
ألفاريز قلب المغامر
في مطلع الستينيات؛ كان عالم الفيزياء الأمريكي لويس والتر ألفاريز (1911 - 1988) يستغل أوقات فراغ رحلته البحثية إلى القارة القطبية الجنوبية؛ في إجراء حسابات تفصيلية تحاول فهم كيف بنى المصريون قبل نحو خمسة آلاف عام، أهرام الجيزة الثلاث التي بدت له حين وقف أمامها للمرة الأولى أثناء زيارته إلى مصر عام 1962 كتلًا حجريةً لا إنسانية!
لكن حسابات ألفاريز لم تقف عند حدود أوقات الفراغ. ففي عام 1964، كان يتواصل بالفعل مع فتحي البديوي، رئيس قسم الفيزياء في جامعة عين شمس، ويطرح عليه فكرته بشأن استخدام الميونات الكونية؛ وهي جزء من الأشعة الكونية التي تنهمر على الأرض من الفضاء، وتتكون من جسيمات دون ذرية لها طاقة عالية، في الكشف عن الحجرات والسراديب بداخل الأهرام.
حدث ذلك بعد أن طوَّر ألفاريز حساباته لدى عودته إلى مكتبة جامعته كاليفورنيا في بيركلي، لمعرفة التركيب الداخلي للأهرام، ليصدمه عدم وجود أي حجرات في هرم خفرع، رغم أن هرم سنفرو يحتوي على حجرتين، وهرم خوفو على ثلاثٍ. ورجَّح وجود حجرات مخفية أو غير مكتشفة في الهرم الثاني، وهنا اهتدى إلى الميونات الكونية، القادرة على اختراق أي كتلة حجرية، وعند استقبالها بالكاشفات وقياس خواصها، نستطيع تمييز ما إذا كانت تمر عبر صخر صلب أو فراغات!
البديوي، من ناحيته، تحمَّس للمشروع بشدة. واستطاع الاثنان إقناع علماء الآثار في مصر بأهمية المشروع، كذلك فعل الفريقان المصري والأمريكي مع حكومتيهما، وبدأ التخطيط الفعلي للمشروع.
كان ألفاريز، وهو أحد أبرز فيزيائيّ القرن العشرين وأكثرهم إنتاجًا، يحظى بسمعة وتقدير في المجتمعات العلمية آنذاك، فقد كان شابًا عندما طوَّر "رادار الاقتراب" المتحكَّم فيه أرضيًا/GCA، الذي يُمكِّن الطائرات من الهبوط في الظروف الجوية الصعبة.
لاحقًا عام 1968؛ سيحصل على جائزة نوبل في الفيزياء لتطويره "غرفة فقاعات الهيدروجين"، وهو جهاز يساعد العلماء في التقاط صورٍ لمسارات الجسيمات دون الذرية، ما أدى إلى اكتشاف العديد منها، الأمر الذي يسَّر لنا معرفة التركيب الدقيق للمادة.
كما قدَّم مساهمات في تطوير الرادارات والتصوير الطبي، وسجَّل بشكل عام أكثر من 40 براءة اختراع.
لكن ألفاريز كان فيزيائيًا يحمل في قلبه شغف طفل يحاول أن يفهم الطبيعة ويستمتع بفك ألغازها. يجد نفسه تارة غارقًا في مجال قريب من الفيزياء التي يألفها، وتارات أخرى بعيدًا عنها كل البعد؛ تحت سفح أهرام الجيزة، أو يبحث طبقات الأرض مع ابنه والتر عالم الجيولوجيا؛ ليقدِّما لاحقًا اقتراحًا رائدًا بأن الديناصورات انقرضت بسبب نيزك مدّمر ضرب الأرض، ثبتت صحّته لاحقًا.
كان فيزيائيًا مغامرًا؛ لا يمل تعلم الجديد، يواصل فهمه، ثم يغرق في تحليله ليفك سرًّا معقدًا من أسراره.
عمَّا في قلب خفرع
سمعت عن ألفاريز قصصًا منذ كنت طالبًا في كلية العلوم بجامعة عين شمس، فقد حكى لي بعض أساتذتي قصة مشروعه للكشف عن حجرات الأهرام، الذي بدأ تنفيذه عمليًا في أواخر ستينيات القرن الماضي، وتعاون فيه مع عدد غير قليل من أساتذة وباحثي القسم. قصصٌ وجدت ما يعززها في مذكرات الرجل التي حصلتُ مؤخرًا على نسخة منها، بعنوان Adventures Of A Physicist/مغامرات فيزيائي، ويوثق فيها تفاصيل مغامراته في الفيزياء وغيرها من المجالات.
ضمَّ مشروع كشف قلب الهرم عددًا من فيزيائيِّ جامعة كاليفورنيا ببيركلي وكذلك عددًا من مسؤولي هيئة الأثار المصرية، الذين رحَّبوا بمشروع يهدف للكشف عن غرف وتجويفات الأهرام دون الإضرار بأحجارها، باستخدام التقنيات الحديثة. وكما وافقت إدارة الآثار المصرية على مشروع ألفاريز وافق عالم المصريات أحمد فخري عندما تواصل الفيزيائي المغامر معه ليطلب منه الانضمام للمشروع؛ ليصبح سفيرًا بين الفريق العلمي والمجتمع الأثري.
وفي مؤتمر الطاقة الذرية الدولي عام 1965 في طوكيو، ناقش ألفاريز وبوجدان ماجليتش بحثهما المقترح مع جلين سيبورج، رئيس لجنة الطاقة الذرية الأمريكية آنذاك. وهناك أقنع البديوي سيبورج بأهمية المشروع واقترح عليه العودة إلى واشنطن عبر القاهرة للحديث مع المسؤولين هنا.
وفي واشنطن، أقنع سيبورج زملاءه في لجنة الطاقة الذرية بدعم المشروع لينشأ مشروع الأهرام المشترك رسميًا، وكُلّفت لجنة من العلماء المصريين والأمريكيين بإدارته، وفوّضت لجنة ثلاثية تضم البدوي وفخري وألفاريز بإدارة العمليات اليومية.
بعدها دعمت مؤسسة سميثونيان المشروع بالجنيهات المصرية، بينما ساهمت شركة TWA بتذاكر طيران. وتبرعت شركة hp بمعدات إلكترونية، وساهمت الجمعية الجغرافية الوطنية وأصدقاء ألفاريز بأموال غير مقيدة. تبرعت شركة IBM بجهاز كمبيوتر حديث لجامعة عين شمس فكان أحد أهم أجهزة الكمبيوتر في الجامعات المصرية في ذلك الوقت.
تمَّ بناء المعدات ثم عمليات اختبارها وتثبيتها في الهرم عام 1967، كذلك انضم ستة أعضاء من فريق جامعة بيركلي إلى المشروع. وبدأت المعدات في العمل يوم 4 يونيو/حزيران!
في اليوم التالي اندلعت الحرب ووقعت الهزيمة، وجاء زمن لم يعد وجود الأمريكيين مُرحبًّا به في البلاد، فعاد الفريق كله للولايات المتحدة. ولكنه ظل يتابع عن بُعد نتائج التجارب التي ينفذها الفريق المصري بكفاءة، حتى عاد أعضاؤه إلى القاهرة بعد أشهر، ليكونوا من أوائل الأمريكيين الذين جاؤوا إلى مصر بعد النكسة، واستقبلوا آنذاك بحفاوة، واستأنفوا العمل!
أخذ مشروع الأهرام سنوات عديدة ليكتمل، ونتجت عنه أبحاث علمية مهمة نشرتها مجلات علمية مرموقة مثل نيتشر، لكن البيانات التي جُمِعت أكدت أن قلب خفرع مُسمط بلا حجرات.
كانت تبعات ذلك المشروع متعددة حصلت جامعة عين شمس على أجهزة حديثة وأساتذة متميزين
زار ألفاريز القاهرة آخر مرة عام 1979، للمشاركة في الاحتفال بالذكرى السنوية العاشرة لمركز الحساب العلمي الذي ساعد في إنشائه بجامعة عين شمس. حينها منحته الجامعة درجة الدكتوراه الفخرية. ويقول ألفاريز في كتابه عن هذه الزيارة "لم أستطع أن أتخيل تتويجًا أكثر ملاءمة لمشروعنا، الذي عزز الصداقة والتعاون بين العلماء والباحثين في بلدينا بينما رفضت حكوماتنا التحدث مع بعضها البعض".
رغم أن نتيجة هذا المشروع كانت سلبية، فإن ألفاريز وفريقه طوَّروا طرقًا جديدةً في الكشف عن الآثار تسمى اليوم "ميوجرافي" نسبة لجسيمات الميونات، ساعدت فريقًا دوليًا في اكتشاف فراغ في الهرم الأكبر، وفق تقرير نُشر في مجلة نيتشر عام 2017، نوَّه إلى أسبقية ألفاريز في تقنية الميوجرافي، حتى إن طيوبي مهدي، وهو أحد مديري المشروع، قال "أعتقد أن ألفاريز كان رجلًا صاحب رؤية حقيقية، فقد كانت لديه الفكرة الصحيحة، ربما مبكرًا جدًا. نحلم بتكريم ألفاريز عبر إعادة تجربة هرم خفرع".
كانت تبعات ذلك المشروع علينا في مصر متعددة؛ حصلت جامعة عين شمس على عدد من الأجهزة الحديثة لرصد الأشعة الكونية، وعلى أحدث الحاسبات السريعة من شركة IBM ما شجع إدارة الجامعة عام 1969 على تأسيس أول مركز للحساب العلمي في الجامعات المصرية، أداره أساتذة متميزون تدربوا على يد ألفاريز وفريقه، وتحول عام 1995، بعد أقل من عقدين على إنشائه، إلى كلية للحاسبات والمعلومات.
الذي هبط بحقٍّ من السماء
في النصف الثاني من السبعينيات، بينما كانت زيارات لويس ألفاريز إلى مصر تقل وتتباعد؛ كان ابنه الجيولوجي والتر، الحاصل على الدكتوراه في الجيولوجيا من جامعة برينستون، يجمع عينات صخرية غريبة من جبال الأبينيني في إيطاليا، تكشف عن طبقات تضمنت تغيرات جيولوجية غير مألوفة حدثت قبل 66 مليون عام، وهو زمن انقراض الديناصورات.
وأثناء حديثهما ذات مرة؛ قدَّم والتر لأبيه إحدى هذه العينات الصخرية وكان فيها ثلاث طبقات؛ واحدة من الحجر الجيري الأبيض في الأسفل تعود إلى العصر الطباشيري (من 143 مليونًا إلى 66 مليون سنة) وفيه عاشت آخر الديناصورات، وطبقة طمي رقيقة في الوسط لم يكن معروفًا كيف تكوَّنت، تفصل الطبقة الأولى عن طبقة ثالثة من الحجر الجيري الأحمر، تنتمي للعصر الثلاثي الذي بدأ من 66 مليون عام.
وجد والتر وفرة من الأصداف الصغيرة والكبيرة في الحجر الجيري الأبيض، وأصدافًا صغيرة في الحجر الجيري الأحمر، بينما لم تحتوِ طبقة الطمي أيًا منها. التفسير الجيولوجي لهذه الطبقات ولعدد لا يحصى من القرائن الجيولوجية أن انقراضًا كبيرًا حدث بين هذين العصرين، بينما كان الاعتقاد السائد لدى الجيولوجيين حتى ذلك الوقت أن الديناصورات انقرضت تدريجيًا.
قدَّم لويس فكرة جديدة لمعرفة زمن تشكُّل الطبقة الوسطى، مفادها قياس نسبة عنصر الإريديوم النادر في هذه الطبقة. فالإريديوم يسمى "المعدن الفضائي" لاحتواء سطح الأرض على نسبة قليلة منه، مصدرها أساسًا غبار النيازك الذي يتكون بمعدل بطيء ومنتظم. فإن وجدت منه نسبة عالية دل ذلك على طول فترة تكون الطبقة وإن كانت النسبة قليلة أو غير مذكورة ففترة التكوين تكون أقصر.
استعان لويس بعالمين في الفيزياء النووية هما فرانك أسارو وهلين ميتشل، لقياس نسب الإريديوم في طبقة الطمي، وجاءت النتائج صادمة للفريق فقد كانت نسبة الإريديوم أكبر 300 مرة من معدلها الطبيعي! فأسقط في أيديهم جميعًا ولم يعرفوا ماذا يفعلون بتلك النتيجة!
تعني هذه النسبة احتمالًا وحيدًا؛ أن الطبقة الوسطى تحتوي على غبار نيزك ضرب الأرض في هذا الوقت. لكن كيف يقضى النيزك على معظم كائنات الأرض في الفترة نفسها؟ لم يكن لديهم فكرة ولا لمعظم العلماء وقتها عن مدى الدمار الناتج عن ذلك!
ترك الفريق المشكلة لفترة كان لويس يستعرض فيها أفكارًا مختلفةً لم ينجح أي منها، فقرر أن العمل على دراسة لتحديد مدى الدمار الناتج عن النيازك وفق أحجامها. أدراك لويس مع الوقت أن نيزكًا بقُطر 10 كيلومترات كافٍ لإفناء 75% من كائنات الأرض. فهذا النيزك الذي يحتوي كتلة صخرية مساوية لجبل إفرست سيصطدم بالأرض بسرعة قدرها 72 ألف كم في الساعة وسيسبب دمارًا مساويًا لما سيفعله تفجير بلايين القنابل الذرية.
كذلك من شأن الاصطدام أن يصنع حفرة يتراوح قطرها بين 100 إلى 200 كيلومتر، ويطلق 15 تريليون طن من الغبار والأحجار والحمم في أعلى الغلاف الجوي، فيقلب النهار ظلامًا تامًا يمتدُّ أشهرًا ويحجب أشعة الشمس ويغرق الأرض في شتاءٍ قاسٍ مظلمٍ وطويلٍ، يُسبب انحسارًا عنيفًا لعمليات التمثيل الضوئي وموت معظم البيئة النباتية وجميع الكائنات المعتمدة عليها. بالفعل يسبب ذلك انقراضًا كبيرًا لأنواع لا حصر لها!
ومثلما أثارت هذه الأدلة في البداية إعجاب بعض العلماء، فإنها واجهت شكوك آخرين، إلى أن ظهرت نتائج جديدة بينت أن طبقة الطمي البينية موجودة في أماكن عديدة ومتفرقة من العالم؛ في البحار والقارات، بها نفس نسبة الإريديوم العالية، ورجَّح ذلك أكثر فأكثر صحة نظرية ألفاريز.
لكن بقي سؤلان مهمان بلا إجابة حتى وفاة لويس، وهو أين سقط هذا النيزك، وهل هناك أدلة أحفورية تشير لوجود فَناء جماعي؟ شارك والتر ألفاريز الابن في بعض الأبحاث التي أجابت عن هذه الأسئلة، وتَبين من خلالها أن هناك شواهد تشير إلى أن هذا المذنب سقط في شبه جزيرة يوكاتان في المكسيك في مكان يسمى تشكسولوب، حيث وجدت حفرة عملاقة قطرها 180 كيلومترًا تكونت جيولوجيًا في الفترة نفسها، وفي وسطها تتركز نسبة عالية من الإريديوم تقل عند الأطراف.
عرف الجيولوجيون أنها حفرة ناتجة عن اصطدام نيزك لانصهار عدد من الصخور فيها تحت درجات حرارة عالية نتجت عن الاصطدام، وأيضًا خروج صخور من الطبقات الداخلية للأرض نتيجةً لذلك! أيضًا تم اكتشاف 25 ألف قطعة أحفورية في نيوجيرسي بالولايات المتحدة يعود عمرها لنفس الفترة مما يدل بالفعل على حدوث عملية فناء جماعي كبيرة.
كان لألفاريز قلب مُغامر يُحدّثنا عنه في "مغامرات فيزيائي". قد تشده فكرة اكتشاف أثري أو تفسير جيولوجي فيقرأ عنها بشغف ويتعلم عن علومها ما يستطيع، ولا يكف عن تحليلها وتجريبها حتى يضع بصمته عليها، ثم يَتبين لنا جميعًا لاحقًا أن تلك البصمة والتي لا تخلو من بصيرة نافذة، باقية بعده تُخلِّد فيه روح المغامرة ومحبة المعرفة.