في مكان معزول بلا ماء أو كهرباء، نقي ومتسع لدرجة الخوف، لا يبقى أمامك سوى التفاهم مع الطبيعة، ومصادقتها، وهو ما تفعله خديجة، في الفيلم التسجيلي المقدوني أرض العسل، الذي كان من ضمن الأفلام الوثائقية المرشحة لجائزة الأوسكار.
تربي خديجة، وهي في العقد السادس من عمرها، النحل البري على جبال إحدى قرى مقدونيا، بالطريقة التقليدية التي كان يتبعها أباؤها. لا تخشى النحل، بل تتعامل معه وجهًا لوجه، تغني له أحيانًا، توفر له غذاء الشتاء وأيام الجفاف، فتنشأ بينهم ألفة، ومصير مشترك.
كان لها حكمة في جمع العسل، أن تترك نصفه للنحل ليتغذى عليه شهور الشتاء الطويلة. ثم تذهب لسوق العاصمة لتبيع النصف الآخر وتشتري احتياجاتها، ومن بينها صبغة الشعر، ومروحة يد لأمها المريضة التي تعيش معها في البيت الجبلي المصنوع من الصخور.
بعد وفاة أمها لم يتبق أحد مع خديجة، التي تنحدر من أصول تركية، سوى تلك العائلة الكبيرة التي ربّتها، بجانب كلب ومجموعة من القطط.
يحدث طارئ يغيِّر حياتها. تأتي عائلة بدوية، من أصول تركية أيضًا، لتستوطن المكان مع أولادها وقطعانها وضجيجها. يتعلم رب العائلة تربية النحل منها ليزيد دخله، ولكن تختلف نظرته للطبيعة عنها، يستنفد النحل بغرض تحقيق مكاسب سريعة، ما يجعل نحل خليته يُغير على نحل خلايا خديجة من أجل الحصول على غذاءه. مما يقضي على نحل السيدة المقدونية.
طوال الفيلم الذي استغرق تصويره ثلاث سنوات لم تخلع خديجة بلوزتها الصفراء، ودائمًا ما كانت الكاميرا تقوم بتصويرها من بعيد، من فوق الجبال، فتبدو كنحلة متفردة بلونها الذهبي، وهي تشق طريقًا تعرفه جيدًا بين خلاياها وسط الجبال والصخور، أو وهي في طريقها إلى المدينة.
حشود الكائنات الضعيفة
خلال أحد فصول الصيف، وأثناء مروري اليومي على أحد محال البسبوسة القريب من البيت؛ فوجئت بأسراب من النحل تحوم حول المكان وداخله، بل ووصلت إلى الفاترينة الزجاجية التى تقبع خلفها صوانى الحلو، والتصقت بالزجاج الداخلي مستمتعة بسطح جديد بارد ربما تبني عليه خلاياها. وجدت أسراب النحل أخيرًا مكانًا للرزق، الذي قطعت من أجله رحلة طويلة، ومازالت أمامها عدة ساعات حتى الغروب لتستنفد أغراضها من المدينة، وتعود إلى بيتها من حيث جاءت.
ثقافة المدينة التى تقوم على الخوف، وتوقع الخطر، لا ترى وراء أي حشد إلا رغبة فى الصراع
في المرة الأولى التي لفت نظري فيها ذلك المشهد، شعرت بشيء من التقزز، فوجود هذه الكمية من النحل، وفي ذلك المكان الضيق، ولَّد لدي شعورًا بهجوم متوقع. أي حشود لأي كائن مهما كان ضعيفًا، تسرب إلى الإنسان إحساسًا بخوف ما، لا يعرف مصدره. وربما هي ثقافة المدينة التي تقوم على الخوف، وتوقع الخطر، فلا ترى وراء أي حشد، سائر أو طائر، إلا رغبة في الصراع.
الملفت، أن حركة البيع والشراء لم تتأثر بوجود النحل، يقوم البائع بعمله من دون أن يضع النحل في اعتباره. بالتأكيد تعود على وجوده، ونشأت لغة تفاهم بينهما. ربما كانت المشكلة في الزبائن التي لم تعتد وجود الكائن الطائر. في أحد الآحاد التى يغلق فيها المحل، كانت الأبواب موصدة، ولكن النحل لم يتأخر عن ميعاده، ظل يحوم حول المكان فى انتظار فتحه.
المشهد ذاته رأيته فى أحد المخابز في مدينة كاسل، وسط ألمانيا، حيث تم دعوتنا، أنا وسلوى، لحضور معرض دوكومنتا للفن التشكيلي، الذي تشتهر به المدينة. كان النحل أقل كثافة مما رأيته عند بائع البسبوسة، أصبح مستأنسًا، وليس في عجلة من أمره ويحوم حول المخبوزات بحرية تامة ليأخذ نصيبه اليومي من الطعام.
عندما كنت أشاهد أسراب النمل، وأنا صغير، في حديقة بيتنا، وهي تؤسس مسارات الرزق على الجدران، وبين الشقوق، لم ألق بالًا لتلك الكتائب الزاحفة، ولكن عندما كبرت، وشاهدت أحد الأفلام الأمريكية التي تدور حول غزو منظم من النمل لأحد البيوت، بل لمدينة بأكملها؛ تغيرت نظرتي للنمل، لذلك الكيان الضعيف الذي يحمل في عقله مخططات لإبادة الإنسان. ربما كان خوفي طارئًا وتبدد بعدها، ولكنه ترك في ذهني صورة لتلك العوالم من الكائنات التي تحيط بنا ولا نعيرها التفاتًا.
حشرة سماوية
في أماكن وأزمان مختلفة النحل حشرة لها قداستها، تحدث عنها الله فى القرآن فى سورة النحل، حين أوحى لها بأن تتخذ من قمم الجبال والأشجار مسكنًا، وأن تخرج شرابًا فيه شفاء للناس.
النحل إذن حشرة سماوية لا تحتك بعالمنا الدنيوى وقمامته، حتى يحافظ على نفسه نقيًا، ويكون جديرًا بالمنزلة التي منحه إياها الله. النحل له وجه مستتر تحت فكرة الشفاء، وهناك سورة باسمه جعلته يشعر بالتقدير والسمو عند احتكاكه بالبشر. للنحل نظام معقد فى التزاوج، وتراتب في توزيع السلطة. تقف الملكة في قمة هرم السلطة داخل الخلية، لتذكرنا بالممالك الأمومية التي تعود فيها السيادة والعبادة للمرأة لأنها أصل الحياة.
أخجل وأنا أطلق لفظ "حشرة" على النحل، ولكنه للأسف اسمها العلمي، الذي تقف فيه على درجة واحدة مع الذباب والناموس والبعوض. ربما تعرض لنا الطبيعة نظرة لم نعتدها في علاقتها بين الكائنات.
لغة الطير
فى القرآن هناك أيضًا سور للنمل والعنكبوت والأنعام والبقرة، وهناك ذكر لعدة حيوانات كناقة النبي صالح وهدهد النبي سليمان الذي أتى له بخبر عن عرش بلقيس ملكة سبأ. زرع الله في سليمان ملكة لم تتواجد لدى نبي آخر، وهي معرفة لغة الطير والهوام.
عندما أقرأ سورة النمل، أتخيل تلك النملة التي تحدثت إلى زميلتها، كأنها شخصية مستقلة مفردة وليست واحدة ضمن قطيع. التخيل نفسه أشعر به عند الوصول إلى هدهد سليمان، أراه كشخصية مكتملة تسمع وتعي، وتشارك في صنع القرار. تلك الشخصية المستقلة والفردية التى يهبها الله لبعض الحيوانات في القرآن تشير لوحدانية العالم.
الطيور والحيوانات والحشرات لها مكان داخل النص المقدس، لأن النص أصلًا نشأ وسط الطبيعة، أحيانًا ترتبط بمعجزة وأحيانًا للتذكرة، أو لتكون مثالًا لشيء يريد الله أن يضربه للناس ليكشف لهم حكمته الكامنة وراء المثل.
فى القرآن هناك وحدة تجمع بين عالم البشر وعالم الحيوانات، وهناك وسائط ومعجزات تصل بينهما. في العبادات الفرعونية تأخذ الحيوانات مرتبة مقدسة، كالقطط والكلاب والقرود والتماسيح، وتكتسب قوة رمزية ترفعها لمرتبة الآلهة، فهي تمثل معنى أكبر من وجودها ومظهرها.
تتأكد الرغبة في الالتحام بين عالمي الإنسان والحيوان ضمن رابطة مقدسة. هناك مسعى قديم لتعايش كل المخلوقات والأجناس مع بعضها بعضًا، لصنع ذلك العالم المكتمل الموحد والمتعدد في آن الذي يضم كل مخلوقات الله.
في شرفة بيتنا تترك سلوى آنية من الفخار بها ماء، وأخرى بها حبوب لزيارات متكررة يقوم بها اليمام. عند لحظة الغروب، تتعالى أصواتها مع أصوات العصافير، كأنها تودع النهار، وتأخذ أماكنها في الأعشاش التي تتخذها من الأشجار المحيطة بالشرفة. أعرف تمامًا أنها من مكانها ذلك تنظر لنا، وتراقب أي حركة أو صوت يأتي من المكان، الذي اعتادت أن تكون آمنة بجواره، لتفك شفرة العالم الذي يحيط بها.