تهيمن صناعة التكنولوجيا على أكثر من نصف الصادرات الإسرائيلية سنويًا. وبينما يعتقد كثيرون أن برمجيات التجسس وأنظمة الأمن الرقمي تتصدر قائمة هذه الصادرات، يُشير الواقع إلى تنوع أكبر في هذا القطاع، إذ تنافس إسرائيل دوليًا في مجالات التكنولوجيا الصحية وتكنولوجيا الطاقة والتكنولوجيا البيئية.
نجحت تل أبيب على مدار العقدين الأخيرين في أن تصبح مركزًا عالميًا للابتكار التكنولوجي، واستقطبت العديد من شركات التقنية الرائدة لتتخذ من المدينة مقرًا لها. لكن هذا القطاع الحيوي يشهد تراجعًا مع وصول حكومة بنيامين نتنياهو إلى سدة الحكم، ثم تفاقمت الضغوط بشكل متسارع بعد السابع من أكتوبر.
لقد ظهرت بوادر الأزمة مع تولي الحكومة الحالية زمام الأمور، وسعيها لتمرير تعديلات دستورية أثارت موجة من الاضطرابات الداخلية، فتراجعت ثقة المستثمرين الأجانب في السوق الإسرائيلية. ومثّل مشروع نتنياهو انتكاسة كبيرة لصورة إسرائيل "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، التي طالما جذبت المستثمرين وارتبطت باستقرار المجتمع. فوفقًا لاستطلاع رأي أُجري في يوليو/تموز 2023، شرعت 68% من شركات التكنولوجيا الإسرائيلية في اتخاذ إجراءات لتنويع استثماراتها خارج إسرائيل أو نقل مقراتها الرئيسية إلى دول أخرى.
ومع تصاعد حدة حرب الإبادة، تغيّرت النظرة الدولية تجاه إسرائيل، وصنّفتها العديد من الدول دولة مارقة باستثناء الولايات المتحدة وأوروبا، مما أسهم في الحفاظ على تدفق الاستثمارات، لكن بصورة مختلفة عن السابق، خاصة في قطاع الشركات الناشئة. وقد بلغت الاستثمارات الأجنبية في التكنولوجيا الإسرائيلية منذ بدء الحرب 9 مليارات دولار، وهو مبلغ كبير يضع إسرائيل في المرتبة الثالثة عالميًا بعد سان فرنسيسكو ونيويورك. ومع ذلك، تواجه الشركات الناشئة ضغوطًا متزايدة، حيث أصبحت رؤوس الأموال المغامرة أكثر تحفظًا تجاه الاستثمار في إسرائيل.
الاستثمار الأجنبي
يعتمد قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي بصورة أساسية، مثلما هو الحال في كل دول العالم، على نموذج استثمار رأس المال المغامر/Venture Capital، إذ تساهم المؤسسات المالية الكبرى في تمويل شركات ناشئة أو مبتكِرة تمتلك إمكانات نمو عالية، مقابل الاستحواذ على حصة من ملكية الشركة. وينقسم هذا التمويل عادةً إلى فئتين رئيسيتين: الأولى تستهدف الشركات الناشئة التي لم تحقق أرباحًا بعد، لكنها تملك فرصًا واعدة. والثانية تركز على الشركات المستقرة التي أثبتت نجاحها وتسعى للتوسع من خلال تطوير تقنيات جديدة أو الدخول إلى أسواق دولية.
في سياق الحرب الإسرائيلية على غزة، تبرز أهمية المرحلة التي وصلت إليها الشركات المُمَوَّلة أو المُستحوَذ عليها؛ فالتوترات الأمنية دفعت المستثمرين إلى التركيز على الشركات المستقرة التي أثبتت جدوى أفكارها، إذ تتمتع هذه الشركات بمرونة أكبر في تسويق منتجاتها عبر أسواق متعددة ونقل مراكز تطويرها إلى مواقع بديلة إذا استدعت الظروف ذلك. على النقيض، تواجه الشركات الناشئة تحديات أكبر، مما يجعل الاستثمار فيها محفوفًا بالمخاطر، رغم العوائد الكبيرة المحتملة على المدى الطويل.
وبالرغم من أن الاستثمارات الإجمالية قد تبدو غير متأثرة بشكل كبير عند النظر إليها للوهلة الأولى، فإن التدقيق في توزيع هذه الاستثمارات يكشف عن تغيرات ملحوظة في سلوك المستثمرين. فقد استحوذت الشركات المستقرة على 46% من إجمالي التمويل ضمن ما يُعرف بجولات الاستثمار الضخمة/Mega rounds، التي تزيد قيمتها عن 100 مليون دولار، لكن ما يؤكد على حجم التحول هو أن 76٪ من الشركات التي جمعت استثمارات كانت لها مقرات خارج إسرائيل.
انعكس هذا التحول أيضًا على قيمة الاستحواذات على الشركات الإسرائيلية، التي انخفضت من 10.6 مليار دولار عبر 108 عمليات استحواذ في 2023 إلى نحو 9.6 مليارات دولار عبر 73 عملية استحواذ في 2024.
وما يبرز حجم هذا التحول هو أن 2.5 مليار دولار من هذا المبلغ خُصّص لصفقتي استحواذ فقط على شركتي Resident وWalkMe، وأن أكبر عشرة استثمارات استحوذت على ما يقارب 50% من إجمالي الاستثمارات، مقارنة بأقل من 25% في السنوات السابقة.
العنصر البشري وأماكن الحرب
تُعد تل أبيب مركزًا لصناعة التكنولوجيا، كما تمثّل الصورة التي تقدم للعالم بوصفها "محور الحياة الليبرالية المنفتحة"، وكأنها جزء من أوروبا، مما جعلها نقطة جذب للمهنيين في قطاع التكنولوجيا من داخلٍ وخارجٍ. ومع أن الحكومة الإسرائيلية حاولت توسيع نطاق هذا القطاع ليشمل مناطق خارج تل أبيب، فإن هذه المحاولات لم تؤتِ ثمارها، خاصة في شمال إسرائيل، إذ اضطر العديد من العاملين إلى مغادرة مقرات شركاتهم بعد اندلاع الحرب.
ووفقًا لتقرير صادر عن مؤسسة Startup Nation Central الإسرائيلية، تواجه الشركات في الشمال تحديات ضخمة، وأظهر استطلاع أُرسل إلى نحو 60 شركة تقنية في الشمال أن 45% منها فقط تعمل بشكل كامل، ونقلت 41% من الشركات عملياتها إلى أماكن أخرى.
قرّرت 20% من الشركات الخاضعة للاستطلاع عدم العودة مرة أخرى إلى الشمال، في حين لا تزال 70% منها في حالة من عدم اليقين حول إمكانية الرجوع. كما نقلت 24% من الشركات جزءًا من عملياتها داخل إسرائيل إلى أماكن أخرى للتكيف مع الوضع الراهن. وتدرس 32% من الشركات نقل جزء من عملياتها إلى الخارج. فيما تعرضت 36% من الشركات إلى إلغاء استثمارات تجاوزت 25%.
كما أثرت الحرب على وفرة المهنيين في قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي، مع استدعاء نحو 30% من العاملين في هذا القطاع إلى الخدمة العسكرية الاحتياطية، ضمن أكثر من 350 ألف جندي احتياطي جرى استدعاؤهم لحرب الإبادة. وأدى ذلك إلى نقص واضح في الكوادر البشرية داخل الشركات بمختلف أحجامها، سواء الشركات الناشئة أو الشركات التكنولوجيا الكبيرة، مما أثر على وتيرة العمل والإنتاجية.
وهو ما يؤكده تقرير مؤسسة "Startup Nation Central"، الذي ذكر فيه أن الشركات التقنية في إسرائيل تواجه تحديات كبيرة تتعلق بنقص الكوادر البشرية بسبب الحرب، إذا أفادت 44% من الشركات بأنها تواجه نقصًا في الكوادر في المتوسط والمرتفع.
تراجع ثقة المستثمرين
ألقت الحرب بظلالها على قرارات العديد من مؤسسات وصناديق الاستثمار التي بدأت بمراقبة الأوضاع في إسرائيل بحذر وسط ازدياد التوترات الأمنية والاقتصادية. مثلًا، أعلنت "سامسونج نكست" الذراع الاستثمارية لشركة سامسونج للإلكترونيات في أبريل/نيسان 2024 عن إغلاق عملياتها في إسرائيل بعد عشر سنوات من الاستثمار هناك، مبررة قرارها بتدهور الظروف الاقتصادية في البلاد نتيجة الحرب المستمرة. وقد اعتبرت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات/BDS هذه الخطوة إشارة واضحة على تراجع الثقة في الاقتصاد الإسرائيلي.
كما أضافت مجموعة "يوني كريديت" الإيطالية إسرائيل إلى قائمة المناطق المحظورة للاستثمار فيها عند اندلاع الحرب في أكتوبر، إذ جاء القرار متماشيًا مع سياسة البنك المتعلقة بتمويل الصادرات الدفاعية، إلاّ أن الإجراء تجاوز التوجيهات الإيطالية إلى الصادرات إلى إسرائيل.
كذلك أعلنت Storebrand Asset Management، وهي شركة إدارة استثمارات نرويجية، عن تصفية استثماراتها في شركة "بالانتير تكنولوجيز" (Palantir Technologies) بمبلغ يُقدر بـ24 مليون دولار، وذلك بسبب ارتباط تقنيات الشركة بدعم العمليات العسكرية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وشهدت الفترة نفسها تراجعًا إضافيًا في استثمارات شركات دولية أخرى، مثل شركة التأمين الفرنسية "أكسا" التي باعت تقريبًا جميع حصصها في الأسهم البنكية الإسرائيلية، وأبقت فقط على حصة صغيرة في "بنك لئومي". كما أعلن "صندوق الاستثمار الاستراتيجي الأيرلندي" عن خروجه من ست شركات إسرائيلية، بما فيها بعض أكبر البنوك الإسرائيلية، موضحًا أن ملف المخاطر المتعلق بهذه الاستثمارات لم يعد يتوافق مع معايير الصندوق.
بين تراجع الثقة وظهور مراكز إقليمية بديلة
باتت ثقة المؤسسات التمويلية في السوق الإسرائيلية على المحك، إذ ازدادت التحديات أمام قطاع التكنولوجيا وسط اضطرابات سياسية وأمنية متصاعدة. في ظل هذا الوضع، تبرز فرص جديدة لأسواق المنطقة للاستفادة من هذا التراجع وتقديم نفسها مراكز بديلة للاستثمار التكنولوجي. على سبيل المثال، قد يُمثّل المشروع الاقتصادي السعودي الذي يستهدف بناء بيئة قانونية واقتصادية جاذبة للاستثمارات نموذجًا بديلًا إذ تخطط المملكة لاستثمارات داخلية وخارجية في قطاع التكنولوجيا تصل إلى 28 مليار دولار بحلول عام 2027، مما قد يعزز من قدرتها على جذب المؤسسات التمويلية التي تبحث عن استقرار واستدامة طويلة الأجل.
ورغم أن بعض القطاعات، مثل الأمن الرقمي، قد يكون من الصعب نقلها لأسباب سياسية واستراتيجية، فإن قطاعات أخرى أكثر مرونة، مثل التكنولوجيا الصحية وتكنولوجيا الزراعة والطاقة، قد تجد في أسواق الخليج، خاصة السعودية والإمارات، بيئة مواتية، فإن هذه التغييرات لن تحدث بين ليلة وضحاها، لكنها قد تسير بوتيرة تسرّعها حرب الإبادة، مما يفرض على الأسواق المنافسة استثمار الأزمة الآن.
استمرار الاضطرابات تحت حكم اليمين المتطرف قد يزيد من وتيرة الانسحاب التدريجي للاستثمارات من السوق الإسرائيلية، ما يجعل من الفرص المتاحة أمام مراكز التكنولوجيا الجديدة في المنطقة واقعًا أقرب للتحقق.