
من العراق 1981 إلى إيران 2025.. عقيدة بيجن تؤدِّب العالم
كان الصيف الأخير في حياة الرئيس الراحل أنور السادات ملتهبًا. شهد زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة حيث التقى الرئيس الجمهوري الجديد رونالد ريجان مطلع أغسطس/آب 1981، وبعدها اعتقالات سبتمبر/أيلول التي سبقت اغتياله بوقت قصير. كما تفجرت في الصيف نفسه أزمة ثقة مع صديقه المزعوم مناحم بيجن، الذي نجح في الانتخابات ليشكل حكومته الثانية بائتلاف يضم حزبه الليكود مع أحزاب دينية متطرفة، بعد فوزه على الاشتراكيين بزعامة شيمون بيريز.
لم يمهل القدر السادات لنكتشف كيف كان سيتعامل مع مخاوفه الطازجة في ظل معاهدة السلام التي وقَّعها للتو. ولا توجد طريقة لنعرف رأيه في من يتوهّمون اليوم أن السلام هو الحل لتقليم أظافر إسرائيل. لكن قلقه المكتوم كانت له أسباب متعددة؛ تعثر مفاوضات الحكم الذاتي الفلسطيني، وسياسات العنف والاستيطان التي تزيد حنق الشعب المصري والشعوب العربية على معاهدة السلام، والمماطلة في تفكيك المستوطنات الإسرائيلية في سيناء.
أما السبب الجوهري فكان ظهور عقيدة بيجن التي تقود اليوم الحرب على إيران بدعوى الحرب الوقائية وإرهاب الأعداء الواقعيين والمحتملين، وهي التي أشعرت السادات قبل 44 عامًا بأن لا شيء مضمونًا مع التوحش الصهيوني.
4 يونيو 1981
شرم الشيخ - سيناء المحتلة
استضاف بيجن السادات في المدينة الساحلية التي كانت لا تزال محتلة، وناقشا مستقبل العلاقات وتعثر التطبيع والأوضاع في لبنان. وكان الضيف، صاحب الأرض، متجهّمًا لا تُسعده نتيجة المحادثات، حسبما وصف سعد مرتضى، أول سفير مصري في تل أبيب، في مذكراته.
وبعد أقل من 72 ساعة، قصفت إسرائيل مفاعل أوزيراك (تموز 1 وتموز 2) العراقي، مما أغضب السادات كثيرًا وأحرجه، فقد ثارت شائعات عن علمه المسبق بتلك العملية.
7 يونيو 1981
التويثة - العراق
كانت العملية "أوبرا" أو "بابل" التي قضت على المفاعل النووي العراقي في منطقة التويثة بالقرب من بغداد، أول عملية إسرائيلية تتخذ أسلوب الحرب الوقائية التي تتجاوز الهجوم الاستباقي لهجوم مضاد قيد الإعداد.
أدير الهجوم بتعليمات مباشرة من بيجن بدون تنسيق مباشر مع واشنطن وبقوة تدميرية كبرى وخارج أي سياق حدثي وبلا مراعاة للعنصر الفرنسي في المفاعل، قفزًا على جميع قواعد الاشتباك التي كانت تحكم الصراعات الدولية.
بدأت "عقيدة بيجن" تتبلور من خلال أول بيان رسمي؛ "سندافع عن مواطني إسرائيل في الوقت المناسب لنا وبكل الوسائل المتاحة"، منذرًا بالعربدة المطلقة.
بين 7 و19 يونيو 1981
الساحل الشرقي الأمريكي
قُوبل الهجوم بإدانة دولية واسعة، وتكشف الوثائق السرية الأمريكية التي رُفعت السرية عنها تباعًا وفقًا لقانون حرية الوصول للمعلومات كيف أن وزارة الخارجية كانت حريصةً على أن تؤكد لبغداد عدم علمها المسبق بالغارة، وأنها لم تكن تملك أي وسيلة لوقف حركة مقاتلات F-16 التي تدربت لفترة فوق المتوسط قبل تنفيذ العملية.
وجاء في تقرير سري بغرفة عمليات البيت الأبيض أن حسني مبارك، نائب الرئيس المصري، كان هادئًا وهو ينتقد الهجوم، وحذر من تداعياته على القاهرة وواشنطن في "مرحلة بناء ثقة"، واعتبره فعلًا غير متزن من بيجن لرفع شعبيته قبل الانتخابات.
كما أبلغ مساعد وزير الخارجية الأمريكي نيكولاس فيليوتس السفير الإسرائيلي في واشنطن إفرايم إفرون أن بلاده مستعدة للتصويت لصالح قرار أممي يدين الهجوم، لكنها سوف تمنع بحق الفيتو أي مقترحات لفرض عقوبات على إسرائيل.
وخرج قرار مجلس الأمن رقم 487 في 19 يونيو/حزيران بإجماع نادر لا نراه كثيرًا عندما تكون إسرائيل الطرف المعتدي، متضمنًا سبع نقاط مهمة، تبدأ بالإدانة ووصف ما حدث بـ"الانتهاك الواضح لميثاق الأمم المتحدة"، ثم دعوة إسرائيل إلى الامتناع عن أي أعمال أو تهديدات من هذا القبيل مستقبلًا.
التوازن الدولي الذي كان يقيّد بيجن ويجبره على تبرير عملياته التخريبية أصبح جزءًا من الماضي
كما اعتبر القرارُ الهجومَ تهديدًا خطيرًا لنظام الضمانات الكامل للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وإقرار الحق السيادي غير القابل للتصرف للعراق وجميع الدول، لا سيما النامية، في وضع برامج للتطور التكنولوجي النووي السلمي، ودعوة إسرائيل إلى وضع منشآتها النووية تحت المراقبة، فضلًا عن إتاحة السبيل للعراق من أجل الحصول على تعويض مناسب عن الدمار الذي لحق به وأقرت إسرائيل بمسؤوليتها عنه.
المفارقة أن التطبيق السليم لقواعد القانون الدولي تُوجب اليوم تكرار بعض بنود هذا القرار على خلفية الاعتداءات الإسرائيلية ثم الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية، التي حذرت الوكالة الدولية من خطورتها الداهمة. لكن من يمكنه التصدي لإرادة بنيامين نتنياهو ومن خلفه اللوبي الصهيوني؟!
بين 7 و19 يونيو 1981
تل أبيب
لم تُثنِ تلك الأجواء بيجن عن بلورة عقيدته بصورة أوضح، مُستغلًا اقتراب الانتخابات التشريعية ومعارضة خصمه الأساسي بيريز للهجوم. فأعلن "تحمله المسؤولية الكاملة عن تلك العملية الاستثنائية" متعهدًا بجعل الحرب الوقائية على أي عدو يشكل خطرًا على أمن إسرائيل "التزامًا وطنيًا طويل الأمد".
وشدد على أن "ترك صدام حسين ينتج قنابله النووية سيُضيِّع هذا البلد وهذا الشعب، ولرأينا 'هولوكوست' أخرى في تاريخ الشعب اليهودي".
كم هو مذهل التطابق بين كلام بيجن وتصريحات نتنياهو عن حماس ثم إيران! فالعقيدة التي رسَّخها بيجن هي ذاتها التي تحكم إسرائيل، مع عدّة فوارق دفعت نتنياهو في غمار الحرب الحالية على إيران لوضع اسمه إلى جانب الزعيم المؤسس للكيان الصهيوني ديفيد بن جوريون في جملة واحدة متباهيًا بمجده الشخصي.
فقد عَكَس قرار مجلس الأمن الذي صدر وقتها، ومعه قرار أمريكي مؤقت بتعليق تسليم الطائرات المقاتلة لإسرائيل لبضعة أشهر مع التحقيق الرسمي في ظروف الهجوم، حالة من التكافؤ الظاهري في المنظومة الدولية كان سببها الرئيسي، وفق تقرير سري للمخابرات الأمريكية مؤرخ في أول يوليو/تموز 1981، التخوف من أن يحظى الاتحاد السوفيتي بفرص أوسع لصداقة العرب "بحثًا عن تعزيز أمنهم وحماية مصالحهم، في ظل عدم كبح أمريكا لجماح إسرائيل".
لكن حالة التوازن الدولي التي كانت تقيّد بيجن وتجبره على بذل مزيد من الجهد لتبرير عملياته التخريبية والعدائية أصبحت جزءًا من الماضي، ليتحرر "الفيتو الأمريكي" من أي اعتبارات أخلاقية أو توازنات سياسية. وتضاءلت أهمية القوى الدولية الأخرى، وتفسّخت مواقف العرب الذين خشيت واشنطن خسارتهم آنذاك، حتى مع عدم "ترجمة الغضب إلى أفعال" كما يشير التقرير المخابراتي سالف الذكر موضحًا "تقويض المطالب باستخدام سلاح النفط بعد موافقة العراق على قرار مجلس الأمن كما صدر مع إبداء صدام حسين اعتدالًا وتوازنًا (...) حتى أنه لم يكرر الانتقادات المعتادة للولايات المتحدة في أول خطاب له بعد الهجوم".
أول يوليو 1981
واشنطن..
عبّر التقرير ذاته عن رؤية أمريكية لقلق القادة المعتدلين، وأبرزهم السادات بالطبع، لأنهم لا يملكون سبلًا واضحةً للحد من قوة إسرائيل، وفي الوقت ذاته عدم وجود بدائل لرعاية واشنطن لعملية السلام "مما يجعلهم شديدي الحساسية للصدمات الجديدة، وزيادة الضغط عليهم من قبل الرأي العام المحلي".
حذفت المخابرات الأمريكية معظم الفقرات عن مصر في التقرير، لكن من بين ثناياها نستشف كم كان السادات قلقًا ومتخوفًا فهو "لا يريد إعطاء تل أبيب أي عذر لرفضها إعادة شرق سيناء إلى وضعها الطبيعي في أبريل/نيسان 1982 (موعد خروج جميع العسكريين والمدنيين الإسرائيليين)، ومع ذلك ربما يزيد الهجوم على العراق من احتمالات أن تبحث مصر بعد ذلك عن بدائل جديدة لمحادثات الحكم الذاتي/الفلسطيني وتسعى لاستعادة مكانتها من خلال خفض علاقاتها مع إسرائيل".
وفيما بدا ردًا على تساؤلات مؤسسية، استبعد التقرير أن تلغي مصر معاهدة السلام "لكن السادات قد يكون مستعدًا لوقف التطبيع إذا استُفز أكثر".
نهاية يوليو 1981
واشنطن
لكنَّ تقريرًا آخر من المركز الوطني لتقديرات المواقف الخارجية في المخابرات المركزية الأمريكية، التقط خيوط قلق السادات من "عقيدة بيجن" قبل أن يُطلق هذا الشعار على سياسة الردع اليمينية الصهيونية.
استُهل التقرير بأن الهجوم الإسرائيلي على العراق "عزز كره السادات الشخصي والعميق لبيجن، ومع ذلك وافق على لقائه مرة أخرى هذا الصيف"، ثم أبرز تخوف المصريين من زيادة مقاعد اليمين المتشدد في الحكومة "فمن شأن ذلك زيادة تصلب إسرائيل في التفاوض" سواء بشأن سيناء أو محادثات الحكم الذاتي الفلسطيني وكذلك الاستيطان.
على "أكلة سمك" بمطعم في أبو قير تحدث وزير الدفاع أرييل شارون بلهجة حاسمة مع أبو غزالة
كما رصد التقرير الذي قُدّم على الأرجح إلى ريجان وفريقه قبيل استقبال السادات أن الهجوم الإسرائيلي على العراق أحيا في الشارع المصري والحكومة "شكوكًا طال قمعها" حول موثوقية إسرائيل كشريك في المفاوضات. ونبّه كذلك إلى الإساءة التي لحقت بالرئيس المصري الذي اتُّهم بأنه كان "ودودًا جدًا مع بيجن" قبل ساعات من ضرب العراق، وزعم أن إبطاء عملية التطبيع جاء ردًا على هجوم الإسلاميين والعروبيين.
ثم اختُتم بعدة توقعات تأسيسًا على اتساع الهوة بين السادات وبيجن وفائض القوة الإسرائيلي غير القابل للاحتواء، أبرزها تقديم المزيد من الامتيازات والتسهيلات العسكرية لواشنطن مقابل الضغط على بيجن، وتوسيع المحادثات مع العراق والأردن والمغرب والسعودية لإنهاء العزلة المصرية، والتخلي عن عملية التطبيع، وربما "تخفيض مستوى العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل بهدف الضغط من جديد للتوصل إلى تسوية كبرى".
25 أغسطس 1981
الإسكندرية
استضاف السادات بيجن في الإسكندرية. إنه أول لقاء بعد إعلان "العقيدة الجديدة" فلم يقتصر الخطاب الإسرائيلي على التبرير بل امتد إلى التهديد! يروي السفير سعد مرتضى أن بيجن ووزراءه برروا إنشاء المستوطنات في الضفة الغربية وغزة، وأصروا على استمرارها، ودافعوا عن قصف بيروت لأول مرة، قبل عام من غزو لبنان.
وعلى "أكلة سمك" في مطعم بأبو قير، تحدث وزير الدفاع أرييل شارون بلهجة حاسمة مع نظيره الفريق عبد الحليم أبو غزالة "سننسحب من سيناء ونسلمها لكم خالية من الإسرائيليين (....) وبدورنا ننتظر تنفيذ كل التزاماتكم وتعهداتكم، لأنكم إذا رجعتم عنها بعد تنفيذ المرحلة الأخيرة من الاتفاق، فسوف تسقط الحكومة الإسرائيلية وستنشب الحرب في اليوم التالي".
1995
تل أبيب
طالب نتنياهو في كتابه "مكان بين الأمم/تحت الشمس" بـ"إعادة منح حرية العمل للجيش الإسرائيلي وقوات الأمن (في جميع الأراضي المحتلة) بحيث تشمل إمكانات غير محدودة للعمل الوقائي والمطاردة والاستخبارات التي بدونها لا يمكن محاربة الإرهاب". ورسم لإحلال السلام في الشرق الأوسط طريقًا واحدًا "يتحقق بالردع أو القوة".
يونيو 2025
واشنطن
نتنياهو الرجل الأقوى الآن، ليس في الشرق الأوسط بل في الولايات المتحدة أيضًا، وربما في العالم. تمكَّن من فرض إرادته على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مستغلًا شراهته لانتزاع الفضل لنفسه، وضمه إلى حربه لإخضاع إيران وإتمام خطة تغيير الشرق الأوسط.
قال ترامب منذ ساعات "بارك الله في إسرائيل والولايات المتحدة" متباهيًا بضرب المواقع النووية الإيرانية، وبأنه عمل مع نتنياهو في "فريق واحد متناغم". إنها لحظة انتصار "عقيدة بيجن"، بينما نحن غارقون في تفسيرات التمثيلية والمسرحية وتبريرات الانكفاء.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.