
كانت الحياة رهانًا يمكننا أن نكسبه
أستيقظ في الثالثة صباحًا على صوت الموبايل وهو يعلن بداية الهجوم على إيران. حرب كانت متوقعة، بعد سلسلة الحروب الأخرى على غزة، لبنان، سوريا، اليمن، لتصفية الجبهة المناوئة لإسرائيل في المنطقة. أيًا كان الموقع الجغرافي، ستستيقظ على أصوات حرب تدور من حولك، أو داخل رقعتك الجغرافية الحزينة، على هذا المسطح الصامت الذي يُسمى العالم.
الحروب كما تفسرها الماركسية أحد أشكال الصراع الطبقي، وغالبًا ما تكون مدفوعةً بمصالح الدول الرأسمالية التي تسعى إلى توسيع أسواقها ومواردها من خلال الغزو والاحتلال.
فمنذ حرب الخليج الأولى، أصبحت الحروب من إيقاعات حياتنا في الشرق الأوسط. لم تعد هناك رقعة خالية من أضواء أو أصوات انفجارات، أو توقعات بويلات قادمة، تصل الآن أخبارها وصورها إلى أسرَّتنا على الهواء مباشرة عبر شاشات الموبايلات المضاءة ليلًا، كجرس الإنذار، وقد أصبحت هي الأخرى جزءًا من طقوس النوم المتقطع.
اتسعت رقعة هذا "الحزن الجغرافي" من حولنا. أعاد هذا الإيقاع الدموي توحيد لا-شعور شعوب المنطقة، وصبَّها في قالب الخوف وتوقع الأسوأ دائمًا. عصور حزينة، ولا نهاية لحزنها في الأفق القريب، أو حتى البعيد، قياسًا بأدواتنا الشخصية القاصرة في استشعار الحزن وتمثله.
ربما الحروب الآن ليست أوقاتًا مستقطعةً معزولةً تحدث في أماكن بعيدة عن حدود حياتنا والتأثير المباشر عليها، بل أصبحت في قلب حرم هذه الحياة اليومية، حتى يسهل استيعابها والتأقلم عليها كأحد التمارين الخاصة بالمستقبل.
تجردنا الحروب من إنسانيتنا
تجردنا الحروب من "إنسانيتنا"؛ هذا المصطلح بدأ تداوله والدفاع عنه في عصر النهضة في القرن الخامس عشر. تُفقدنا الثقة في هذه الإنسانية، وكأنها ليست صفة لصيقة بوجودنا وبجدارتنا في الحياة، بل مستعارة لزمن، ويجب أن نردها الآن، كدين لم نُوفِّه، مهما كان حجم التضحية وفداحة التخلي.
كانت إنسانيتنا بمثابة شيء عالق بنا، قابلناه صدفة ويمكننا التخلي عنه وخلعه عن كاهلنا، ودفع ديننا كاملًا عن عصور الاستخدام السيئ لها، لأنها أصبحت تشكل عبئًا أمام طموحات وتوسعات وأدوات احتكار وملكيات وإمبراطوريات مسلحة تفوق حدود إمكانات هذه الإنسانية التي نعرفها.
أجد عبر تكرار الحروب أن حزننا الجغرافي لم يتغير بل يتعمق ويصبح هاوية
حتى وإن اختلف مضمونها من عصر إلى آخر، تبعًا لأماكن جغرافية متباينة وبضغوط ثقافات استعمارية حاولت تأويلها بأشكال مختلفة، لكن هذا المضمون كان مثار اتفاق نسبي بين الجميع، أو حد أدنى يشكل علامة ضوء أحمر لا يمكن تجاوزها.
كان كل اختلاف في فهم مضمون هذه الإنسانية يوسع من تعدد أوجه هذا المصطلح الذي تعددت نسخه مع الوقت؛ إحداها كونية، تحفظها الأديان والفنون والفلسفات والأساطير الشعبية، وأخرى طبقية صيغت نتاجًا لعالمنا الطبقي المقسم بالحدود، والملكيات، الأعراق، ولون البشرة. هذه النسخة الأرضية بهت تأثيرها من كثرة استهلاكها ولي ذراعها في تأويلات يومية.
أما النسخة الكونية فهي بمثابة الفردوس الأرضي، الذي نرجع إليه كلما تشابهت علينا الطرق، إيذانًا بتيه طويل.
الخوف الحقيقي أن هذه النسخة الكونية أصبحت شبيهةً بالمخطوط المفقود، أحد أبطال رواية اسم الوردة للروائي الإيطالي إمبرتو إيكو، وتدور أحداثها في أحد الأديرة الإيطالية في القرن الرابع عشر، ذروة العصور الوسطى المظلمة التي اتسمت بالتعصب والجهل والخرافة، وعصفت بحقوق وحرية وعقل الإنسان الفرد. هذا المخطوط المخبَّأ في أحد رفوف مكتبة الدير كان يحمل الحكمة ويقف ضد التمييز بكل أشكاله، الديني والعرقي.
عصور ظلام حديثة
كأن في نسخة الإنسانية التي لازمتنا مع بدايات عصور النهضة الكثير من الحروب والخروق وأشكال الصراع، كنوع من الحماية المؤقتة حتى ينشف عودنا ونمارس القسوة بوجهها الصافي والنقي، المجرد من أي اعتبارات أخرى، كما يحدث الآن. كأن هناك حركةً عكسيةً للتاريخ تسير باتجاه عصور ظلام حديثة.
"الآن" نحن على أعتاب عصور ظلام حديثة، مهما كان بريق التقدم التكنولوجي الفائق. الحروب الدائرة ليست فقط شكلًا من أشكال الصراع الطبقي، للاستيلاء على ثروة موارد الدول الأخرى، بل تعجيل في الإعلان عن مولد هذا العصر الدموي الجديد، الذي يصنع على عينه هذه النسخة الجديدة من الإنسانية التي تتسق معه ومع إنسانها الآلي، حقيقةً أو مجازًا.
ربما هذه النسخة من الإنسانية، التي خذلتنا، لم تكن شيئًا خالدًا، كانت قابلة للمحو، كأي شيء؛ حربًا بعد أخرى، واحتكارًا بعد احتكار، لتدخل في دهاليز معقدة من التأويل، بل طغت عليها مفردات جديدة، أصبحت تباريها وتنافسها في كل ما يخص مشاعر ومثاليات البشر التي تخص تفسير معنى وجودهم.
لكن في غياب هذه النسخة القديمة لن يكون هناك أثرٌ لهذا المشترك الجمعي، الذي مزج بين الأديان والفنون والفلسفات، لذا كان يمثل درجة وسيطة بيننا وبين العالم. الآن نواجه مباشرة سطوة الكيانات الكبيرة، التي ستصوغ أفكارنا وتمنحنا صكوك الحياة.
بالرغم من شمولية مصطلح "الإنسانية"، فقد كان رفيقًا نديًا وكفئًا لمسيرة إيماننا، ومسيرة فنوننا، ومسيرة تحررنا طوال قرون. كان المصطلح وما يحمله من تاريخ قادرًا على أن يذيب الحدود، بين الفردانيات المعزولة، ويبني العلاقات، والتفاهمات، ويفرش من حولنا مساحات من الدفء والثقة.
حافة الفناء
نقف الآن على حافة الفناء. السلاح النووي وإن لم يستخدم فهو حاضر بيننا، كمسدس على مائدة التفاوض، كنسخة من القدر الذي يهندس استجاباتنا. ليس الموت هو آخر الحياة، لكنه الفناء، عندما تصبح البشرية مهددةً دومًا بفنائها، وببداية جديدة. الجديد هنا أصبح مادة عقاب وتهديد، وليس بشارة.
أصبح الفناء برغم استحالته جزءًا من المخيلة. الفناء ليس الموت، فالموت فكرة فردية، أما الفناء فموت جماعي، مثل الانتحارات الجماعية لطيور البطريق.
في كتاب أسطورة العود الأبدي، يتحدث المؤرِّخ الروماني وفيلسوفُ الأديان الشهير مرسيا إلياد عن الإنسان القديم، الذي كان يؤمن بعالم أصلي مقدس، يتم العودة إليه، عبر فناء العالم الحالي، غير المقدس. ربما الآن ينتابنا هذا الشعور، نذهب للعالم المقدس عبر الباب الخلفي/الفناء.
ظاهريًا تدور رحى الحرب والموت، وباطنيًا نتطهر من هذا العالم غير المقدس الذي انحرف عن مقصده، باتجاه العالم المقدس للإنسان القديم، الذي لا يزال يتحكم فينا ويشاركنا رغباتنا، لذا يزداد السعي والحنين له، وتصبح أسطورة التكرار قابلة للتطبيق، كلما حدث الانحراف عن هذا الأصل المقدس.
مع تكرار النهايات داخل الحياة الواحدة، يتشيَّأُ الفناء داخل المخيلة، يصبح مادةً من مواد استشعارنا للحياة عن بعد، وتتعكر مياه الحياه بهذا الوافد الجديد.
الحزن الجغرافي
إثر كل حرب تدور في المنطقة، كنت أقول لنفسي يجب أن تبدأ من جديد. لكن في كل مرة، كان ينقص جزء ويتآكل من هذا "الجديد"، فالأمل صناعة للجموع وليس لفرد واحد. كأنه شعلة في ماراثون، كل واحد يسلمها على قدر جهده، وصبره للآخر.
عبر العديد من ماراثونات الأمل هذه، ربما تغير مكاني الذي أنظر منه للحياة، ولكن أجد عبر تكرار الحروب، أن حزننا الجغرافي لم يتغير، بل يتعمق ويصبح هاوية. ربما تنشِّط هذه الفجيعة المتمثلة في الحرب، أسباب البقاء في دواخلنا، والبحث عن أسباب أخرى لم نعهدها من قبل لنبقي بها على حيواتنا، ونبث فيها الحيوية ونستثمر فيها ما بقي من أعمارنا.
يكتب الروائي الكندي مايكل أونداتجي في روايته المريض الإنجليزي عن هذا "الحزن الجغرافي"، ولكن في اتجاه مشرق، على لسان أحد أبطاله وهو الكونت ألماسي، الذي تحترق طائرته، وتقوم قبائل بدو الصحراء الغربية بإنقاذه وعلاجه.
"هل تفهم معنى الحزن الجغرافي؟ نموت ونحن ممتلئون بالكثير من المحبين والقبائل، بالمذاقات التي التهمناها، بالأجساد التي سبحنا وغرقنا فيها، كما ولو كانت أنهار الحكمة، بالشخصيات التي تسلقناها كما لو كانت أشجارًا، وبالمخاوف التي اختبأنا فيها، كما لو كانت كهوفًا".
عالم أفضل
ربما داخل هذا الفناء المتعجل بالحدوث، الذي نقف رهن إشارته، لا بد وأن نفكر ونحسب مواقفنا من هذه الحياة نفسها. أن نقاوم هذا الحزن الجغرافي، وأن تتسع جغرافية وجودنا وتفكيرنا ومحبتنا، ومعارفنا، بشكل عام لتستوعب حزن مكاننا الجغرافي.
ربما نحتاج لأن نغير أماكننا، أن نتسع داخليًا أمام هذا التوسع الخارجي للرعب، الذي لا يترك مكانًا لمفاهيمنا ولإنسانيتنا التي عهدناها، التي أيضًا يمكن أن نطورها، ونصنع نسخة جديدة/قديمة منها، وليس أن نبترها ونتخلى عنها كما تملي علينا أنظمة العالم الحديث.
لا بديل أمامنا إلا البحث عن عالم أفضل، مهما كانت سذاجة هذه الكلمة وهذا المسعى، هذا العالم الذي رافق أول فشل جمعي في التأقلم مع الحياة، وأنظمة العيش بها، وتحولات البشر ودخولها في مجتمعات. منذ تلك اللحظة الجديدة والهامة، بدأ التوق لعالم أفضل.
لقد توسع العالم فجأة أمام إنسان الكهف الذي كان يشعر بالاتساق داخل وحدته، وداخل مخاوفه، كبطل "المريض الإنجليزي". ولكن مع الوقت أصبح هذا الإنسان أكثر نضجًا بالحزن الذي أصابه، وبالجغرافيا التي اتسعت من حوله، وعمقت من فهمه للحياة، وجعلته يرتحل نفسيًا ومكانيًا بحثًا عن هذا العالم الأفضل.
لا نبحث عن عالم أفضل خارج هذا العالم، لكن داخله. بأن نغير من نظرتنا إليه، وبدلًا من حيازة أدوات القوة، نتجنب بقدر الإمكان الدخول في هذا السباق المفتوح على الفناء، الذي سيجردنا جميعًا من قوانا الروحية.
هذه القوى التي حُيِّدت في الصراع، قامت به هذه الأنظمة التي حيدت من قبل الأديان، والفنون، والفلسفة، وسحبت منها فاعليتها، وتركتها كهيكل فارغ كأننا نعيش داخل برواز.
ربما نحتاج أن نعيد تأمل واستعادة روح تجارب حياتنا المنسية، عندما كان عندنا طموح وأحلام تفوق بؤس العالم، بل وتغطي عليه، عندما كانت الحياة أمامنا في كل لحظة رهانا، يمكن أن نكسبه.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.