صورة مولدة بالذكاء الاصطناعي من bing
ميكانيكا الكم

عالم الكم الغريب

من لم تصدمه نظرية الكم فإنه لم يفهمها

منشور السبت 14 ديسمبر 2024

رأى أينشتاين أن ميكانيكا الكم، رغم نجاحاتها، ليست مكتملة. وقال في مقولته الشهيرة لـ نيلز بور "الإله لا يلعب النرد"، مُعبرًا عن عدم اقتناعه بما صاغه مؤسسوها من قوانين ذات طبيعة احتمالية. لكن نيلز بور رد عليه قائلًا "أينشتاين، توقف عن إخبار الله بما يجب فعله".

استحوذت ميكانيكا الكم على خيال العلماء والمبدعين من مجالات متعددة على حد سواء، حيث قدمت لنا مفاهيم وأفكارًا خيالية وبعيدة عن المعتاد، وتداخلت تطبيقاتها في جوانب مختلفة في حياتنا اليومية، فهي الأساس الذي تعتمد عليه العديد من تقنيات التشخيص الطبي مثل الرنين المغناطيسي النووي (NMR) والتصوير بالرنين المغناطيسي (MRI)، حيث تستخدم مبادئ ميكانيكا الكم لفحص الجزيئات والخلايا داخل الجسم بدقة عالية.

كما تستخدم في الليزر الطبي الذي تعتمد عليه جراحات العيون، وعلاجات السرطان، وإجراءات إزالة الشعر، وتجديد البشرة، مستفيدة من انبعاث الضوء الكمي.

هي تمثل أيضًا الأساس العلمي والتكنولوجي لكل ما تراه حولك من أجهزة إلكترونية ورقمية، بدءًا بالراديو الترانزستور وحتى أجهزة الحاسوب الكمومية الحديثة. كذلك أجهزة الليزر وتطبيقاتها المختلفة، بل كل منتجات الطاقة النووية وموادها المشعة. فبدون معرفتنا لميكانيكا الكم لما كانت معرفتنا اليوم بهذه التطبيقات والابتكارات ممكنة. 

كذلك من المتوقع أن تغيّر تطبيقات ميكانيكا الكم مستقبل العديد من المجالات مثل علوم المواد وعلوم الاتصالات وتشفير المعلومات. 

لكن لنبدأ رحلتنا بالإجابة عن سؤال، ما هي ميكانيكا الكم؟ 

عندما يكون العالم صغيرًا جدًا

تُظهر لنا ميكانيكا الكم أن العالم على المستوى الصغير جدًا كالذرات والجزيئات والإلكترونات وغيرها من الجسيمات دون الذرية، يعمل بقواعد وله سلوك مختلف تمامًا عن العالم الكبير الذي نراه، ويختص هذا العلم بوصف وتفسير هذا السلوك. 

دعونا نضرب مثلًا، المواد التي نراها من حولنا تتكون من عناصر كيميائية بعضها يتكون من عنصر واحد فقط، مثل غاز الأكسجين، بينما البعض الآخر يتكون من أكثر من عنصر، مثل الماء الذي يتكون من الهيدروجين والأكسجين.

أما الذرات فهي وحدات البناء التي تتكون منها هذه العناصر. وعندما نريد أن نتخيل مدى صغر الذرة، يكفي أن نعرف أن رأس الدبوس الواحد يمكن أن يحتوي على ألف مليار ذرة تقريبًا.

سلوك الجسيمات دون الذرية على المستوى الصغير يختلف عن سلوك الأجسام أو العناصر على المستوى الكبير، فكيف اكتشف العلماء هذا الاختلاف؟ وما قيمة هذا الكشف؟ 

تبدأ القصة حينما كانت الفيزياء الكلاسيكية تفسّر سلوك الأجسام بشكل بسيط. فمثلًا، كانت تشرح حركة الأشياء مثل الحجر المقذوف في الهواء أو حركة الكواكب في الفضاء أي على المستوى الكبير. في ذلك الوقت، كان العلماء يفرقون بين نوعين من السلوك؛ السلوك الموجي، مثل موجات الضوء أو موجات الماء، والسلوك الجسيمي؛ مثل كرات البلياردو التي تصطدم ببعضها البعض.

كان العلماء يعتقدون أن هذين النوعين من السلوك مختلفان تمامًا. ولكن مع مرور الوقت، وبدراسة أشياء صغيرة جدًا أو الجسيمات دون الذرية مثل الإلكترونات (أجزاء من الذرة)، اكتشف العلماء شيئًا غريبًا.

في تجربة التأثير الكهروضوئي/Photoelectric effect، أظهر الضوء سلوكًا يشبه الجسيمات رغم أن العلماء كانوا يعتقدون أنه يتصرف كموجة، كما شرحنا في بدايات قصة الكم المثيرة.

صاغ شرودنجر معادلة تصف هذه الموجات بدقة سميت باسمه لاحقًا وكانت من أبسط الصياغات

وفي تجربة دافيسون وجيرمر Davisson and Germer، أظهرت الإلكترونات سلوكًا مثل الموجات، كما لو كانت موجات ماء تتداخل عندما تلقي حجرين في بحيرة، كما شرحنا في هل الضوء موجة أم جسيم؟

هذا الاكتشاف حير العلماء، لأنهم كانوا يتوقعون أن الضوء يتصرف كموجة فقط، وأن الإلكترونات جسيمات فقط. ومع مرور الوقت، أدركوا أن موجات الضوء والإلكترونات يمكن أن تتصرف كلا التصرفين؛ كموجات وجسيمات في نفس الوقت، هذه الظاهرة أصبحت تُعرف باسم الطبيعة المزدوجة.

الاحتمالية في ميكانيكا الكم: الإله لا يلعب النرد

في عام 1925 قدم الألماني فيرنر هيزنبرج نظريته عن ميكانيكا الكم والتي سميت فيما بعد بميكانيكا المصفوفات، التي تُعتبر البداية الحقيقية لميكانيكا الكم، لكنها كانت صعبة الصياغة. بعد ذلك بأقل من عام قدم النمساوي إروين شرودنجر معادلته الشهيرة التي صاغ من خلالها ميكانيكا الكم بشكل مختلف فقد رأى أنه من الأفضل وصف سلوك الاجسام الميكروسكوبية عبر سلوكها الموجي.

صاغ شرودنجر معادلة تصف هذه الموجات بدقة سميت باسمه لاحقًا وكانت من أبسط الصياغات وأكثرها استخداما لميكانيكا الكم. رغم توصل شرودنجر للمعادلة الصحيحة لكنه لم يعرف كيف يفسر هذه الموجات.

في بداية القرن العشرين، كان العلماء يتساءلون؛ ماذا تعني الموجات التي نراها في تجارب ميكانيكا الكم؟ في عام 1926، قدم الفيزيائي الألماني ماكس بورن إجابة عن هذا السؤال، قال إن موجة الإلكترون نفسها لا تعني شيئًا واضحًا فيزيائيًا، لكن مربع الموجة (أي ضرب الموجة في نفسها) يمكن أن يخبرنا عن احتمالية وجود الإلكترون في نقطة معينة. بمعنى آخر، الموجة توزع احتمالات عن أماكن وجود الإلكترون.

بعد ذلك، تبنت مجموعة من العلماء يطلق عليها مجموعة كوبنهاجن وهم ماكس بورن، وفيرنر هيزنبرج، ونيلز بور هذا الفهم وأكدوا أن ميكانيكا الكم هي نظرية احتمالية في الأساس. هذا يعني أن الأجسام الصغيرة مثل الإلكترونات يمكن وصفها كموجات تُظهر حالات مختلفة لمكان الجسم أو طاقته.

لكن عند قياس الإلكترون، لمعرفة مكانه أو طاقته، تنهار هذه الموجة، ويظهر لنا مكان واحد أو طاقة واحدة فقط، ولكن بقيمة احتمالية معينة. على سبيل المثال، إذا أجريت نفس التجربة مائة مرة، قد تجد الإلكترون في مكان معين 20 مرة (أي بنسبة 20%)، وفي مكان آخر 30 مرة (بنسبة 30%)، وفي مكان ثالث 50 مرة (أي 50%) وهكذا.

تجربة الشق المزدوج: هل تدرك الإلكترونات أننا نراقبها

لتوضيح غرابة ميكانيكا الكم، دعنا نتخيل تجربة. نضع مصدرًا للإلكترونات أمام شقين متوازيين على حائل، ثم نستقبل الإلكترونات التي تمر عبر الشقين على شاشة حساسة تُظهر أماكن الاصطدام كنقاط.

تجربة الشق المزدوج

إذا سلكت الإلكترونات سلوكًا جسيميًا، سنرى خطين عريضين على الشاشة، لأن كل خط سيظهر أمام شق واحد.

لكن إذا سلكت الإلكترونات سلوكًا موجيًا، سنرى عدة خطوط متوازية على الشاشة، كما يحدث عندما تتداخل موجات الماء.

عند إجراء التجربة عمليًا، وجد العلماء خطوطًا تتداخل على الشاشة، مما يعني أن الإلكترونات تسلك سلوك الموجات.

لكن، ماذا لو حاولنا مراقبة الإلكترون لمعرفة من أي شق يمر؟ هنا تكمن الغرابة، لا تستطيع ميكانيكا الكم أن تخبرنا بذلك. لكن ما يمكنها قوله هو إن الإلكترون يتصرف كموجة ستنقسم إلى جزئين عند مرورها عبر الشقين، مما يعني أن هناك احتمالات متعددة لمروره من كل شق، لكننا لا نعرف بالضبط من أي شق يمر.

ثم، حاول العلماء إضاءة الإلكترونات ليروا من أي شق تمر. وعندما فعلوا ذلك، تغيرت النتيجة، اختفى تداخل الموجات وظهرت خطوط عريضة، كما لو أن الإلكترونات قد غيرت سلوكها وأصبحت جسيمات.

عدم قدرتنا على قياس هذه الكميات بدقة ليس له أي علاقة بدقة أجهزة الرصد أو بمدى تطورها

حتى عندما حاولوا إضعاف الضوء، بقي التأثير نفسه. وعندما قللوا الإضاءة لدرجة لم يروا فيها الإلكترونات، عاد السلوك الموجي للظهور، كما لو أن الإلكترونات "أدركت" أنهم يحاولون مراقبتها.

هكذا، يظهر السلوك المزدوج للإلكترونات: أحيانًا تتصرف كموجات، وأحيانًا أخرى كجسيمات. كما قال نيلز بور "من لم تصدمه نظرية الكم فإنه لم يفهمها".

أزمة القياسات بين الفيزياء الكلاسيكية والكمية

بالإضافة إلى الطبيعة الاحتمالية للأنظمة الميكروسكوبية والطبيعة المزدوجة الجسيمية/الموجية هناك مفهوم آخر ظهر في ميكانيكا الكم وعبر عن محدودية معرفتنا بفيزياء العالم الصغير هو مبدأ عدم اليقين لفيرنر هيزنبرج. يقول مبدأ هايزنبرج أنه من المستحيل قياس موضع الجسيمات وسرعتها معًا بدقة عالية. أي أن قياسنا لموضع جسيم مثل الإلكترون بدقة عالية سيجعل الخطأ في قياس سرعته كبيرًا جدًا والعكس صحيح.

عدم قدرتنا على قياس هذه الكميات بدقة ليس له أي علاقة بدقة أجهزة الرصد أو بمدى تطورها التكنولوجي، لكنها تعبير عن شيء أساسي في تكوين وفيزياء هذا العالم. 

كذلك يوجد أزواج أخرى من الكميات الفيزيائية لا نستطيع أن نقيسها بدقة متناهية معًا، مثل الزمن الذي يبقى فيه الإلكترون في مستوى طاقة معين في الذرة وقيمة طاقة هذا المستوى.

كي ندرك معنى هذا المبدأ من المهم أن نعرف أنه تبعًا للفيزياء الكلاسيكية يمكن مبدئيًا قياس أي عدد من الكميات الفيزيائية بدقة متناهية، فلا يوجد حد لدقة قياس أي كميات فيزيائية. فيمكننا مثلًا قياس سرعة الحجر المقذوف في الهواء وسرعته بدقة تجعلنا نستطيع رصد ورسم مسار هذا الحجر بدقة عالية، لكن في الفيزياء الكمية لن تستطيع رصد ورسم هذا المسار بدقة. هكذا تختلف الفيزياء الكمية عن الكلاسيكية.