برخصة المشاع الإبداعي: ويكيبيديا
صورة للنجوم التقطت من منتزه جبل روكي الوطني، كولورادو، الولايات المتحدة

النجوم.. تاريخ موجز لمصابيح الكون الملونة

منشور السبت 9 نوفمبر 2024

كنتُ فتىً تفتنه النجوم؛ أطيل النظر إليها متعجِّبًا من خيوط نورها الفضية المثيرة للتأمل الباعثة للونس. لم أعرف وقتها ماهية هذه الأشياء الساطعة ولماذا هي صغيرة هكذا، ولا أنَّ لها حكايات أكثر بهاءً من نورها الساحر، وكثيرًا ما تساءلت عمَّا إذا كانت هناك نجوم كبيرة كالقمر.

ثم كبرت، وعرفت أن النجوم جزرٌ من المادة، تكونت عبر مليارات السنين وتُعمِّر مليارات أخرى، في المحيط الفارغ المهول الذي نعرفه باسم الكون! من دونها، لن يكون هذا الكون إلا سحابة لا نهائية معتمة من الغاز والغبار، بلا كواكب ولا أقمار. كون ميت حقًا، لولا ما تبعثه النجوم من نورٍ في جنباته الفارغة الموحشة.

النجوم هي نسخ متفاوتة الأحجام من شمسنا لكنها بعيدة، لذلك نراها نقاطَ ضوء صغيرة وخافتة في السماء، فالبعد قاتل حتى لضوء النجوم العظيمة. أقرب النجوم إلينا بعد الشمس هو قنطور الأقرب/Proxima Centauri، وهو نجم غير مرئي بالعين المجردة يبعد عنا 4.3 سنة ضوئية، أي أن الضوء الذي ينبعث منه قادمًا إلينا بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية، سيصل إلينا بعد 4.3 سنة من انطلاقه!

وللنجوم دورة حياة؛ فيها فترة تكوين ونمو، ثم شباب ونشاط وتألق، ثم شيخوخة وخفوت، ثم موت وأفول. لبعضها، مثل شمسنا، مجموعة من الكواكب تدور حولها. وهناك مجموعات شمسية في مركز الواحدة منها نجمان أو ثلاثة أو أكثر، تدور حولها كواكبها بأقمارها.

ومع إرهاصات علم الفيزياء النووية، الذي يدرس التفاعلات المهيمنة على مكونات نواة الذرة من بروتونات ونيوترونات، كشف الفيزيائيون والفلكيون النقاب في ثلاثينيات القرن الماضي عن حياة النجوم وأطوارها، من ميلادها إلى أفولها.

يولد النجم من سحابة غبار وغاز عظيمة يتجاوز حجمها حجم مجموعتنا الشمسية أضعافًا وأضعاف، وقد يصل قطرها لمائة سنة ضوئية. تدور هذه السحابة نتيجة لعدم تماثل توزيع مكوناتها من الغاز والغبار في هذا الحجم الهائل. ومع الوقت، تنكمش بفعل الجاذبية فيزداد التصادم بين أجزائها المختلفة. وكلما انكمشت ارتفعت حرارتها، ليساعدها الدوران على أن تأخذ تدريجيًّا شكل قرص، نسميه "القرص التراكمي".

يطول توازن الضغط والحرارة في النجم لكنه لا يستمر إلى الأبد

تتسبب الجاذبية في انكماش القرص ببطء، ليزداد التصادم والاحتكاك وترتفع الحرارة، حتى يشتعل لبُّ القرص مكونًا كرةً ناريةً مستقرةً من الغاز. يأخذ لبُّ النجم في النمو بجذب المزيد من الغاز والغبار إليه، ليتكوَّن النجم خلال مئات آلاف السنين.

بعدها، تَجمع هذه الكرة المشتعلة حولها المزيد من الغازات والغبار فيزداد الضغط على اللب وترتفع حرارته تدريجيًا، لتبدأ عملية الاندماج النووي عند درجة حرارة 15 مليون مئوية. عندها، يتحول الهيدروجين إلى هيليوم عن طريق الاندماج، مُنتجًا كمًّا عظيمًا من الطاقة التي تكسب النجم الحرارة والضوء. ولأن الهيدروجين موجود بوفرة في هذه الكرة المشتعلة، فلا تنفد طاقة الاندماج النووي هذه قبل مليارات السنين.

أقزام وعمالقة ملونون

للنجوم عند تكوينها كتلٌ متباينة، تحدد أطوارها ومستقبلها، وألوان متعددة، تتحدد وفق أحجامها. فالنجم الذي تبلغ كتلته 13 إلى 80 مرة كتلة المشتري، يكون قزمًا بنيًّا، وهو نوع من النجوم يأفل سريعًا لاعتماده في إنتاج الطاقة على دمج الهيدروجين الثقيل (أو الدتيريم) بدلًا من الهيدروجين العادي الموجود في الكون بوفرة، فينفد وقوده النووي في فترة قصيرة، لا تتجاوز مئات ملايين من السنين. 

أما النجوم ذات الكتلة الأكبر، فتنقسم إلى مجموعتين: متوسطة، مثل شمسنا، وكبيرة.

النجوم ذات الكتل المتوسطة، التي تبلغ كتلة الواحد منها من 0.1 إلى 10 مرات كتلة الشمس، يتحدد لونها في فترة استقرار نشاطها وضوئها وفق كتلتها، فكلما كانت أكبر كلما مال لون النجم أكثر إلى الزرقة.

وهذا النوع من النجوم يعيش طويلًا، لأن وفرة الوقود الهيدروجيني تؤدي إلى استمرار توازن القوتين الأساسيتين في النجم: قوة الضغط الناتج عن الحرارة‘ والذي يزيد حجم النجم كما يزيد الهواء حجم البالون، وقوة الجاذبية التي تدفع أجزاء النجم للداخل فتقلل حجمه. وطالما تساوت هاتان القوتان تظل النجوم مستقرة نشطة.

يطول توازن الضغط والحرارة في النجم لكنه لا يستمر إلى الأبد، فالوقود النووي سيبدأ في النفاد عندما يقترب نفاد الهيدروجين. هنا، سينكمش النجم على نفسه لترتفع درجة حرارته مرة أخرى، فيندمج الهيليوم في مركزه ليكوَّن عناصرَ أثقلَ مثل الكربون والأكسجين.

يُنتِج ذلك طاقة كبيرة ترفع درجة حرارة النجم وتمدد حجمه كثيرًا ليبتلع معظم الكواكب الداخلية لمجموعته. في هذا الطور، يسمى النجم بـ"العملاق الأحمر". وبعده بفترة وجيزة، يصبح هذا العملاق الأحمر كرةَ غازٍ غير مستقرة، تطرد أجزاءها الخارجية فيتعرَّى لُبُّها، ليصبح اسمها "قزمًا أبيضَ".

لا يزال قلب هذا النجم مستعرًا، لكنَّ الاندماج النووي ليس مصدر طاقته، لذلك يعيش فترة زمنية قصيرة حتى يأفل تمامًا، فيصير قزمًا معتمًا أو نجمًا ميتًا.

هكذا ستنتهي حكاية شمسنا.

ثقوب سوداء غامضة

صورة لثقب أسود في مجرة M87 وحوله يظهر أفق الحدث

ولكن ماذا عن النجوم التي تكبر شمسنا بعشر مرات أو أكثر؟ عند نفاد وقوده الهيدروجيني، يتطور النجم الكبير إلى "عملاق أحمر فائق"، أكبر بكثير من العملاق الأحمر الذي ينتهي إليه النجم المتوسط. هذا العملاق الفائق لا يكون مستقرًا بدوره، رغم مروره بمراحل تمدد وانكماش عديدة ينفجر في نهايتها انفجارًا عظيمًا يسمى سوپرنوڤا/supernova.

تكون شدة هذا الانفجار ضخمة حتى إن ضوءه يزيد عن ضوء مجرة كاملة. تعتبر السوپرنوڤا من أهم الأحداث الكونية التي تخبرنا بالكثير، ليس فقط عن فيزياء النجوم بل أيضًا عن تطور الكون وتمدده. لكن هل انتهى النجم هكذا؟ لا، ليس بعد! فبعد انفجار النجم يبقى قلبه الصلب، ليصبح نجمًا نيوترونيًّا إذا كانت كتلة ما تبقى منه بعد الانفجار أكبر من 1.4 إلى حوالي ثلاثة أضعاف كتلة الشمس.

كثافة النجم النيوتروني المادية مهولة، ومجاله مغناطيسي قوي. فكتلة حجم ليمونة من مادة هذا النجم تزن ثلاثة مليارات طن!

ومن أشهر أنواع النجوم النيوترونية النجوم النابضة/pulsars، وهي نجوم يشبه ضوؤها ضوءَ الفنار، ينبض في تتابع زمني محدد، اكتشفها الفلكيان جوزيف تايلور ورسل هولس عام 1974، والنجوم المغناطيسية/magnetars، وهي نجوم لها مجال مغناطيسي كبير جدًا يجعلها مصدرًا لأشعة إكس وأشعة جاما، واكتشفتها المركبة الفضائية لاندر عام 1979.

لكن ماذا عن النجوم التي تكون كتلتها أكبر من ثلاثة أضعاف كتلة الشمس بعد انفجار السوپرنوڤا؟ 

تصبح هذه ثقوبًا سوداء، لتشكّل أحد أغرب التكوينات الفلكية على الإطلاق، تكون للجاذبية فيها السيادة المطلقة على النجم فينهار تحتها تمامًا، ويُدك حرفيًا إلى نقطة صغيرة في الفضاء، حولها منطقة نسميها "أفق الحدث"، يمكن تخيلها ككرة تحيط بالنقطة.

إذا كنت خارج هذه المنطقة فأنت في مأمن وتستطيع الهرب من قبضة الجاذبية الشيطانية. لكن إذا دخلت هذه المنطقة، أي داخل الكرة، فلا توجد قوة في الكون بإمكانها دفعك للخارج، بل ستُسحق إلى نقطة هندسية مع المادة النجمية.

حتى الضوء، أسرع شيء في الكون، ليس بإمكانه الهرب من قبضة الجاذبية داخل هذه المنطقة المسماة بأفق الحدث، لأنه لن يتمكن من الخروج بل سينثني على نفسه ويعود للداخل مجددًا نتيجة قوة جاذبية النجم الهائلة!

الثقوب السوداء هي أكثر الأنظمة الفيزيائية المعروفة غرابة ولا نفهم ما الذي يحدث بداخلها حتى اليوم، وقد لا نعرف على الإطلاق!

حتى آينشتاين، عندما أدرك إمكانية وجودها في نسبيته العامة كأنظمة ممكنة، تعامل معها كنماذج رياضية لا مقابل لها في العالم الحقيقي، ولم يُخفِ انزعاجه منها. ولم يبدأ الفيزيائيون اهتمامهم بها حتى بيَّن روبرت أوبنهايمر وهارتلاند شنيدر إمكانية انكماش سحابة كروية من الغاز والغبار بفعل الجاذبية، لتصبح ثقبًا أسودَ.

حينها، أصبح الفيزيائيون والفلكيون يدرسون الثقب الأسود كنظام فيزيائي ممكن. لكن الدراسات التي أُنجِزت في ستينيات القرن الماضي عن طريق نماذج محاكاة حسابية، أكدت أكثر على إمكانية تطور بعض أنواع النجوم لتصبح ثقوبًا سوداء.

كانت الحاسبات المستخدمة في تلك الدراسات هي نفسها المستخدمة في دراسة نتائج الاندماج النووي الخاص بالقنابل الهيدروجينية في الولايات المتحدة، وتحت رعاية الفيزيائي جون ويلر ومجموعته في جامعة برنستون. لذلك كان ويلر هو أول من استخدم اسم الثقوب السوداء.

ومنذ ذلك الحين، يبدى الفيزيائيون اهتمامًا كبيرًا بأبحاث الثقوب السوداء، ومعهم الفلكيون الذين بدأوا رحلة البحث عنها، أو عن أي إشارة لوجودها في السماء، حتى التُقطت صور بصرية لها عام 2017 في مشروع تليسكوب أفق الحدث/Event Horizon Telescope الذي تمكن من رصد ثقب أسود في مركز مجرة ميسير Messier 87.