يعتبر النحل من المعجزات التي تتداخل بقوة مع حياتنا اليومية حتى اعتدنا عليه. تتحول المعجزة إلى حالة اجتماعية، وهذا جزءٌ من طبيعتها وطريقتها لتعيش وتخلد داخل حياتنا كبشر. ربما أي معجزة لن تكون لها حياة إلا بوجودنا كطرفٍ ثانٍ نمدها بالتذكر والحكايات.
مصطلح "خلية النحل" شديد الالتباس بالنسبة لي، يحيل دائمًا إلى مشهد خلية سياسية معزولة داخل إحدى الشقق المهجورة وسط الزراعات، تجلس لتخطط لقلب نظام الحكم في بلد ما. للمصطلح ظلال سياسية تنتمي للعالم الثالث.
ممالك كثيفة
هناك استعارات عدة يمكن أن تنسب لخلية لنحل: النظام، العقل، التفاني، إنكار الذات، الأمومة، التضحية. وربما أيضًا يمكن أن نرى فيها النظام الشمولي الصارم، والسلطة الذكورية المتخفية في ثوب امرأة، وهي الملكة، النظام الذي يُسحق فيه الفرد من أجل بقاء الجماعة، وحفظها من الفناء.
النمل أيضًا يعيش وسط ممالك كثيفة العدد تذيب أي فردية للمنتمين لها، فهذه الكثافة والزحام والاحتشاد هي التي تغطي على هشاشته، وصغر حجمه، وحمته من الفناء. تعلمنا منه صغارًا معنى الادخار، هذا السعي الدؤوب طوال شهور الصيف لتخرين الغذاء لأيام الشتاء الطويلة.
النحل أيضًا لا يفعل شيئًا في الشتاء، سوى الرقاد في الظلام داخل الخلية، يتحين اللحظة التي سيترك فيها الخلية في الربيع ليبدأ نشاطه في المزارع، والعمل كرسول تخصيب بين الذكور والإناث من النباتات والزهور.
بالطبع ليس هذا هو سبب وجود النحل أو إخراج العسل، كلها أسباب عرضية، ولكنها جاءت في الطريق الذي سار فيه الإنسان، فسخرها لخدمته، وصنع لها حكاية. هناك من لا يتم ذكرهم خلف ستارة الخلية السوداء، لا تعرف من مات ومن عاش، فالمذابح والخسائر تسير بالوتيرة نفسها بجانب الإنجاز، قتال الذكور على الملكة قائم، لتجديد هذا الجين الذكوري والإبقاء على الأقوى الذي يستحق.
أيضًا هناك انكسارات عديدة وانقسامات تتسلل بين جنبات الخلية، تحدث برضا ودون قتال، عندما تُنتخب ملكة جديدة، لتنزل الملكة الأم عن عرشها، وتخرج مكسورة من الخلية، بصحبة الآلاف من شعبها، لتأسيس خلية جديدة، فالانكسار لا يلغي المستقبل "الإله الوحيد الذي يعبده النحل بصبر ونزاهة" كما يذكر الفيلسوف البجليكي عاشق النحل موريس مترلينك، الذي كتب كتابًا عن النحل عام 1901 اسمه كتاب النحل.
لا سمات شخصية لأفراد خلية النحل، ربما هناك بعض التمايزات والهيراركية، ولكنها ليست دائمة بل قابلة للتغيير باستمرار، خصوصًا من شعب الخلية، ولكنها لا تحمل، مجازًا، سمة الفردانية، فالنحلة الفرد تموت لو انعزلت بعيدًا عن جماعتها.
ربما الوحيد الذي أتوسم فيه هذه السمات الشخصية، هذا الذكر المقاتل الذي حفظ له التاريخ مأثرته/تضحيته، الذي سيحلق وراء الملكة في الهواء، ليترك عضوه الذكرى داخلها، وبعدها ستسقط باقي أعضائه في هذا الجب العميق للفضاء.
هذه التضحية منحته هذه الفردانية وسط مئات مثله، وآلاف قبله وبعده، سيموتون وسيقتلون بشراسة، ولن يذكرهم أحد، وستمتلئ بهم أرضية الخلية، لتأتي الشغالات في الصباح وتكنس هذه البقايا.
ماترلينك في كتابه يوثق هذا المشهد الدرامي الذي يتضمن الصعود إلى ذرى النشوة، ثم الهبوط في هوة الفضاء "وما إن يبدأ التلقيح حتى تُشق بطون هذه الذكور وتنفصل عنها أعضاء التذكير، بما فيها من كل الأحشاء والأمعاء وتهدأ الأجنحة، ثم يلتف الجسم على نفسه ويغور في أعماق هوة الفضاء.. وهنا تضحي الذكور بحياتها في سبيل بقاء نوعها".
نتذكر جميعًا نملة تاريخية كانت لها شخصية، وهناك من أطلق عليها اسمًا، كانت حاضرة عند قدوم جيش سليمان النبي، فحذرت قومها منه ومن جيشه. سمعها النبي سليمان الذي كان يعرف لغتها، ولولا أنه يعرف هذه اللغة، لما عاشت هذه النملة التاريخية، وظهرت شخصيتها التي عبرت عن خوفها ورغبتها في التمسك بالحياة لها ولجماعتها.
بطولة هذه النملة أنها مثل ذكر النحل المقاتل الضحية، أنقذت الجماعة من الفناء، باختلاف الأسلوب الذي اتبعه كل منهما.
ساعة التطريد
للنحل أيضًا لغة، يتم من خلالها الاتفاق على أحداث كبرى تحدث في الخلية، تشبه الثورات تمامًا. ربما عبر درجة صوت الطنين، أو الرقص، أو الرائحة، يتفق النحل سنويًا على وقت محدد لمغادرة الخلية القديمة، والهجرة منها لأخرى جديدة.
لا تنظر الملكة إلا إلى إله المستقبل الوحيد الذي تؤمن به بغريزة داخلية تؤمن بالبقاء لا بالمكانة
يسمون هذه العملية "ساعة التطريد"؛ يستبقون عددًا قليلًا منهم في الخلية القديمة، ليخرج الباقي للبحث عن مدينة جديدة يأوون إليها، قد تكون شجرة، أو شقًا بين الصخور. يخرجون كسرب موحد كبير يضم الآلاف من النحل من سكان الخلية/المدينة القديمة، يغطي مساحة كبيرة من السماء بصحبة الملكة المستبعدة، لأن صلاحيتها انتهت، وهناك أميرات ينتظرن القيام بدورها عندما يعيدون بناء خليتهم/مدينتهم.
ولكن هذه الملكة لا تنظر إلا إلى إله المستقبل الوحيد الذي تؤمن به، بغريزة داخلية تؤمن بالبقاء لا بالمكانة، فتكمل حياتها مع هذا الجمع داخل المدينة الجديدة، ولا نعرف مصيرها بعد ذلك؛ هل ستعيش كفرد عادي؟ أم ستتسرب المرارة إليها على المجد المفقود وتموت، دون تأبين لحياتها؟
هذه الساعة السنوية لا تتم إلا بوحي جماعي يسميه ماترلينك "روح الخلية"، التي توحي لهذا الحشد بالساعة التي يجب أن تغادر فيها، وتضطر فيه الملكة عن التنازل الطوعي عن المملكة "وما الملكة إلا عضو فريد في المدينة بل هي أم المدينة بأكملها، فقد كونتها من لا شيء، من الشك والفقر وعدم الاستقرار، وملأتها بأولادها وبناتها الذين أصبحوا لها رعيةً وشعبًا، وكل ما يسبح على حوائط خلايا من شغالة وذكور ويرقات وعذارى وأميرات صغيرات، يهدد نموهن سرعة طرد الملكة الأم، إلى أن تصبح إحداها الملكة المتوجة بفعل روح الخلية".
ويضيف "فهناك هاتف خفي يناديها لترحل بترك الخلية بعيونها الملآنة بالعسل لصغاره القابعين في الظلام وهم مستقبل هذه الخلية". لأن "النحل يعمل دائمًا للمستقبل، وهو إلهه الذي يعبده في أمانة ونزاهة".
النحل والمعابد
كان المصريون القدماء يكنون للنحل قداسة، فتشيد المناحل داخل المعابد أو بالقرب منها. يتم رعايتها من قبل مُربّي النحل في المعبد. كان هؤلاء النحالون مسؤولين عن تقسيم طوائف النحل لتكوين مخزون جديد من النحل، وحصاد العسل.
المعجزة قريبة جدًا من الدين الذي يفسرها، كانوا يعتقدون أن النحل يخرج من دموع إله الشمس رع عند سقوطها من السماء للأرض، تتحول الدموع إلى نحل يزود أتباع رع بالذهب السائل أو العسل.
هذا المنشأ السماوي الذي لا يعبر بنظرية داروين. ربما الدموع ترمز بشكل آخر إلى نوع من الإخصاب الذاتي أو ازدواج جنس الدموع، التي تحمل الجانب الذكوري والأنثوي: العضو الذكري والبويضات.
خلية ثيلا المزدحمة
خلية النحل هي رواية للكاتب الإسباني كاميلو خوسيه ثيلا كُتبت عام 1943، أثناء حكم الجنرال فرانكو الديكتاتوري، ومنعت من النشر في بلدها بسبب الرقابة، فنشرها الكاتب عام 1951 في الأرجنتين.
هناك بعد مزدوج نرى به خلية النحل فهناك المعنى السلبي للدولة التي تهيمن على فردية الأشخاص
يتفرق زمن الرواية على بضعة أيام من شهر ديسمبر/كانون الأول، تظهر فيها ما يتعدى 300 شخصية، مثل خلية النحل تمامًا، دون بطل نتعمق فيه، ولكن كولاج من الحكايات والمواقف الصغيرة المنفصلة عن بعضها الآخر، فالمشهد الجمعي المزدحم هو الأساس، الذي يفرض نفسه كتجلٍّ للحكم الشمولي.
يشير ثيلا إلى روايته باعتبارها رواية مدينة مدريد، عن مجموعة من الشخصيات التي تعيش حياة يومية، رمادية، مبتذلة، دون أي مجد يسعون إليه.
يكتب عنها النقاد أنها رواية بلا بطل، وشخصياتها تعيش مثل الحلزون، منغمسين في حياتهم الشخصية، عديمة الأهمية، يهمين عليهم الصمت والعزلة، وليس لهم أمل، فهم يعيشون كالأموات.
الوجه السلبي لخلية النحل
أصبح هناك بُعد مزدوجٌ نرى به خلية النحل في الأعمال الأدبية كرواية ثيلا، فهناك المعنى السلبي الذي يبرز تأثير الدولة القومية/الديكتاتورية التي تهيمن ككائن حي متفوق على شعبها، وتختفي أمامها الفردية الشخصية.
فالناس يعيشون في الرواية داخل مدينة غير مرحبة، منعزلين خائفين مثل خلايا النحل. فيمكن استعارة رمز الخلية هنا كدليل على الازدحام الشديد والاختناق والبؤس الذي يعيشه سكان مدريد بعد الحرب، وليس بوصفها المجتمع المثالي الإيجابي المنظم القائم على التضحية والتعاون، وإنكار الذات.
يذكر مقال عن النحل وكنايته في الرواية والسينما في القرنين التاسع عشر والعشرين، ساعد في ترجمته الصديق الشاعر والمترجم عن الإسبانية أحمد يماني، أنَّ هذه الحشرة أصبحت في القرن العشرين تمثل "الآخر" في بيئة مجردة من الإنسانية، تصبح الخلية انعكاسًا للنظام الاستبدادي الذي يعيش فيه سكان المدينة في ظل الديكتاتورية.
ربما الجانب الإيجابي في نظرة القرن التاسع عشر للنحل كان من خلال كتاب حياة النحل لماترلينك الذي كتب "حياة النحلة كلها قربان مقدم في سبيل الجموع".
وكتب أيضًا عن علاقة خلية النحل بالعمل الفكري، فالأديب أو الكاتب خُلق ليحول ما يمتصه من أشياء الأرض، لإنتاج ذلك السائل الغريب الذي يسمى الفكر، مثلما يفعل النحل مع العسل.
حياة مثل النحلة
كانت حياة الأديب والشاعر والطبيب أحمد زكي أبو شادي مثل النحلة في الخلية، كلها دأب وحركة وتنوع أينما حل وحط رحاله، سواء في إنجلترا حيث درس الطب، أو في مصر حيث عاش وكتب شعرًا وكانت أغزر فترات حياته العلمية والأدبية، أو في أمريكا حيث كان مستقره الأخير؛ خلالها جميعًا كان يسعى لتأسيس جماعة أدبية أو رابطة، أو جمعية علمية، أو مجلة، وكلها تجمعات كان يفضل أن يعيش وسطها ويمنحها جزءًا من نفسه وماله وثقافته.
فقد أسس جماعة أبوللو الشعرية، وأصدر مجلة أبوللو، وأصدر مجلة تهتم بالنحل سواء في إنجلترا ومصر، وأسس جماعات أدبية مثل جماعة منيرفا في أمريكا، وغيرها وغيرها من النشاطات والحلقات الإنسانية. ربما كان يبحث عبر هذا الدأب والتأسيس وتلك الخيوط الكثيرة التي تخرج من جسده وينثرها على الطريق؛ حماية المستقبل الذي يؤمن به "إلهه الوحيد الذي يعبده في أمانة ونزاهة".
كتب كتابًا طريفًا سماه إنهاض تربية النحل في مصر، لا يقتصر فقط على الخطبة التي ألقاها عن النحل، بل هناك قصيدة لأحمد شوقي كتبها عن النحل خصيصًا، وقصائد للكاتب ونقد لشعره وإعلانات عن موردين للنحل ولوازمه.
في الكتاب لم يقتصر على حصر النحل بوصفه "الآخر" الإيجابي المثالي رمزًا للتعاون والتفاني، بل أضاف له مفهومه عن المرأة، أو "الملكة السجينة"، وتلك المكانة التي يمكن أن تصل لها في المجتمع الحديث، بجانب ربط نظام خلية النحل بأحكام الجمهورية السليمة.
هناك قصيدة بعنوان "الملكة السجينة" من ديوانه الشفق الباكي، كتب لها أبو شادي مقدمة يشرح فيها غرضه منها، وفي نهاية التقديم يكتب "يصح أن يُضرب المثل بالنحل كنموذج طبيعي راقٍ لأحكام الجمهورية السليمة، كما يصح للحركة الأنثوية أن تعتز بسيرة النحل ونجاحها الاجتماعي الباهر".