ثمة ربط تاريخي لا يمكن التغافل عنه بين تاريخي ألمانيا وجنوب إفريقيا مع الجرائم الإنسانية، ليس بالضرورة ربطًا مشتركًا، بقدر ما هو إشارة إلى وجود حدث لا إنساني في كارثيته يقف حجر زاوية في كل بلد منهما، ويعلق في ذاكرة ووعي النخب السياسية والثقافية في البلدين، وتستشعر جموع الشعبين أثر كل حادث منهما على مجريات الحياة.
بين أثر الهولوكست والفصل العنصري، تشكلت الشخصية الحديثة للدولتين، انطلاقًا من اعتراف واضح بالتاريخ، بكل مآسيه وآلامه، وتعهد معلن بالالتزام بعدم السماح بتكرارها.
كانت الهولوكست محطة مؤلمة في تاريخ ألمانيا الحديث، جرى اعتبارها تاريخيًا وسياسيًا أهم الآثار المفزعة للحرب العالمية الثانية، التى استمرت 6 سنوات وأودت بحياة ما يزيد عن 50 مليون شخص وفق أقل التقديرات، وشهدت أول وأبشع استخدام للسلاح الذري بإلقاء الولايات المتحدة الأمريكية قنبلتيها الذريتين على هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين.
لكن مع كل هذا الفزع بقيت الهولوكست الأثر المستمر الذي لا يُنسى ولا يُسمح بتجاهله، ويُوضع في الوثائق الرسمية والأبجديات السياسية في ألمانيا وكثير من دول الغرب، وأيضًا بالطبيعة إسرائيل.
الجريمة المؤسسة
رغم بشاعة كل ما جرى في الحرب العالمية الثانية على يد الفريقين المتحاربين، وفي القلب منه استخدام أسلحة الدمار الشامل على المدنيين، لا يمكن الزعم بأن الهولوكست كانت أقل بشاعة أو التهوين منها ومن أثرها، حيث تم استهداف بشر بعينهم لأنهم يهود ومورست ضدهم كل صور التعذيب البشعة، وأولها أفران الغاز في محاولة لإبادتهم. ورغم تعدد ضحايا الحرب، ظلت الهولوكست جريمة عنصرية وشكلًا مدانًا من أشكال الإبادة الجماعية.
تعلّم العالم من هذه المآسي أن يجتهد لمنع أي حروب شبيهة واسعة النطاق، وأن يجتهد أيضًا لتقييد استخدام أسلحة الدمار الشامل، وتقليل ما تمتلكه الدول الكبرى من الرؤوس النووية. لكن أوروبا الغربية، في مقدمتها ألمانيا، تعلمت أيضًا ألا تسمح بتكرار الهولوكست أو ما يشبهها من وسائل الإبادة.
أعاد أحفاد الناجين من المحرقة في أوروبا بناء "هولوكست فلسطينية"
خرجت ألمانيا الحديثة من الحرب كدولة اتحادية ديمقراطية فاعلة في أوروبا، وخرجت إسرائيل دولة مُنتَزعة لليهود من لحم أرض فلسطين، جرى تسويقها على أنها تعويض لليهود عن معاناة الهولوكست، رغم أن وعد بلفور أسس عمليًا للهجرات اليهودية الاستيطانية قبل نحو 22 عامًا من اندلاع الحرب العالمية الثانية والهولوكوست.
ومن قلب معاناة مماثلة خرجت دولة جنوب إفريقيا الحالية، بعد عقود من الفصل العنصري، ومحاولة أقلية بيضاء من المستعمرين المهاجرين السيطرة على الأرض والبشر، وحرمان الغالبية السوداء من السكان الأصليين من حقوق المواطنة كافة، في ممارسة تمييزية كانت الأبشع عبر التاريخ. واستمرت معاناة السود مع التمييز والعنصرية ليستمر نضالهم الكبير سلميًا وعسكريًا حتى سقط هذا النظام في 1994، وتأسست الدولة الديمقراطية الواحدة التي يتساوى فيها المواطنون جميعهم.
خرجت ألمانيا من جرح الهولوكست بدرس وتعهد واضح ومعلن ومتفق عليه من نخبها وأحزابها وسياسييها وقادتها؛ لن نسمح بحدوث ذلك مرة أخرى. وخرجت جنوب إفريقيا من جرح الفصل العنصري بدرس وتعهد مماثل. ومَثّل التعهدان إطارًا أخلاقيًا مهمًا في تعريف البلدين وصناعة قرارهما السياسي.
لكن إسرائيل، التي تشكلت في تكوينها الغالب من مهاجرين أوروبيين قالوا إنهم ناجون من المحرقة النازية، أعادت وضع الإطار الأخلاقي لألمانيا وجنوب إفريقيا على ميزان واضح، ليبدو تعريف التعهد الوطني بأننا "لن نسمح" أكثر انسجامًا مع سياسات جنوب إفريقيا، لكنه مراوغ تمامًا ومفضوح في الحالة الألمانية.
عقدة الذنب
أعاد أحفاد الناجين من المحرقة في أوروبا بناء محرقة جديدة، "هولوكست فلسطينية"، تقمصوا فيه دور الجلاد ومارسوا مع الفلسطينيين أشكال البطش والعنف والعدوان والعنصرية وسرقة الأراضي والفصل العنصري والإبادة الجماعية.
وبعد السابع من أكتوبر صعّد الجيش الإسرائيلي من ممارساته بشكل صادم وفاضح لكل مدونات حقوق الإنسان والعدل الدولية، في تطبيق حي منقول على الهواء مباشرة لكافة سيناريوهات الإبادة الجماعية لجماعة بعينها كونهم فلسطينيين، ودفْعِهم إلى النزوح من أراضيهم في تكرار أحدث لجرائم "النكبة" حين انتزعت هذه الدولة من أصحاب الأرض الأصليين.
وقفت ألمانيا بحكومتها وأحزابها ونخبها مع الإبادة وليس ضدها، كما يجب أن تفعل احترامًا لدروس الماضي وتعهدات عدم السماح. يرفعون شعارًا خادعًا عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد المدنيين العزل وملاجئ الأمم المتحدة والكنائس والمساجد والمدارس والممرات الآمنة، ويدعمون الحملة غير المسبوقة بالمال والسلاح والمواقف السياسية. عليهم إذن أن يعيدوا تفسير تعهدهم التاريخي ليكون "لن نسمح بحدوث ذلك لليهود فقط، لكننا نقبله لأي بشر آخرين في العالم".
جنوب إفريقيا استوعبت دروس الماضي وهو ما انعكس على ممارساتها ومواقفها من العدوان الإسرائيلي على غزة
عبر عن ذلك بوضوح موقف المستشار الألماني أولاف شولتس "لا يوجد سوى مكان واحد لألمانيا في هذا الوقت، وهو بجانب إسرائيل، تاريخنا ومسؤوليتنا الناشئة عن المحرقة اليهودية (الهولوكوست)، تجعل مهمتنا الدائمة أن ندافع عن أمن دولة إسرائيل".
لم يهتم المستشار الألماني وحكومته إن كان أمن إسرائيل المزعوم يمكن أن يضمنه قتل أكثر من 22 ألف فلسطيني بينهم 8 آلاف طفل على الأقل، وأكثر من 6 آلاف امرأة، ليضع بلاده مجددًا كمسؤولة بالدعم والتواطؤ عن إبادة جديدة وهولوكست جديد أكثر توثيقًا ومعاصرةً.
عندما تقول الديباجات الألمانية "لن نسمح بحدوث ذلك مرة أخرى"، فليس معنى هذا أنها تعلمت شيئًا من دروس الماضي، لأن الممارسة الحالية تقول إنها سمحت وتسمح وتدعم السماح بذلك وبشكل أكثر بشاعة، لا يقتصر فقط على الدعم السياسي والإعلامي، بل يمتد إلى الدعم العسكري بصادرات الأسلحة وقمع المناهضين للحرب الإسرائيلية الإجرامية.
وفي الوقت الذي تقول الديباجات في جنوب إفريقيا إن "ذلك لن يتكرر" فقد تعلمت واستوعبت دروس الماضي جيدًا، وعلمت أنها أسست نظامًا قائمًا على مناهضة الفصل العنصري والإبادة الجماعية داخل جنوب إفريقيا وفي كل مكان، وهو ما انعكس على ممارساتها ومواقفها من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والذي لم ينته بقطع العلاقات مع دولة الاحتلال، وإنما امتد إلى ملاحقة إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية باعتبار أن ما تقوم به الآن في غزة هو جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان، وما كانت ولا تزال تقوم به في كل الأراضي الفلسطينية قبل 7 أكتوبر وبعده هو جريمة فصل عنصري/أبارتهايد مكتملة، حسب توصيف منظمة العفو الدولية وغيرها من المنظمات الحقوقية العاملة على الملف الفلسطيني.
تشابه ماضي شعب جنوب إفريقيا مع حاضر شعب فلسطين، فخرجت السياسات الجنوب إفريقية معبرة عن روح نيلسون مانديلا، ترفض الظلم والتجبر وتنتصر لكرامة الإنسان في كل مكان. وتشابه ماضي ألمانيا مع حاضر إسرائيل، فخرجت السياسات الألمانية أقرب إلى الماضي، وكأن بعض سياسييها لم يأخدوا فرصهم مع هتلر في إبادة اليهود، فيحاولون هذه المرة دعم إبادة الفلسطينيين.