برخصة المشاع الإبداعي: animalia
نمل الأمازون-بوليرجس

النمل وعبيده

الاستعباد ليس حكرًا على الإنسان

منشور السبت 8 فبراير 2025

ها أنا ذا أستجمع شجاعتي أخيرًا وأكتب عن كائنات طالما شغفت بها وبسلوكها لتأخذني خارج عالمي الذي آنسته، عالم الفيزياء والفلسفة. دعني أصرح أن الموضوع أمتعني كثيرًا لذا استَحق كل البحث والمغامرة.

بدأ اهتمامي بالنمل عندما استوقفني مقال كتبه في السبعينيات البيولوجي المعروف إدوارد ويلسون عن تلك الكائنات. كان مقالًا غريبًا تحدث فيه عن ظاهرة العبودية في مجتمعات النمل، افتتحه بالجملة الآتية "إن مؤسسة العبودية ليست حِكرًا على المجتمعات البشرية، فهناك ما لا يقل عن 35 نوعًا من النمل يعتمد وجودها بشكل ما على العمالة المُستعبَدة"!

جذبني المقال وأثار لديَّ عددًا من الأسئلة. فالعبودية ظاهرة مجتمعية بالأساس، وهي أيضًا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتطور أدمغتنا. فكيف لهذه الكائنات الضئيلة ذات القدرات العقلية والعصبية المحدودة أن تصنع مؤسسة معقدة كمؤسسة العبودية؟ وهل يُدرك النمل أنه مستعبد؟ هل هي ضرورة تطورية؟ هل يمكن للعبيد التمرد؟

غالبًا ما نحتفي بمهارات النمل التنظيمية وسلوكه التعاوني الذي يقارب في تكوينه مجتمعاتنا البشرية. فقد طوَّرت هذه الكائنات الضئيلة مجتمعات معقَّدة لديها قدر معتبر من التنسيق والكفاءة التي نتفاخر بها نحن البشر في مجتمعاتنا. ذلك ما يجعل ظاهرة استعباد النمل أحد الجوانب الأكثر إثارة في مجتمعات هذه الكائنات.

تقوم مستعمرة من نوع معين بغزو مستعمرة لنوعٍ آخر.. فتقتل جميع البالغين المقاومين وتأسر الصغار

تُبنى مستعمرات النمل على أساس تقسيم العمل بشكل فطري، وتكون لأغلبها ملكة جسدها أكبر من بقية النمل في المستعمرة، وفي بعض الأنواع يكون للملكة جناحٌ تستخدمه عند الطيران للتزاوج مع الذكور ودور الملكة الأساسي هو التكاثر وإنتاج آلاف البيضات لاستمرار النوع. فإذا لُقِّحت البيضات فقست إناثًا عامِلات عقيمات، وبأعداد كبيرة. أما إذا لم تُلقَّح أنتجت ذكورًا مجنحة عددهم أقل بكثير من الإناث.

تؤدي عامِلات النمل مجموعة متنوعة من المهام، منها البحث عن الطعام، ورعاية الصغار وإطعامهم، والدفاع عن المستعمرة والملكة. يؤدي تقسيم العمل في مستعمرات النمل إلى تعزيز قدراتها لمواجهة الظروف البيئية المتغيرة والتكيّف معها.

تاريخ استعباد النمل

في أربعينيات القرن الثامن عشر سجل عالم الطبيعة السويسري شارل بونيه ملاحظاته عن سلوك غريب للنمل، أخذ فيه نوعٌ معينٌ شرانقَ نوعٍ آخر إلى مستعمرته. لكن بونيه لم يستوعب الظاهرة بشكل كامل. ثم جاء عالم الحشرات السويسري بيير هوبر عام 1810 ليسجل ملاحظاتٍ تفصيليةً عن غارات نوعٍ من النمل وأخذِه شرانقَ نوع نملٍ آخر.

أدرك هوبر أن هؤلاء الأفراد الذين أُسِروا يُستخدمون كعمال في مستعمرة النمل المُغير. لهذا يُنسب إليه أول وصف واضح لهذه لظاهرة. المثير أن تشارلز داروين ناقش هذه الظاهرة عام 1859 في كتابه أصل الأنواع، واعتبرها مثالًا على الانتقاء الطبيعي وتطور السلوكيات المُعقدة في عالم الحشرات.

ما نعرفه اليوم عن الظاهرة هو أنها سلوك يُلاحظ في بعض أنواع النمل حيث تقوم مستعمرة من نوع معين بغزو مستعمرة لنوعٍ آخر، فتقتل جميع البالغين المقاومين، وتأسر الصغار الذين قد يكونون في طور البيضة أو اليرقة أو الشرنقة، وتأخذهم لمستعمراتها ليكبروا ويخدموا فيها.

يُعتقد أن هذه الظاهرة تطورت كوسيلة للتوسع في نطاق المستعمرات عن طريق استغلال مستعمرات النمل الأخرى، وبالتالي تقليل حاجة المُستَعبِد للقيام بالمهام بنفسه.

يرى داروين أن ظاهرة استعباد النمل تكونت عبر مراحل متدرجة، شهدت بدايتها انخراط بعض الأنواع في غارات انتهازية على مستعمرات نوع آخر لسرقة الصغار ونقلهم كطعام لمستعمراتها. بمرور الوقت، كان عدد من هؤلاء الصغار ينجون من هذا المصير وينشأون كعاملات في المستعمرة وبالتدريج تم قبولهن لفائدتهن، فصار من الأفضل للنمل المُغير الإبقاء على صغار النوع المُهاجَم.

قدم إدوارد ويلسون تفسيرًا آخر لهذا السلوك عن طريق عدد من التجارب التي أحضر فيها أنواع مختلفة من نمل يسمى ليبتوثوراكس/leptothorax لا تُمارس الاستعباد، ووضعها في مستعمرات قريبة من بعضها، بل أقرب مما تتواجد في الطبيعة، فلاحظ أن المستعمرة الأكبر تميل للإغارة على المستعمرات الأصغر، بل وتقتل كل النمل البالغ وتأخذ صغاره.

استعان ويلسون بهذه التجربة لوضع تفسير آخر لظاهرة الاستِعباد باعتبارها نتيجة الصراع على مناطق النفوذ وليس كما صورها داروين صراعًا على الطعام والموارد. 

الفيرمونات والاستعباد

يحافظ النمل على الهيكل الاجتماعي لمستعمراته من خلال نظام معقد من التواصل أو اللغة المشتركة اسمه الفيرومونات/pheromones، وهي إشارات كيميائية يفرزها النمل، كما أي كائن حي، من غدد في جسده لنقل المعلومات بين أفراد نوعه. ومنها ما يدله على أماكن الطعام ومنها ما يحذره من اقتراب الخطر أو يطمئنه بالوصول إلى المستعمرة. وتطول القائمة لتشمل عددًا من نشاطاته. تُمكِّن الفيرمونات النمل من العمل معًا بطريقة مُنسقة ومنضبطة، رغم بساطة تركيب أدمغته.

لاحظ العلماء أن أنواع النمل المُستعبِدة لها استراتيجيات وتكيفات فريدة لأَسر ودمج المُستعبَدين

تلعب الفيرمونات دورًا مهما في استعباد النمل ودمج المُستعبَدين، حيث يعتمد النمل بشكل أساسي عليها للتعرف على أفراد مستعمرته. وعندما يؤسر النمل المُستعبَد ويُحضر إلى المستعمرة، فإنه يتعرض لفيرومونات خاطفيه، وبمرور الوقت يتبناها. عند ذلك فقط يُسمح بقبولهم كأفراد في المستعمرة.

لكن إذا لم يتمكن النمل المُستعبَد من الاندماج مع خاطفيه فغالبًا سيُقتل. أفراد النمل المُستعبَد هم أبناء تلك المستعمرة المُستعبِدة، ولا يعرفون غيرها ولا يفهمون غير فيرموناتها، لذلك من المرجح أنهم لا يدركون كونهم عبيدًا!

شيء آخر نذكره هنا، وهو أن ما يَسَّر لهذا النمل المُستعبَد تبنّي فيرومونات المستعمرة، وجود صلة قرابة بينهما. أي أن النمل المُستعبِد والمُستعبَد يكونون من أنواع قريبة وراثيًا، لذلك يكون تبني فيرمونات المستعمرة ممكنًا للنمل المُستعبَد.

للاستعباد سلوكيات متعددة

رغم قلة أنواع النمل المُستعبِدة نسبيًا (50 نوعًا من أصل 15 ألف نوع معروف)، لاحظ العلماء أن الأنواع المُستعبِدة لها استراتيجيات فريدة لأسر ودمج المُستعبَدين. فعلى سبيل المثال، تتخصص بعض أنواع النمل في استهداف أنواع مُحددة من النمل، بينما يكون البعض الآخر أكثر انتهازية في اختيار ضحيته.

في بعض الأنواع نجحت استراتيجيات الاستعباد في توفير موارد عديدة للنمل المُستعبِد، مما أدى لتطور سلوكياته وبنيته الجسدية فصار نملًا مقاتلًا له فكوك كبيرة مصممة للقتل، لكنها غير مهيئة للأعمال الاعتيادية في المستعمرة.

المثال على ذلك نمل الأمازون-بوليرجس/polyergus الذي صار يعتمد كليًا على الاستعبَاد. فنرى أفراده من المقاتلين الشرسين يتسولون الطعام وتنظيف أجسادهم من النمل المستعبد داخل المستعمرة. وعندما يَقضي وباء على المُستعبَدين في مستعمرات تلك الأنواع يموت هؤلاء المقاتلين جوعًا إن لم يموتوا من الوباء.

قتل صغار الخاطفين قد يكون شكلًا من أشكال المقاومة حيث ينتج عنه إضعاف قوة الغارات على المستعمرات المجاورة

مثال آخر هو نوع الفورميكا/formica، الذي يضم عددًا من الأنواع المُستعبِدة التي يمكنها البقاء على قيد الحياة بدون عبيد، لأن أفراده تستطيع القيام بكل الأعمال في المستعمرة. لكنها غالبًا ما تمارس الاستعباد عندما تُتاح لها الفرصة. هكذا طوَّر نمل الفورميكا نهجًا أكثر مرونة يسمح له بالتكيف مع الظروف المتغيرة.

وهنا من المهم أن نذكر أن السلوك الاستعبادي للحشرات يقع ضمن سلوك اجتماعي أوسع يسمى التطفل الاجتماعي/social parasitism، وهو ما يحدث عندما تعيش كائنات على حساب أخرى، مستغلة مواردها وخدماتها دون تقديم أي فائدة في المقابل، بل على الأغلب تسبب الضرر. الطفيليات الاجتماعية لا تعيش داخل أو على أجساد عوائلها، بل تتطفل على سلوكها الاجتماعي.

يرى إدوارد ويلسون أن التطفل الاجتماعي، ممثلًا في استعباد النمل، يمكن أن يتطور إلى مستوىً أعلى في الاعتماد على العائل، ليس فقط كما حدث لنمل البوليرجس، بل قد يكون التدهور السلوكي كبيرًا كما حدث لأحد أنواع جنس سترونجيلوجناثيس/strongylognathus، الموجود في آسيا وأوروبا.

تشنُّ معظم أنواع هذا الجنس غارات عدوانية لاستعباد الآخرين، فلديها فكوك كبيرة على شكل سيوف. لكن مع الوقت فقد أحد أنواع هذا الجنس والمسمى تستاتشس/testaceus قدراته القتالية، بل إنه بَدَّل الغارات بانتقال ملكته إلى أعشاش النمل المُستعبَد لتعيش جنبًا إلى جنب مع ملكتهم. فتضع كل ملكة بيضًا يتطور إلى عاملات.

لكن ذرية التستاتشس لا تقوم بأي عمل، بل تغذيها عاملات النوع المُستعبَد. لا نفهم كيف تم تشكيل اتحاد الملكتين، لكن من المرجح أن الملكة الطفيلية حثَّت المستعمرة المضيفة على تَبنيها بعد رحلتها الانفرادية من مستعمرتها الأولى. وربما لعبت الفيرمونات دورًا مهما في هذا السلوك العجيب وإقناع بقية المستعمرة أنها ملكتهم!

تمرد في المستعمرة

لكن هل يمكن لأنواع النمل المعرضة للاستعباد أن تطور طرقًا للمقاومة؟

تقول أستاذة البيولوجيا التطورية سوزان فويتزيك أن العاملات المختطفات من نوع تمنوثراكس/temnothorax تقتل جزءًا كبيرًا من صغار خاطفيها. لكنها في مستعمراتها الأصلية ترعى صغارها حتى البلوغ.

توضح فويتزيك إن قتل صغار الخاطفين قد يكون شكلًا من أشكال المقاومة، حيث ينتج عنه إضعاف قوة الغارات على المستعمرات المجاورة التي يسكن فيها نوع النمل المخطوف. هذا السلوك ليس غريبًا على ممالك الحيوان فبعض الطيور الطفيلية، مثل طيور الأبقار/cowbirds التي تضع بيضها في أعشاش الطيور الأخرى، يُهشَّم بيضها كنوع من المقاومة.

لاحظت فويتزيك في معملها أن معظم صغار النمل المُستعبِد لا تعيش، وأن المربيات من العبيد يعتنين بالبيض واليرقات، لكنهن يقتلن العذارى. إجمالًا، تقتل عاملات النمل المُستعبَد 80% من ملكات المُستعبِد الصغار و60% من عاملاته الصغار.

للتأكد من أن هذا السلوك ليس له علاقة بظروف المعمل، احتفظت فويتزيك بمستعمرات من أنواع النمل المُستعبَد والتي لم تتعرض للغزو، حيث نجا أكثر من 90% من الصغار حتى البلوغ.

نعرف أن النمل يمتلك قدرات عقلية وعصبية محدودة، إلا أن سلوك الاستعباد لديه يُعَدُّ مثالًا على قدرة المجتمعات الحيوية على التطور وابتكار حلول معقدة لدعم وازدهار مجتمعاتها. ومن الناحية التطورية، يتضح أن الاستعباد في النمل قد يعزز بقاء أنواع النمل المُهيمن ويوسع به مستعمرته ومناطقه. لكن مع الوقت قد يأخذ النمل المُهيمن إلى اعتماد كامل على العائل أو إلى سلوك تطفلي واضح.