"قتل المدنيين جريمة كبرى". هل يمكن أن تكون هذه الجملة قابلة للمراجعة؟ هل يمكن لأحدهم أن يطرح الأمر كله باعتبار أنه لا فرق بين مدني وعسكري عند نشوب الحروب؟ فجماعات البشر لا تتصارع كإجراء روتيني لفض النزاعات، ووصول الحالة إلى درجة الاقتتال يعني أننا أمام وضع استثنائي، وما يجعل استهداف حياة العسكريين مشروعًا، يمكن أن يشمل المدنيين كذلك، فالعسكريُّ بشريٌّ في النهاية، كما أنه في تلك اللحظة الاستثنائية، تصعب التفرقة بين المدنيِّ والعسكريِّ في معظم الأحوال.
هل بإمكاننا طرح الأمر بهذه الطريقة؟
لا أريد الإجابة. في الواقع أحفظها عن ظهر قلب، وأقرُّ بوجاهتها، غير أنَّها ليست هدف السؤال، السؤال من الأساس ليس خاصًا بـ"قتل المدنيين" في حد ذاته، إنما بكل مفردات المنظومة الأخلاقية المفترضة لتنظيم حالة لا أخلاقية بالمرة هي الحرب ذاتها.
القاموس الدولي
تعبيرات مثل "قتل مدنيين"، "هدنة"، "جريمة حرب"، "معاملة الأسرى" إلخ إلخ، كلُّ هذه المفاهيم ظهرت في إطار صراعات العالم الحديث، وربما تكون اتفاقيات جنيف هي أفضل مُعبِّر رسميٍّ وممثل قانونيٍّ لهذه المفاهيم، التي لا غبار عليها بحد ذاتها، أو فلنكن دقيقين، ليست هي المعنية بالحديث، إنما السؤال حول طبيعة هذه المفاهيم، ومدى نسبيتها، وإمكانية استخدامها على نحو مطلق، بمعنى: هل هي صالحة لكل زمان ومكان؟
ما أراه أنَّ جزءًا معتبرًا من أزمات البلاد العربية جميعًا، في حربها وسلمها، في حركتها وسكونها، أنها مقيدة طوال الوقت بقاموس لا ينتمي لها ولا تنتمي له، قاموس تشكلت مفرداته في ظل صراعات لم تكن هي طرفًا فيها، ولا تفاعلت من خلالها، ولا عكست أزماتها، ولا بحثت عن حل لمشكلاتها. مفردات سادت كما جرت عادة البشر، بسيادة المتغلب وقاموسه.
هي مقيدة، إذًا، بهذا القاموس، لكنها في الوقت نفسه لا تمتلك قاموسًا بديلًا. كلُّ ما لديها شراذم من المفردات التي تنتمي إلى أزمان أخرى، أزمان لم يعد لها الآن تجليات أو حضور يساعدان على تشكيل هذا النثار من المفردات. الأمر هنا يبدو لي كمن يقتني سيارة وهو لا يمتلك خبرات إلا في النوق، يا لها من مأساة.
مأساة الشعب الفلسطيني، في أحد جوانبها الكثيرة المثيرة للأسى، أنَّ طرف الصراع الآخر "إسرائيل"، ابنُ ذلك النظام السائد، يَعلَمه ويفهمه ويستخدمه بكفاءة، وكان هذا الفهم سابقًا لأيِّ أسلحة أو ممارسات أخرى مهما كانت غشامتها ومهما بلغ تجاوزها للمعيار الإنساني؛ فما فعلته إسرائيل "وحده" لم يشكل مسار المأساة، بل كانت مباركة العالم أشدَّ وطأة، ويمكننا القول إن نكبة الشعب الفسلطيني لم تكن نتيجة لما فعلته إسرائيل بل نتيجة ما "لم يفعله" الآخرون.
مثلًا مثلًا، لم يدرك العرب منذ البداية، لا سيما الفلسطينيين، قيمة الاعتراف الدولي كتعبير عن الحق في السيادة، ولم يدركوا مفهوم الدولة التي ينتظم فيها الأمر، فهي ليست علمًا ونشيدًا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هم تعاملوا من خلال مفهوم "الحق الطبيعي" المبني على التاريخ، وهو ما لم يكن العالم وقتها يأبه به، كان مناط الأمر وجود "دولة" تحظى "باعتراف".
هناك ضرورة مبدئية لطرح قضايانا في إطار قاموس يناسبنا بدلًا من ذلك القاموس المستعار
ارتكبت إسرائيل مجازر؟ نعم، مجازر بشعة. مارست إسرائيل كافة أشكال العدوان الممنهج؟ نعم، خالفت كل الأعراف والقوانين. لكن هذا لم يكن هو مناط الأمر، إنما كان بالأساس قدرتها على تطويع ممارساتها هذه في إطار القاموس الدولي الحديث. من ثَمَّ سعت إلى الترويج لنفسها باعتبارها هي من يحقق شروط ذلك العالم، وأنها في خطر من قوم أدنى منها في سلم الحضارة والحداثة وبالتالي في "الإنسانية".
قاموس بديل
في المقال الماضي كتبت عن استنفاد العالم مرات رسوبه في امتحان الإنسانية، لكنني لم أذكر أسبابًا لهذا الفشل، يمكنني ذكر أحدها الآن، وهو أنَّ العالم، خصوصًا من يمتلكون القدرة على اتخاذ قرارات وتنفيذها، لا يهتم بماذا "يكون" الأمر، قدر اهتمامه بكيف "يبدو" الأمر. لا يريد العالم أن يرث معضلات أخلاقية من عهود مضت، يريد أن يقطع صلته بها لتأسيس عالم جديد على نحو جدي.
من ثَمَّ، كان ما يحكم معظم المفاهيم التي تشكلت، قدرتها "عمليًا" على ضمان استمرار حركة أيِّ نظام، مهما كان صوريًا. المهم أن يستمر، من هنا سادت البراجماتية على مستوى التنفيذ بغض النظر عن فحوى الخطاب، حتى إن الكابتن لطيف في مجال ترفيهي ككرة القدم، لم يكن يمل من ترديد عبارة "الكورة إجوان"! والعبرة بالنتيجة، وأي نتيجة إن استطعت تحقيقها يمكنك "تستيفها" بمفردات القاموس الدولي، إن كنت تجيد التستيف، وهو ما لا يجيده العرب بتاتًا، فضلًا عن أنهم من يستقبلون الأهداف لا من يحرزونها.
نعود إلى "قتل المدنيين"، وشقيقته "الدفاع عن النفس". هما مفهومان ساحران تستخدمهما إسرائيل طيلة الوقت، لأنها تعلم جيدًا أن هاتين النقطتين، خصوصا الأولى، كانتا هاجسًا ملحًا خلال معارك القرنين التاسع عشر والعشرين في أوروبا، بلغ ذروته خلال الحربين العالميتين.
وقتها لم يكن هناك صراع محدد ذو موضوع واضح بين طرفين معيَّنين، بل صراعات ممتدة بين أطراف شتى بشأن ملفات لا نهاية لها، ولم يكن هناك أفق واضح لكيفية إنهاء تلك الصراعات والوصول لحالة سلام، من ثَمَّ ظهرت ضرورة تجنيب من يُسيِّرون الحياة اليومية هذه الويلات، فأصبح استهداف المدنيين جريمة كبرى، أخلاقية قبل أن تكون قانونية، لأنَّ الاستمرار في هذا المنهج لن يُبقي أحدًا في نهاية الصراع ليكون فائزًا أو خاسرًا. هلاك الأطراف جميعًا كان الهاجس المسيطر حينذاك.
من ثَمَّ، أرى ضرورة مبدئية وأبعد من سياق القضية الفلسطينية، لإيجاد وسيلة تُمكِّننا من طرح الأمور في إطار قاموس يناسبنا بدلًا من ذلك القاموس المستعار. نحتاج أن نستخدم قاموسنا، ولكن: هل نمتلك قاموسًا؟ هذا هو السؤال.