليهما، تزداد القوة. فإذا تضاعفت كتلة أي منهما مثلًا تضاعف مقدار القوة. لكن أيضًا، فإن هذه القوة تقل بزيادة المسافة بينهما؛ كلما تضاعفت المسافة بين الجسمين قل مقدار القوة للربع، هذا ما نعنيه بالتربيع العكسي.
وعلى الرغم من نبوغه وقدراته الفذة، والتي قد تعتقد أنها عززت ثقته بنفسه، كان نيوتن حساسًا للنقد بدرجة مفرطة، وقد أثر ذلك في علاقاته، وفي صحته النفسية في بعض فترات حياته.
ففي عام 1693، أصيب بانهيار عصبي حاد وظل بالمنزل قرابة عام، وظل يبعث برسائل محملة بكثير من الاتهامات لأقرب أصدقائه، ومن بينهم صامويل بابيس، والفيلسوف المعروف جون لوك.
كانت حساسيته للنقد والمنافسة سببًا في كراهيته للفيزيائي الإنجليزي روبرت هوك، والرياضي والفيلسوف الألماني جوتفريد ليبنتز، كما سنرى لاحقًا.
يقول ستيفن واينبرج، أحد أهم علماء الفيزياء في القرن العشرين والحائز على جائزة نوبل عام 1979 عن نيوتن، إنه كان "خصمًا سيئًا، لأنه سيكون عدوًا".
الصراع مع هوك
كان عالم الفيزياء روبرت هوك (1635-1703) شخصًا عصاميًا نشأ في أسرة متواضعة، وعمل مساعدًا للعالم البريطاني الشهير روبرت بويل.
حصل عام 1664 على وظيفة عضو في مجلس الجمعية الملكية البريطانية، إذ كان مسؤولًا عن التجارب العلمية ومتابعة الأبحاث التجريبية المقدمة للجمعية. ومن أشهر أعماله كتاب "الرسم الميكروسكوبي"، الذي كان له عظيم الأثر في تعريف البشرية بعالم الأحياء الدقيقة، ويعتبره البعض من أهم كتب القرن السابع عشر.
توضح بعض فصول هذا الكتاب أفكار هوك عن الضوء وطبيعته الموجية، وخصوصًا دراسته لأنماط تداخل الضوء نتيجة وجود طبقة رقيقة من النفط فوق سطح من الماء، إذ يؤدي ذلك لظهور ألوان قوس قزح، التي تنبئنا عن ظاهرة تداخل أو تراكب موجات الضوء.
وفي تجربة أخرى لاحظ هوك وجود حلقات متتالية من الضوء متحدة المركز عند وضع عدسة على سطح زجاجي مسطح، وفسرها كما نفسرها اليوم، على أنها حلقات تداخل لموجات الضوء.
حاول نيوتن أن يفسر تلك الظاهرة أيضًا باستخدام نظريته عن الطبيعة الجسيمية للضوء لكن تفسيره لم يكن صحيحًا.
ومن الغريب أن أول من أكتشف حلقات التداخل هذه هو هوك عام 1665، وفسرها تفسيرًا صحيحًا لكنها معروفه الآن بحلقات نيوتن، بل وتدرّس هذه الظاهرة في جميع جامعات العالم تحت هذا الاسم مع العلم أن نيوتن اكتشفها عام 1666، وفسرها حينها تفسيرًا خاطئًا. يعطينا هذا مثالًا عن مدى تأثير نيوتن في معاصريه، وقدرته على إعادة كتابة بعض أحداث التاريخ لصالحه وضد منافسيه.
بدأ الصراع بين نيوتن وهوك في عام 1672، عندما قدم نيوتن بحثًا عن الضوء، مفسرًا إياه بأنه مجموعة من الجسيمات الصغيرة. وكان هذا مخالفًا لما يعتقده عدد من الفيزيائيين منهم روبرت هوك، أحد الأعضاء الدائمين في الجمعية الملكية، إذ أن مجمل الظواهر الضوئية كانت تفسر حينها عبر الطبيعة الموجية للضوء لا الطبيعة الجسيمية التي اقترحها نيوتن. وواجه بحث نيوتن الاعتراضات على هذا الأساس. غضب نيوتن وسحب بحثه من النشر في الجمعية ولم يشارك في أي نقاش عام في الجمعية لعقد كامل.
تسببت تلك الحادثة في مشادات بينه وبين هوك لفترة طويلة تحت سمع وبصر أعضاء الجمعية، الذين أدركوا أن تلك المشاحنات ستنال من سمعة الجمعية. ولذلك دفعت الجمعية كلًا منهما إلى عقد تصالح علني، وحدث ذلك بالفعل عن طريق رسائل متبادلة احتفظت الجمعية بها إلى اليوم.
لكن رغم ذلك، فإن نيوتن لم يغفر لهوك ما فعل، حتى بعد موت الأخير وحصول نيوتن على منصب رئيس الجمعية. إذ حاول جاهدًا حينها محو تاريخ هوك وتراثه من الجمعية حتى أنه تخلص من صورته الوحيدة التي كانت تحتفظ الجمعية بها ضمن صور رؤسائها السابقين. فلا توجد إلى اليوم أي صورة باقية لروبرت هوك، أحد أهم علماء تلك الفترة ومكتشف قانون هوك للمرونة المؤسس لعلوم المواد.
الصراع مع ليبنتز
جوتفريد ليبنتز، Gottfried Leibniz (1646–1716) هو رياضي وفيلسوف ألماني شهير، ناصبه نيوتن العداء هو الآخر بعدما ادعى كل منهما أحقيته في اكتشاف حساب التفاضل والتكامل.
تحدث هذه الظاهرة من آن لآخر بين المشتغلين بالعلم، عندما تنكب مجموعة منهم على إيجاد حلول لبعض المشاكل المُلحة في مجال ما، ويحاولون الوصول إلى الحل، الذي قد يكون جهازًا لتجربة أو نظرية أو معالجة رياضية جديدة، ويحدث من وقت لآخر أن يصل شخصان أو أكثر لنفس الاكتشاف في أوقات متقاربة كما في حالة ليبنتز ونيوتن.
يعطي هذا مثالًا آخر عن شخصية نيوتن واستغلاله لمنصبه في الجمعية لأهداف شخصية
لكن سَبب المشكلة بينهما هو تأخر كل منهما في نشر أعماله والاكتفاء بمناقشها مع زملائه ومواطنيه. وهنا تظهر بوضوح أهمية النشر الأكاديمي السريع للأعمال العلمية للحفاظ على حق الباحث فيها.
أخذ خلاف نيوتن وليبنتز صورة صراع عام 1699، عندما اتهم بعض أعضاء الجمعية الملكية، غالبًا بإيعاز من نيوتن، ليبنتز بالسرقة العلمية من نيوتن، وازداد هذا الصراع حدة بعد أن كونت الجمعية الملكية لجنة لتقصي الأمر، ونُشرت نتائج هذه اللجنة في تقرير مفصل جاء فيه أن "نيوتن هو مكتشف حساب التفاضل والتكامل الأوحد". لكن بعدها بفترة تبين أن من كتب هذا التقرير كان نيوتن نفسه، وكال فيه الاتهامات لشخص ليبنتز.
يخبرنا باحثو تاريخ العلم اليوم بالآتي: أولًا، أن كلًا من نيوتن وليبنتز قد اكتشف حساب التفاضل والتكامل بصورة مستقلة عن الآخر، وثانيًا أن كلًا منهما قد أنشأ طريقته الخاصة للوصول اليه.
وصحيح أن نيوتن قد سبق ليبنتز في هذا الكشف زمنيًا، إلا أن ليبنتز قد صاغه بصورة أوضح، وهذا هو السبب الذي يجعلنا إلى اليوم نستخدم صيغة ليبنتز في دراسة الحساب.
يعطي هذا مثالًا آخر عن شخصية نيوتن واستغلاله لمنصبه في الجمعية لأهداف شخصية ولعقاب منافسيه.
الخيمياء واللاهوت
يقول الفيلسوف وعالم الاقتصاد المعروف جون كينز عن نيوتن "إن الخيمياء كانت أهم كثيرًا بالنسبة له من الفيزياء أو الرياضيات، فلم يكن أول العلماء لكنه كان آخر السحرة".
كان نيوتن مولعًا بالخيمياء منذ صباه، حينما أرسلته أمه للمدرسة الإعدادية في مدينة أخرى، وأقام مع عائلة صيدلي لسنوات.
يضعنا هذا أمام احتمال موته من تسمم زئبقي نتيجة لأعماله في الخيمياء
وقد نما اهتمام نيوتن بالخيمياء في ذلك الوقت، عندما رأى معمل الصيدلي ومواده الكيميائية وأدواته وظل محتفظاً بهذا الولع حتى وفاته.
الخيمياء بالطبع هي ذلك الفن القديم الذي حاول دارسوه من القدماء تحويل المعادن البَخسة والتراب إلى معادن نفيسة. والخيمياء تضم مجموعة من المعتقدات، تجمع مبادئ علم الكيمياء البدائي مع بعض الأفكار الفلسفية القديمة.
لكن واحدًا من أغرب الأمور في شخصية نيوتن، هو قراره التخلي عن أبحاثه في مجالي الفيزياء والرياضيات، التي جلبت له شهرة كبيرة قبل الأربعين، وتفرغه بشكل شبه كامل للخيمياء واللاهوت، التي كونت جزءًا معتبرًا من كتاباته لاحقًا.
ويفسّر لنا هذا سبب عدم تقديم نيوتن لأي جديد في مجالي الفيزياء والرياضات بعد ذلك. قضى نيوتن سنوات طويلة من حياته في العمل على أبحاث الخيمياء تلك، لكنها لم تفض إلى شيء يذكر.
جدير بالذكر أن شعرات من رأس نيوتن خضعت لتحاليل بعد فترة طويلة من وفاته، ووُجد فيها نسبة مرتفعة من الزئبق، وهو عنصر سام. ويضعنا هذا أمام احتمال موته من تسمم زئبقي نتيجة لأعماله في الخيمياء، بل وربما يفسر سلوكه الغريب كذلك، إذ أن هذا تأثير معروف لتسمم الزئبق.
انشغل نيوتن لفترات مختلفة من حياته بدراسة الكتاب المقدس، وقد كانت هذه الدراسات مستفيضة ممتدة في بعض الأحيان، ونشر منها بعض الأعمال، كما كانت معتقداته الدينية مختلفة عن معظم مسيحيي عصره، فقد كان أريوسيًا لا يؤمن بالتثليث، بل كان يرى أن ألوهية المسيح هي شكل من أشكال الوثنية. وبالطبع لم يصرح لأي شخص بتلك المعتقدات طوال حياته لأن معرفة ذلك كانت ستؤدي، على أقل تقدير، إلى حرمانه من أي وظيفة جامعية أو أي وظيفة عامة في الدولة.
وقد عرفنا آراءه الدينية من خلال كتاباته العديدة التي تركها بعد وفاته. ربما كان ذلك أيضًا هو سبب كتمانه الدائم لأفكاره وأبحاثه، التي نشرها فقط بعد إلحاح صديقه هالي وآخرين. وربما يفسر هذا عزوفه عن الزواج أيضًا.
قد يتفق مؤرخو العلم على أن شخصية إسحق نيوتن كانت حقيقة غريبة ومعقدة حتى وإن فسر البعض ذلك من خلال نشأته الصعبة، أو كمية الزئبق التي تعرض لها من ممارسته للخيمياء. لكن في الوقت نفسه يتفق الجميع على أن ما قدمه نيوتن للإنسانية لا ينافسه عليه إلا بضع علماء آخرين.
يكتب نيوتن في مذكراته الأخيرة "أنا لا أعرف كيف سيراني العالم لكنني أرى نفسي كولد يلعب على شاطئ فيجد حصوة ملساء هنا أو صدفة جميلة هناك بينما يظل محيط الحقيقة العظيم قابع أمامي غير مُكتَشف".