برخصة المشاع الإبداعي: Shutter Runner - فليكر
يظهر التماثل واضحًا في أبراج جسر بروكلين، نيويورك، الولايات المتحدة. صورة ملتقطة في 21 يونيو 2017

الجمال في الفيزياء اسمه السيمترية

دور التماثل وكسره في فهمنا للكون والطبيعة

منشور السبت 10 أغسطس 2024

يقول الكاتب الإنجليزي المختص في علم الجمال روجر سكروتن "إذا سألت أحد المتعلمين في أوروبا بين عامي 1750 و1930 ما الغرض من كل هذه الفنون والآداب والموسيقى، فسيجيب إنه الجمال الذي هو قيمة في ذاته، وهو لا يقل أهمية عن القيم الأخرى مثل الحق والخير".

فالجمال الذي نراه في الفنون ونسمعه في الموسيقى ويحرك مشاعرنا في الأدب، يُثري عقلنا وخيالنا ويأخذنا لعالم آخر بعيدًا عن كَبَد الحياة.

لكن ما لا يعرفه الكثيرون، أن أحد تجليات الجمال، الذي يسمى السيمترية أو التماثل/symmetry، يعدُّ من المبادئ المحورية في عدد من العلوم الطبيعية، وعلى رأسها الفيزياء.

يُقصد بالسيمترية تماثل الأجزاء، مثلما يتماثل نصفا الدائرة. في المفهوم القديم للفن كانت النسب المثالية للطول والمسافات في اللوحات والتماثيل سيمترية، وكذلك التناغمات الموسيقية. يقدم جسم الإنسان مثالاً آخر؛ فالمسافة بين طرفي الذراعين الممدودتين إلى طول الجسم هي 1:1. أي عندما يمد الإنسان ذراعيه وساقيه، تصف النهايات الأربع دائرة تكون السُرة مركزها.

السيمترية في قلب كل شيء

معظم علماء الفيزياء النظرية اليوم لديهم قناعة بأن الطبيعة، رغم تعدد ظواهرها وتنوعها، بسيطة في بنيتها الأساسية. يرى هؤلاء أن سبب هذه البساطة هو السيمترية الكامنة في قلب هذه الظواهر التي قد تبدو معقدة وغير مفهومة. فهذه البساطة/التماثلات تُظهِر نظامًا داخليًا محكمًا تفرض من خلاله قيودًا على الظواهر أو ما نسميه القوانين الفيزيائية. إن كلمة "بسيط" هنا خادعة بعض الشيء، فهي بالنسبة للفيزيائي تعني وجود تماثل يمكن التعبير عنه رياضيًا.

كانت بداية دراسة التماثل في العلوم عندما حاول العلماء تصنيف البلورات الطبيعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. تَظهر تماثلات البلورات عند دوران البلورة حول محور معين بزوايا معينة، فلا يتغير مظهرها العام.

فمثلًا، إذا كانت البلورة على شكل مكعب، فإن أحد محاور تماثلها يمر بمركزه طوليًا، فإذا أدرناه بمقدار 90 درجة سنحصل على نفس الشكل مجددًا. يسمى هذا التماثل تماثلًا رباعيًا، لأن عند دوران المكعب دورة كاملة يكرر الشكل نفسه أربع مرات. هناك بلورات لها تماثل ثنائي وثلاثي وخماسي.. إلخ.

في القرن التاسع عشر، تم تطوير الهيكل الرياضي العام للتماثل والذي نسميه نظرية المجموعة. فكما رأينا يتحقق تماثل المجسم إذا أعادته دورانات معينة إلى شكله الأصلي، وتسمى هذه الدورانات بالتحولات التماثلية، وهو مفهوم استُخدِم على نطاق واسع فيما بعد ليعبر عن مجموعة التحولات التي تترك النظام الفيزيائي بدون تغيير.

تكمن أهمية نظرية المجموعة في أنها صاغت التحولات التماثلية في صور جبرية بسيطة، ما مهد لتطبيق التماثل على نطاق واسع في العلوم وخاصة الفيزياء.

سيمترية الزمان والمكان

صورة ملتقطة بين عامي 1900 و1910 لعالمة الرياضيات الألمانية إيمي نويثر

بدأ التماثل يلعب دورًا مهمًا في الفيزياء، عندما كشفت عالمة الرياضيات الألمانية إيمي نويثر (1882-1935) الستار عن العلاقة المهمة بين قوانين بقاء الكميات الأساسية في الفيزياء، مثل الطاقة وكمية الحركة، والتماثلات الزمانية والمكانية للأنظمة الفيزيائية.

لكن ما هي الطاقة؟ طاقة الجسم هي قدرته على بذل شغل، فعندما تقذف حجرًا في الهواء نحو إبريق على منضدة فيتهشَّم، نقول إن تحطم الإبريق حدث بسبب طاقة الحركة التي اكتسبها الحجر عند قذفه.

أيضًا عندما نترك هذا الحجر يسقط من موضع سكون في الهواء سيصل للأرض وقد يكسر بلاط الحجرة. لكن من أين أتى الحجر بهذه القدرة؟ إنها طاقة الوضع، فوضعه لأعلى أعطاه الطاقة التي حولها حين سقط لطاقة حركة، تدريجيًا، حتى اصطدم بالأرض.

هناك أنواع أخرى من الطاقة كالطاقة الحرارية والطاقة الكهربية، وأنواع أخرى جميعها صور مختلفة لنفس الشيء. قد تتحول الطاقة من صورة إلى أخرى، لكنها لا تُفقد أبدًا، ولا تظهر من العدم.

أما كمية الحركة، فهي مقدار سرعة الجسم المتحرك مضروبًا في كتلته. فمثلًا، دعنا نستخدم خيطًا رفيعًا لنربط مكعبًا خشبيًا صغيرًا بآخر أكبر، ونجعل بينهما زنبركًا مضغوطًا، ونضع ذلك كله على منضدة. لو أشعلنا الخيط في المنتصف سينقطع وينطلق المكعبان في اتجاهين متضادين، وسيكون المكعب الأصغر أسرع من الأكبر.

يفسر قانون بقاء كمية الحركة هذه الظاهرة، بأن مجموع كمية حركة المكعبين وهما ساكنان كان صفرًا، لكن عندما انقطع الخيط ودفعهما الزنبرك، تحرك كل منهما بعكس اتجاه الآخر، فكانت قيمة سرعة أحدهما موجبة وقيمة سرعة الآخر سالبة (عكس الاتجاه)، بحيث يكون مجموع كمية حركتهما صفرًا. تظل قيمة كمية الحركة ثابتة وصفرية بعد قطع الخيط كما كانت قبلها.

تظهر أهمية مبدأ بقاء كمية الحركة في عمل منظومات الصواريخ. فما يعطيها القدرة على الانطلاق بسرعات كبيرة في الغلاف الجوي ثم الفضاء، هو كمية الغازات الهائلة التي تخرج بسرعة من ذيلها فتدفعها عاليًا أكثر وأكثر، طبقًا لقانون بقاء كمية الحركة!

نعود الآن لاكتشاف نويثر الذي بإمكاننا إيجازه كالتالي؛ عندما نُجري عددًا من التجارب الفيزيائية المتطابقة في أوقات مختلفة؛ صباحًا وظهرًا أو بعد مائة عام، فنحصل على نتائج متطابقة. نستطيع أن نستنتج من ذلك قانون بقاء الطاقة، الذي يرتبط بالسيمترية في زمن النظام الفيزيائي.

كذلك عندما نجري تجارب فيزيائية متطابقة في أماكن مختلفة؛ القاهرة ولندن وطوكيو، ونحصل على نتائج متطابقة، نستطيع أن نستنتج من ذلك قانون كمية الحركة! فبقاء كمية الحركة مرتبط بالسيمترية في مكان الأنظمة الفيزيائية. كان لهذا الاكتشاف كبير الأثر على الفيزياء وعلى نظرة الفيزيائيين للتماثل، فقوانين البقاء هي من أهم المبادئ الفيزيائية، ولذلك أخذ التماثل أهمية عظمى، باعتباره مصدر هذه القوانين.

أبعاد النسبية وبنية المادة

مع ظهور النظرية النسبية الخاصة 1905، توسعت استخدامات أفكار التماثل وخصوصًا سيمترية الزمان والمكان، بل ودُمجا في تحولات تماثلية جديدة سُمِّيت لاحقًا بتحولات لورنتز، نسبة للفيزيائي الهولندي هندريك لورنتز (1853-1928)، الذي قدم معادلات هذه التحولات قبل ظهور النسبية الخاصة بسنوات.

ألهمت أفكار ديراك العديد من الفيزيائيين الذين سعوا لدفع الجمال والتماثل ما أدى بالفعل إلى اكتشافات رائعة

استخدم آينشتاين بعد ذلك معادلات لورنتز، للربط بين الأزمنة والمسافات المقاسة من قبل مشاهدَين أحدهما ساكن بالنسبة لنظام فيزيائي والآخر يسير بسرعة ثابتة بالنسبة لهذا النظام. كانت هذه التحولات التي استنتج من خلالها آينشتاين تباطؤ الزمن وانكماش المسافة المقاسين من قبل مشاهد متحرك بسرعة قريبة من سرعة الضوء.

أظهرت تحولات أو مجموعة لورنتز أن الزمان والمكان، اللذين اعتدنا الفصل بينهما في الفيزياء الكلاسيكية، على قدم المساواة من بعضهما، بل قُدّم الزمن هنا كبعد رابع، مثله مثل بقية الأبعاد المكانية!

بعد اكتشاف بنية المادة من ذرات وجزيئات وجسيمات دون ذرية في القرن الماضي، تعلمنا أن جميع الظواهر الفيزيائية في العالم الدقيق يمكن ردها إلى ثلاث قوى أو تفاعلات؛ الكهرومغناطيسية وتعمل بين الشحنات والمغناطيسات، والنووية الضعيفة المسؤولة عن التحلل الإشعاعي للمواد دون الذرية، والنووية القوية التي تربط أجزاء نواة الذرة بعضها ببعض. 

بعدها اكتشفت المختبرات مئات الجسيمات دون الذرية وقُسِّمت إلى نوعين: جسيمات تحكمها أساسًا التفاعلات النووية الضعيفة مثل الإلكترون والميون والتاون والنيوترينو، سميت "الليبتونات" أو "الصغيرة" وعددها قليل. وأخرى تسمى "هادرونات" أو "القوية"، وعددها بالمئات وتتفاعل أساسًا عبر التفاعلات النووية القوية.

اكتشف الفيزيائيون بعد ذلك أن الليبتونات جسيمات أولية، أي لا تتكون من جسيمات أصغر، أما الهادرونات فتتركب من وحدات أصغر تسمى كواركات. هذا هو التركيب الأوَّلي للمادة، ويبحثه فرع في الفيزياء يسمى "فيزياء الجسيمات الأولية".

تطورت مفاهيم التماثل بشكل سريع في هذا الفرع، وأخذت مكانة أعمق عندما دُمجت النسبية الخاصة وميكانيكا الكم في هيكل أكبر هو "نظرية المجال الكمية"، التي قدمت عدة نماذج فيزيائية فسرت سلوك كل هذه الجسيمات.

كان عالم الفيزياء النظرية بول ديراك هو أول من ساهم في هذا الدمج، وهو من أهم الفيزيائيين الذين أكدوا أهمية الاتساق والتماثل الأنيق كشرط للنظريات الفيزيائية. كان ديراك الأكثر تطرفًا في هذا المسعى، حتى أنه صرح مرة "إن جمال المعادلات الفيزيائية له أهمية أكبر من تماشيها مع التجربة".

وحد ديراك عام 1928 نظرية الكم (فيزياء العالم الصغير) والنسبية الخاصة، مقدمًا معادلة لوصف الإلكترون تنبأ من خلالها كذلك باكتشاف جسيم جديد وهو البوزيترون، وهو جسيم مطابق للإلكترون لكن شحنته موجبة، ليبدأ بعدها في إرساء قواعد "نظرية المجال الكمية".

ألهمت أفكار ديراك العديد من الفيزيائيين الذين سعوا لدفع الجمال والتماثل، ما أدى بالفعل إلى اكتشافات رائعة في فيزياء الجسيمات الأولية فهمنا عن طريقها التفاعلات الثلاثة السابقة، على أنها تماثلات معينة تعبر عنها جسيمات في الطبيعة. من أمثلة ذلك الفوتونات التي تنقل تأثير التفاعلات الكهرومغناطيسية والبوزونات التي تنقل تأثير التفاعلات الضعيفة بالإضافة إلى الليبتونات والهادرونات. لكن الصورة لم تكن مكتملة لأن وجود هذه التماثلات في التفاعلات الثلاثة تمنع وجود كتل الليبتونات والهادرونات. لكننا نعرف تجريبيًا أن لهذه الجسيمات كتلًا مقاسة!

في عام 1964 قدم بيتر هيجز وفرانسوا إنجلار طريقة عامة لحل هذه المشكلة عبر كسر التماثل بطريقة معينة. وبعدها بثلاث سنوات طبق الفيزيائي الباكستاني محمد عبد السلام والأمريكي ستيفن واينبرج هذه الطريقة لكسر التماثل الكامن في التفاعلات الضعيفة، ونتج عن ذلك ظهور كتل لكل الليبتونات والهادرونات، فقدما بذلك إحدى أنجح نظريات الفيزياء التي عرفناها إلى اليوم.

قادتنا الطبيعة لطريق السيمترية الرائع الذي فسر تكويناتها الأساسية، كذلك بينت لنا أن كسره ضروري لفهمها. في الفنون يعبر التماثل عن توازن اللوحة ويعطي صورة ستاتيكية أو ساكنة، أما كسره، فينقل لنا الشعور بالتغير والحركة. تدعونا لوحة الطبيعة لتأملها، ورؤية أجزائها ومناطقها المتحركة بانسيابية على تلك الخلفية الساكنة!