أثارت حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة، ولا تزال بعد اتساع نطاقها لتشمل لبنان، وتصاعد احتمالات انتقالها لساحات أخرى في الإقليم، أسئلة وقضايا كانت غائبة عن السجال السياسي العام في المنطقة العربية خلال العقدين الماضيين. أهمها، مركزية الدور والموقع الذي تشغله إسرائيل والصراع معها في تأسيس ومفاقمة حدة التناقضات الكونية، وبخاصة تلك التي تحضر وتتقاطع بكثافة مع حاضر ومصائر شعوب منطقتنا.
في القلب من هذا المشهد الإقليمي والعالمي المضطرب، يتبدّى شخص رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو باعتباره واحدًا من أهم الرموز التي تجتمع فيها مضامين وسياقات أيديولوجية وسياسية شائكة، تعبِّر عن مأزق العالم الحالي الذي يُهدد الإنسانية كلها.
هذا المقال المطوّل، يتصفّح جوانب وأبعاد تاريخية وحاضرة ومستقبلية متعددة لهذا المأزق الكوني، عبر تتبع سيرة أحد عناصره الرمزية والمحورية ورصد المسارات التي تمر به وتنتهي عنده، وهو بنيامين نتنياهو.
فقبل حوالي 30 عامًا من الآن، فاز الشاب السياسي النافذ وزعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو، بمنصب رئيس وزراء اسرائيل للمرة الأولى، رغم أنف الإرادة الدولية، والإدارة الأمريكية الديمقراطية التي تدخّلت آنذاك بأشكالٍ عديدة، للحيلولة دونه والموقع السياسي التنفيذي الأول في إسرائيل، لردِّ ما اعتبرته خطرًا يهدد مستقبل عملية السلام التي انطلقت تحت رعايتها قبل ذلك بثلاث سنوات.
وبعد أسبوعين من توليه رئاسة الحكومة، عُقد لقاء في البيت الأبيض، جمع "بيبي" كما درجت تسميته في الإعلام الإسرائيلي منذ ذاك الوقت، بالرئيس الأمريكي بيل كلينتون، وُصِف بـ"المتوتر"، إذ لم يفلح طرفاه في إيجاد لغة مشتركة بينهما، لا سيما وأن الشاب المتحفّز نتنياهو، بحسب شهادات من حضروا اللقاء، عامل الرئيس الأمريكي، وهو من هو، كتلميذٍ بحاجة لإرشاداته حول الطريقة الأمثل للتعامل مع الفلسطينيين والعرب. بعد انتهاء اللقاء، استدار الرئيس الأمريكي نحو معاونيه وسألهم بسخريته المعهودة: هل لكم أن تذكروني من هو الرجل الأقوى في العالم؟!
الرئيس كلينتون حينها كان يعتقد أن نتنياهو ليس أكثر من لحظة انقطاع ثانوية عابرة في مسار الصعود والهيمنة الكونية لليبرالية الأمريكية
على الأرجح، كان كلينتون يعتقد حينها، ومعه سائر الطبقة السياسية الأمريكية بل والإسرائيلية ربما، أن نتنياهو ليس أكثر من لحظة انقطاع ثانوية عابرة في مسار الصعود والهيمنة الكونية لليبرالية الأمريكية وقد انتصرت لتوّها في حرب استقطابات عالم الحرب الباردة، محمّلة بوعود السلام والازدهار والرخاء العالمي.
كان ذلك قبل أن يتضح لليبرالية الأمريكية على نحو محقق، أن التفاوتات الطبقية الشاسعة التي تنتجها ديناميات اقتصادها السياسي على كل المستويات وفي كل المواقع، ستصبح محرّكات إنتاج أجيال جديدة من الفاشيات الرَّثة والجوفاء، تهدد وجوديًا أمن وسلامة العالم، وتضع الإنسانية نفسها أمام رهانات قد تفضي إلى فنائها.
لم يعلم كلينتون أن مزحته تلك عن الرجل الأقوى في العالم، كانت نبوءة لن ينفكّ نتنياهو يبرهن صحتها منذ زيارته الأولى للبيت الأبيض رئيسًا لوزراء إسرائيل، وحتى لحظة عودة ترامب المرتقبة إليه، كوريث رمزي وتمثيلي لكل ما كان نتنياهو، ولا يزال، الرائد والأصدق والأكفأ في التعبير عنه كونيًا خلال العقود الماضية.
الكاوبوي الإسرائيلي
من منظور إسرائيلي خالص، مُجرّد من أي انحيازات عاطفية وقيمية، فإن مطالعة الملف الشخصي والسيرة السياسية لبنيامين نتنياهو تضعنا أمام صرح سياسي وسجل شخصي وعسكري مبهر، لم يبدأ حين كان ناشطًا يهوديًا أمريكيًا/إسرائيليًا بارزًا في الإعلام الأمريكي منتصف السبعينيات، يستكمل دراسته في ماساتشوستس وهارفارد، أهمّ جامعتين أمريكيتين، بعد أن عاد لتوّه بطلًا من جبهات القتال الاسرائيلية مع العرب، ليلتحق وهو في بداية عقده الرابع، بالسلك الدبلوماسي هناك نائبًا لرئيس البعثة الإسرائيلية في واشنطن، ثم رئيسًا لبعثتها الأخرى في الأمم المتحدة في نيويورك.
خلال سنوات نشاطه وعمله الدبلوماسي تلك في الولايات المتحدة الأمريكية، أُتيح لنتنياهو توطيد شبكة صلاته الشخصية والسياسية في البلاد، على امتداد طول وعرض طبقتها السياسية الحاكمة منذ خمسة عقود، باعتباره عنوان إسرائيل الرسمي الأول هناك، والشاب الذي يتزلّف إليه أقطاب مختلف الأحزاب والمؤسسات الأمريكية لاستيفاء متطلبات إثبات الودّ بينهم وبين إسرائيل ويهود بلادهم.
وعلاوة على ذلك، فهو "سياسي أمريكي" فوق العادة، يَنسِب لنفسه، وهو الأمريكي السابق والمحتمل، صفة تمثيلية ليهود الولايات المتحدة، الذين هم مكون ديموغرافي وديني أبيض، أساسي ونافذ في تشكيل النّخب السياسية والمالية وعلاقات القوة بينها في البلاد.
ذلك كلّه، سبق وصوله إلى قلب المجال العام ومن ثم رأس السلطة في إسرائيل خلال التسعينيات، بالتزامن مع سنوات رحيل جيل كامل من القادة والساسة التاريخيين في الشرق الأوسط والعالم.
يتسيّد "بيبي" عرش إسرائيل باعتباره الملك الضرورة الذي يحظى بتأييد داخلي أغلبه رضائي وبعضه قهري
ليُكتب بعدها، ومنذ ثلاثين عامًا، على أي مسؤول سياسي يأتي لشَغلِ منصبِ ذي صلة بالشرق الأوسط، أن يجد نتنياهو أمامه بصفته القائد السياسي الأقوى في المنطقة، والركن الركين في خريطة إسرائيل الحزبية والسياسية، التي ما إن يغيب عنها حتى تحضُر أشباحه لتهيئ له العودة من جديد.
واليوم، يتسيّد "بيبي" عرش إسرائيل باعتباره الملك الضرورة، الذي يحظى وخياراته بتأييد داخلي، أغلبه رضائي، وبعضه قهري، قلَّ نظيره في تاريخ الدولة. وترتسم في ذهنه كزعيم سياسي عالمي، أدقّ صورة مقطعية للعالم وخرائط مسالك القوة وطبقاتها فيه.
وذلك لأسباب عدّة، منها أهمية إسرائيل وموقعه الشخصي وثقله السياسي فيها، الذي يجعل منه بمعان متعددة، الفرد الأكثر تأثيرًا عالميًا في عدد من أهم القطاعات الصناعية والاقتصادية، وعلى رأسها التسليح والتكنولوجيا والأمن. وأيضًا، لموقعه التمثيلي والسياسي في الولايات المتحدة الأمريكية، باعتباره اليهودي الأهم في العالم.
وبسبب سماته وكفاءته الشخصية، والعمر المديد الذي قضاه في المواقع القيادية الأولى، التي جعلت منه الرجل الذي تنتهي إليه كل المعلومات الاستخباراتية، التي تتبادلها أجهزته الأمنية مع أهم وكالات المخابرات الغربية والدولية منذ أربعين عامًا.
الصهيوني الكامل
وُلِدَ "بيبي" لمؤرخ صهيوني متعصّب هو البروفيسور بنزيون نتنياهو، الذي غادر إسرائيل مصطحبًا زوجته وأطفاله الثلاثة، ومن بينهم بنيامين، إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليعمل بروفيسورًا في جامعة كورنيل العريقة؛ مضطرًا كما قال لذلك، لأن الدولة الإسرائيلية الناشئة حديثًا آنذاك لم تُخلص بما يكفي للفكرة "الصهيونية الحقيقية".
هناك، شبّ "بيبي" مع إخوته كفتى أمريكي ينتمي إلى الشريحة العليا من الطبقة الوسطى، متشربًا القيم الثقافية الأمريكية: جنبًا إلى جنب مع التعاليم الصهيونية المتزمتة من والده الذي عاش لأكثر من مئة عام.
وهو ما جعله لا يتوانى وإخوته عشية حرب عام 1967 عن الالتحاق بالجيش الإسرائيلي. ليتم اختياره ضمن قوة النخبة 269 أو "سييريت متكال"، التي كان الالتحاق بها في ذلك الحين، يُعتبر أعظم شرف عسكري يمكن للجندي الإسرائيلي أن يحوزه.
وهي المجموعة التي أُسند إليها عام 1972 واحدة من أشهر وأعقد عمليات تحرير الرهائن في التاريخ العسكري، عندما اختطفت مجموعة فلسطينية مسلحة طائرة ركاب إسرائيليين وحطّت بها في مطار اللد. وكان نتنياهو في قيادة فرقة الاقتحام لتحرير الرهائن، وأُصيب خلال العملية وأصبح بطلًا وطنيًا إسرائيليًا. أما شقيقه يوناثان فأصبح "شهيدًا" وبطلا قوميًا هو الآخر حين قُتل، لدى قيادته لعملية اقتحام أخرى نفذتها قوة إسرائيلية خاصة لتحرير رهائن إسرائيليين في أوغندا.
الرجل الضرورة
مثّل حضور نتنياهو خلال العقود الثلاثة الماضية في قلب المشهد السياسي الإسرائيلي، الاستجابة الأكثر حسمًا وأهلية لمقتضيات واقع إسرائيل الداخلي الذي بدأ يتشكّل منذ السبعينيات، بفعل الانقلاب الديموغرافي في التكوين العرقي لمجتمعها اليهودي، الذي قلّص التمثيل العددي والمكتسبات التاريخية لليهود الأشكيناز، المكون المؤسّس للدولة، لصالح حضور باقي المكونات الأخرى التي أصبحت تُشكل الأغلبية السكانية على كل المستويات وفي معظم المواقع.
كانت سلعة نتنياهو السياسية الأساسية أنه أقصى خيار عقلاني يمكن لعملية السلطة في إسرائيل أن تنتجه
هذا الواقع وعوامل أخرى، حتّم الطّي التدريجي لصفحة الطور الليبرالي المؤسّس للدولة وحوامله السياسية والحزبية التاريخية إلى الأبد، وشرّع الباب أمام عملية انزياح للكتلة الاجتماعية نحو اليمين. ومن ثم انتقال الكيان السياسي الإسرائيلي داخليًا إلى طور هجين يجمع خصائص ليبرالية مشوّهة من المرحلة السابقة، وأُخرى سلطوية وفاشية صريحة أنتجها اندماج العقيدة الصهيونية المؤسّسة للدولة، مع التيارات الأيديولوجية اليمينية الأخرى التي رافقت رحلة الصعود الاجتماعي للقطاع الأكبر من موجات المهاجرين الجدد إلى إسرائيل.
ضِمن هذا المخاض الداخلي، كانت سلعة نتنياهو السياسية الأساسية التي يصدّرها للداخل والخارج، أنه أقصى خيار عقلاني يمكن لعملية التدوير الديمقراطي التمثيلي للسلطة في إسرائيل أن تنتجه، في ضوء شروط تكوينها الاجتماعي والسياسي الحالية. وأنه الأقدر على تمثيل الطور الهجين الحالي لإسرائيل، والاحتفاظ ولو شكليًا بملامح ليبرالية لحضوره السياسي من جهة، ومن جهة أخرى تبنّي نسق أيديولوجي فاشي مكتمل ومحكَم، وواعِ بأهدافه وما يعتبرها الأدوات اللازمة لتحقيقها.
العالم الذي في عقل نتنياهو
أوروبا
قبل بضعة أشهر، فاضت وسائل الإعلام الدولية بتفاصيل اللقاء العاصف الذي جمع نتنياهو بوزيرة الخارجية الألمانية ورئيسة حزب الخضر أنالينا بيربوك في تل أبيب، والتي سربتها وسائل إعلام إسرائيلية، ورغم النفي الركيك من الخارجية الألمانية، لم يتورّع بيبي عن نعت ضيفته وبلادها بأفظع العبارات ومعايرتها بأجدادها النازيين، لمجرد أنها أشارت إلى الوضع الإنساني الكارثي والمجاعة التي تسببت بها حرب الإبادة الحالية في غزة.
في تقديمه للفصل الذي يتحدث عن العلاقات الإسرائيلية الأوروبية في كتابه The Palestine Laboratory How Israel Exports The Technology of Occupation Around The World، يقتبس Antony Lowenstein ما قاله له جدعون ليفي بأن نتنياهو ينظر إلى الأوروبيين على أنهم حفنة من "الرعاع المزعجين".
الكتاب يصلح لأن يكون، إلى جانب موضوعه الأصلي، سجلًا يؤرخ لكل أنظمة القمع والاستبداد في كل أنحاء العالم خلال العقود الستة الماضية، بالنظر إلى الدور الحيوي الذي لعبته الصناعات العسكرية في إسرائيل وخدماتها الأمنية طوال هذه العقود في تمكين تلك الأنظمة من اضطهاد ضحاياها والتنكيل بهم. ويقدّم ضمن محتوياته وعلى هامش مبحثه الرئيسي، سردًا كاشفًا لمنشورات ووثائق عديدة، تنسب أحاديث عشوائية لنتنياهو، بعضها عن الدول الأوروبية، أدلى بجزء منها صراحة في لقاءات رسمية، والجزء الآخر منها تسرّب إلى الميكروفونات في غفلة من صاحبها عن ضغط زر كاتم الصوت.
مستقبل لا مكان فيه لليبرالية ونماذج لأشخاص مثل أوباما وما يدعو له من قيم التسامح والمساواة
تكشف هذه الأحاديث عن الازدراء الذي يكنّه نتنياهو لدول الاتحاد الأوروبي وللنفاق الذي تتسم به سياساتها وعلاقاتها بإسرائيل. وهو ما يشرحه نتنياهو نفسه للمسؤولين في أوروبا الشرقية عندما يحثهم على عدم الالتفات إلى مواقف أقرانهم في دول الاتحاد من الشق الغربي للقارة، فيما يتصل باشتراط تطوير علاقاتهم السياسية والاقتصادية بإسرائيل، بأن تقوم الأخيرة بالحدّ من انتهاكاتها في الضفة الغربية. مدلّلًا على كلامه بالإشارة إلى أن دول الاتحاد الغربية لا تمتثل أصلًا لما تعِظ به الآخرين بهذا الخصوص.
في كل الأحوال، فإن هذه الأحاديث التي يوردها الكتاب تعود إلى ما قبل السابع من أكتوبر 2023، أي قبل أن تتورط الدول الأوروبية في التغطية السياسية والقانونية على إسرائيل وجيشها خلال حرب الإبادة الحالية في غزة، وتساهم بسخاء في إسناد عملياته العسكرية عبر التسليح والدعم اللوجستي.
ولكن المهم فيما تظهره اقتباسات الكتاب في هذا الصدد، هو الأساس الأيديولوجي المكتمل والناجز، الذي يتكئ عليه نتنياهو في بناء تصوراته عن مستقبل العالم الذي يريده، والعلاقات التي ينبغي أن تحكمه، وموقع إسرائيل منها. مستقبل "لا مكان فيه لليبرالية ونماذج لأشخاص مثل الرئيس باراك أوباما وما يدعو له من قيم التسامح والمساواة والاحتكام للقانون الدولي"؛ في موضع آخر يطلب نتنياهو من زواره الأوروبيين ألا تصدمهم حقيقة أنه لا يقيم بالًا لاعتبارات "الصّوابية السياسية" الخطابية.
خلاصة نتنياهو للأوروبيين هي قوله بأن "إسرائيل جزء من الثقافة الغربية تمتد حدود قارتهم إليها قبل أن تنتهي فيها". وأن المستقبل هو للرأسمالية في طورها السلطوي الذي سينتج "قادة تشبهه هو وليس أوباما"، حيث يفرضون تصوراتهم على مجتمعاتها والعالم بمزيج من العقائد القومية والعرقية التوسعية و"قوة اقتصادية وتكنولوجية جبارة"، والنموذج الرائد لذلك هو: إسرائيل.
آسيا
خارج نطاق الدول الغربية وفي العلاقة مع القوى الكبرى، وتحديدًا الصين وروسيا والهند، يتسم سلوك نتنياهو بالانضباط السياسي وحتى المسلكي الذي لا تشوبه ألاعيب التطاول والدلال الصبياني المعتادة في علاقة إسرائيل مع الغرب.
أثمرت علاقة الصّداقة تعاونًا أمنيًا وعسكريًا منفلتًا من أي عِقال سياسي وأخلاقي وشيّدت ميدانًا للتعاون الهندي الإسرائيلي
نتنياهو يَعلَم حدود الثقة والسماح المتبادلة في العلاقة مع كل من الصين وروسيا، بالنظر إلى أن علاقة إسرائيل بأي من هذين البلدين محكومة بشكل رئيسي بالنسبة لأطرافها، باعتبارات السياسة الأمريكية ومواقف الأخيرة تجاه كل من البلدين الكبيرين. وضمن حدود المساحة المتاحة أمريكيًا، يمكن لإسرائيل تسجيل نقاط تقارب موضعية على صعيد تعزيز التعاون والتبادل التجاري في القطاعين الأحب لها، العسكري والتقني، من دون أن تتوافر لكل أطراف هذه العلاقة مآرب أو خطط تتعدى ذلك.
أما في حالة الهند، الحليف الآسيوي الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، التي باتت أواصر علاقتها الوطيدة بإسرائيل تسترعي اهتمامًا استثنائيًا لأسباب لا حصر لها، فيُسَجّل لنتنياهو ذكاؤه في التعامل مع القيادة الفاشية الحالية في البلاد، ممثلة بشخص رئيس وزرائها نارندرا مودي، ورصد مَوَاطن عُقَد النقص لديه. فلا يفوّت الرجلان في أي تواصل بينهما فرصة، من دون إظهار وتبادل الودّ المصطنع والمبتذل كتعبير عن "الصّداقة" الخاصة التي تجمعهما.
القاسم المشترك الذي يطبع سلوك نتنياهو شخصيًا في تواصله مع كل الأطراف الآسيوية تعامله كمندوب مبيعات
والتي أثمرت تعاونًا أمنيًا وعسكريًا منفلتًا من أي عِقال سياسي وأخلاقي، وشيّدت ميدانًا للتعاون الهندي الإسرائيلي في مختلف القطاعات التصنيعية والابتكارية الحيوية، مبني بالأساس على منح إسرائيل إمكانية الوصول لموارد لا محدودة وفرص استثمارية لا متناهية، من شأنها أن ترسّخ وتؤبّد انتقال ملياريِّ ونصف المليار إنسان في القارة الهندية، من موقعهم التاريخي في ريادة وإسناد نضالات وقضايا العالم الثالث والعالم العربي، إلى موقع الشريك الأمني والتجاري لكل ما هو إمبريالي وفاشي في العالم.
القاسم المشترك الذي يطبع سلوك نتنياهو شخصيًا في تواصله مع كل الأطراف الآسيوية، أنه يتصرف كمندوب مبيعات شاغله الترويج لعقود الشراكة السوقية بين إسرائيل وهذه الأسواق، من دون تحمّل عناء إشهار غطاء سياسي أو خطابي يرافق دعوات الشراكة هذه.
مجرّد جُمل ترويجية قصيرة تخاطب أثرياء هذه الدول وكفاءاتها العاملة في قطاعات التكنولوجيا، تخبرهم أن إسرائيل هي أرض الميعاد أيضًا لكل باحث عن الثروة، ويبتغي جمعها من دون أي محددات أو ضوابط قيمية أو إنسانية. وأنها المكان الذي يوفّر فضاءات رحبة لتعظيم واستكشاف آفاق جديدة لمكتسباتهم، سواء كان ذلك عبر توفير جنة خفيّة للودائع البنكية السرية، أو سوق آمنة لعقد صفقات تصريف السلع الحرام سلاحًا كانت أو ألماسًا، أو بتحويل أراضي الفلسطينيين والعرب وأجسادهم لأسواق ومعامل اختبار لآخر ابتكارات التكنولوجيا والتقنيات العسكرية.
روح "جابوتنسكي"
في وضعه لنظريته عن "الجدار الحديدي" من أجل إلحاق الهزيمة الكاملة بالعرب عام 1923، استقى زئيف جابوتنسكي، والد الصهيونية والزعيم الروحي لعصاباتها المسلحة، جذور نظريته من نفْس مَعين التراث الحربي لآباء العسكرية الأوروبية، الذي نقلت عنه كذلك الفاشيات الأوروبية عقيدتها العسكرية. الذي يقضي بسحق الخصم وتدمير قدراته وحرمانه من ممكنات إعادة تنظيم صفوفه وصولًا لفرض الاستسلام الشامل والإذعان التام عليه، والالتزام بمبدأ استبعاد أي طروحات تقترح صيغًا للتعايش المشترك بين الإسرائيليين وجيرانهم العرب إلى حين تحقيق هزيمتهم التّامة. وعندها فقط، تُفرض الإرادة الإسرائيلية الخالصة والوقائع المادية التي تنتجها حقائق قوتها عليهم.
تعاليم جابوتنسكي، نقلها أحد معاونيه الشخصيين وهو بنزيون نتنياهو إلى ابنه بنيامين، الذي أصبح رئيس وزراء إسرائيل الذي يكرر دائمًا أن الأول هو مرشده الرّوحي. ففي السلوك السياسي الداخلي والخارجي لنتنياهو، لا يصرف الأخير أي جهد فعلي في إقناع جهة ما أو أي رأي عام بتوجهاته، عملًا بتعاليم جابوتنسكي التي تحض على ازدراء الجموع والمخالفين، حتى لو كانوا حلفاء، طالما أنه قادر على فرض إرادته أيًا كانت وسيلته إلى ذلك.
فهو يلجأ في حشد القواعد الاجتماعية المؤيّدة له أينما كانت، إلى استنفار غرائزها البدائية وملء آذانها بخُطب وشعارات فاشية وشعبوية بلا دلالات سياسية محددة. ويحاور، أو بالأدق يساوم، فقط مصادر ومراكز القوة المادية، ممثلة بالمال والتكنولوجيا والسلاح، ومرجعيته القيمية في ذلك هي الحسابات المجرّدة للربح والخسارة، مستوفيًا بذلك متطلبات تشكيل النظام السياسي الذي تقتضيه أشد نسخ النيوليبرالية سوداوية وتطرفًا.
مقاربة نتنياهو ترتكز إلى أن الظرف العالمي الحالي وعلاقات القوة فيه كفيلان بمنح إسرائيل فسحة كافية لفرض إرادتها
وفي الاستحقاق الأهم والأبدي المتعلق بالصراع العربي-الإسرائيلي، فإن مقاربة نتنياهو، ترتكز إلى أن الظرف العالمي الحالي وعلاقات القوة فيه، كفيلان بمنح إسرائيل فسحة كافية لتفرض إرادتها والواقع الذي تريده لنفسها وللفلسطينيين والمنطقة برمتها، باستخدام القوة النارية العارية المتحررة من أي ضوابط سياسية وقانونية تكبّلها، ولكي تَنصُب حقائقها السياسية بمقدار ما تتيحه لها الطاقة التدميرية لقنابلها.
كيلا تكون الخاتمة
قد يرى من وصل بقراءة هذا النّص إلى هنا، بأن هذا المقال يختزل بشكل تعسّفي إسرائيل الحالية في شخص نتنياهو، وهو انطباع صحيح في جزء منه، لا يُبطِل مشروعية هذا الاختزال إن كان واردًا بالفعل، حيث تسانده أجزاء أخرى من الحقيقة. منها، أن ما يمثّله ويرمز إليه نتنياهو تاريخيًا وأيديولوجيًّا اليوم، على المستوى الكوني وليس الإسرائيلي والأمريكي فقط، يتعدّى ما يمثّله أي فرد أو قوّة أخرى في العالم من داخل الحظيرة الغربية التاريخية.
كذلك، فإن واحدًا من أشد الأسئلة استعصاء الآن، التي تدلّل على محورية موقعه الشخصيّ في المخيال العالمي، هو عجز كل الأطراف، بما فيها الاسرائيليون أنفسهم، عن تخيُّل ماهيّة الكيان الذي ستكون عليه إسرائيل التي أُعيد تخليقها منذ 7 أكتوبر 2023، ودورها وموقعها في الإقليم والعالم في حال خرج نتنياهو من المشهد السياسي الإسرائيلي والعالمي.
الغاية الأساسية لهذا المقال، هي القول بأن إسرائيل قد وصلت بنتنياهو إلى نقطة الذّروة في حشد مواردها وعقائدها التأسيسية جميعًا، سواء النسخة الحالية المتشددة للصهيونية، أو ما بقي من أثر أيديولوجي وديموغرافي لليبرالية الغربية في مجتمعها الاستيطاني. والأهم، مواردها العسكرية والمالية والتقنية التي تمتلكها، أو تلك التي لديها إمكانية وصول لا محدودة لها في أمريكا.
بهذا المعنى وبالأخص في الُبعد التاريخي منه، فإن نتنياهو ورغم كثافة المضامين التي يختزلها بشخصه والمسارات التي تتقاطع عنده، ليس سوى "لحظة"، وطفرة شيطانية خلّقها التراكم المادي لأسبابها وصعد بها إلى ذروتها.
وهي لحظة فارقة كثيفة للغاية للتطور في مسارات عدّة، تتضمن الطور المتحور الحالي لمركّبات كيان هجين بالغ التعقيد مثل إسرائيل، إلى حد يهدد استمراره، واستمرار نسق التطور الرأسمالي المفرط الذي تمتثل لخصائصه، وتلتحم به أكثر من أي كيان سياسي آخر على الأرض، والذي تقترحه النيوليبرالية لأنماط وعلاقات الإنتاج وتبادل السّلع في السوق العالمي.
ولكن ذلك لا يحمل بالضرورة الخير لضحايا إسرائيل من الفلسطينيين والعرب، أو لما هو حرّ وتقدّمي ومناهض لها في العالم. حيث إن هذه "اللحظة" التي يمثّلها نتنياهو وما سيليها، مفتوحة على احتمالات كثيرة ومتباعدة، من ضمنها إعادة تشكيل الخرائط السياسية لمنطقة الشرق الأوسط ومكوناتها الديموغرافية بعنف غير مسبوق. وعالميًا، استكمال الدورة التاريخية لتنامي اليمين الفاشي السلطوي في كل مكان، وبخاصة في الغرب، إلى حين ارتطامه بالحائط الذي لا نعلم إلى أين ستمتد وتتوقف ارتداداته، بعد أن يستنفذ ذخيرته الخطابية والتعبوية، وينتهي إلى مسوخ أجسام وتيارات سياسية عدمية وموتورة جوفاء إلا من الشّر والكراهية المجرّدة.
ولذلك فمن دون القطع الإنساني التام مع كل ما يمثّله نتنياهو، والانفضاض السياسي والأيديولوجي البنيوي عن هذه العملية الكونية التاريخية التي يرمز لها، والحد من استمرارية هذه اللحظة ومساعي خلق امتداد حي لها يليها في نفس الاتجاه، لن يكون لدى الإنسان لأخيه الانسان، الآن وفي المستقبل، سوى حروب الإبادة الطبقية العرقية، وسيناريوهات الإفناء التكنولوجي الأبوكالبسية. لأن الاتجاهات والأهداف الخاطئة لتراكم الفعل الإنساني قد تنتهي ذروة قوتها بالجنس البشري إلى "بنيامين نتنياهو" الذي لا يليه شيء سوى النهاية، نهاية كل شيء.