ربما مصطلح "العنصرية"، الذي يتم تداوله الآن على نطاق واسع، مثله مثل أي شيء آخر يتم الآن تفريغه من جوهره وتحويله لسلعة شعبية تتداول في سياق اجتماعي واسع، يستهلك ويتلاعب، ليس فقط بكمالياته، بل بمكوناته الأساسية، وفي طريقة نظرته للأمور.
ربما هذا التداول واسع المدى فرضه اتساع نطاق الميديا الحديثة، والسوق الجديد، الذي يتم فيه تداول المصطلحات والرغبات، التي أصبحت بدورها أداة لتوليد صراعات، وخلق فضاءات فكرية تمييزية من الهواء، خاصة مع الأجيال الجديدة التي تستمد هويتها ومعرفتها وتعيش منافساتها ومقارناتها عبر تلك الميديا، وليس من التجربة.
ربما بدأ التصدي للعنصرية في الظهور بتلك القوة والانتشار في لحظتين فارقتين في التاريخ الحديث، أولهما ثورة الملونين في أمريكا في الستينيات، لإلغاء التمييز العنصري، والآن، مع ثورة المعلومات ووسائل الاتصال الحديثة، باختلاف الدافع وراء كل منهما.
ربما مع تنامي نزعة التمايز الاستهلاكي، التي تغلغلت إلى قناعات الذات الإنسانية وليس فقط رغباتها، أصبحت "العنصرية" أحد أعراض تلك النزعة. ربما غياب مفهوم إنساني تحرري بعيدًا عن الإيديولوجيات السياسية والأديان، كما حدث في فترة الستينيات وما صاحبها من احتجاجات لإلغاء الفصل العنصري، هو السبب الذي جعل المصطلح مستباحًا، يمكن أن يُطلق على سلوك شعب أو جماعة من طرف جماعة أخرى، بعيدًا تمامًا عن منشئه وتطبيقاته الأكاديمية.
صورة الرجل الأبيض
هناك اتهام، أراه مجانيًا، أو به بعض الاستسهال في الحكم، يتم تناقله بين بعض النخب الثقافية في مصر، مؤداه بأننا شعب عنصري. ربما يود صاحبه، أن يبرئ نفسه من ذنب الأكثرية "العنصرية"، التي ينتمى لها. بالطبع تنحاز تلك النخب لفكر"الأقلية" التي يُمارس عليها التمييز، كوسيلة لمقاومة فكر "الأكثرية".
يحمل الاتهام فى طياته انحيازًا أخلاقيًا ربما لم يجد مكانه الصحيح، فأخذ يقتص من "الذات"، بدلًا من الاقتصاص من الآخر المتسلط الذي يملك القوة، والسبب دائمًا فى ميلاد أي نوع من العنصرية، الذي تجسدت صورته القديمة في الرجل الأبيض المستعمِر. فداخل الاتهام هناك تمثل غير مباشر لصورة ذلك الرجل.
هل يمكن أن نقف تجاه من يعيش بيننا وتجاه الشعوب الأخرى المساوية لنا في أوضاعنا الاقتصادية موقف الرجل الأبيض منها؟
صوت الأقلية النخبوية
يحمل الاتهام، ضمنيًا، تماه بين "الأكثرية" وبين الرجل الأبيض المستعمِر، بالتأكيد هناك سياقات أخرى ولّدت العنصرية بعيدًا عن الاستعمار، ولكنها سياقات تحمل خطابًا متناقضًا، يتضمن التمييز والمساواة معًا. وهناك أيضًا تماه بين السلطة والأكثرية، كما حدث من قبل بين "الأنا" التي تعبر عن الأكثرية، وبين "الأنا" التي تعبر عن "الأقلية الضحية" الواقع عليها فعل التمييز، مثل أصحاب البشرة السوداء، المسيحيون، الذين يشغلون مكان "الأقلية"، مع تحفظي على تسميتهم بالأقلية، باختلاف مواقعهم؛ التي يُمارس عليها فعل التمييز.
ربما ما يدور في خلد موجِّه هذا "الاتهام"، ولايصرح به؛ أنه يتكلم بوصفه من الأقلية المستثناة. تلك الأقلية "النخبوية" التي لا تسير سير الغوغاء. هل مكان "الأقلية" انقلب الآن، وصار امتيازًا؟ ربما لا يحدث هذا إلا وتلمس تعاليًا نخبويًا من أصحاب ذلك الصوت.
ترك الرجل الأبيض أثرًا غائرًا في مخيلة الناس
بالطبع هناك ظواهر وممارسات من طرف أفراد أو جماعات من المجتمع تجاه أطراف أخرى، ولكنها غير ممنهجة، ولا تؤصل لهذا المفهوم العنصري ذي الاتجاه الواحد، الذي لا رجعة فيه. هناك مرونة في عواطف الناس، لا تسير في اتجاه واحد، ليست كما فى أوروبا وأمريكا، التي استقر فيها مفهوم العنصرية دون رجعة.
قد تكون هناك قوانين تحد من نموها فى المجال العام، ولكن فى المجال الخاص، بشكل عام، توجد الأرض الخصبة لها. هناك ولد الاستعمار، وهناك تجري محاولات، على قدم وساق، لدمج المستعمِر والمستعمَر القديمين ليتم تجاوز ذلك المأزق التاريخي الذي وقع فيه الغرب.
إعادة نسخ صورة الرجل الأبيض
فى نظر أصحاب البشرة السوداء، تم وضع المجتمع ككل مكان الرجل الأبيض المستعمِر، وأصبحوا يشغلون مكان الرجل الأسود المستَعمر. أتساءل هل هذا ينطبق على الوضع في مصر؟ هل يمكن أن نقف كمجتمع، أو شعب، تجاه من يعيش بيننا، وتجاه الشعوب الأخرى المساوية لنا في أوضاعنا الاقتصادية، ودرجة التقدم؛ موقف الرجل الأبيض منها؟ ربما مازالت علاقات المستعمِر-المستعمَر تعيد نفسها، ليس على أرض الواقع، ولكن فى الخطاب اليومي، وفي الخيال الشعبي.
لقد ترك الرجل الأبيض أثرًا غائرًا في مخيلة الناس. عندما يقول أحدهم "نحن شعب عنصري" ربما تكون هذه العبارة، التي تحمل تعاليًا ما، موجهة لمصدر قوة بداخله هو ويريد أن يُعلي من شأنه، ربما يريد أن يوقظ ذلك "الرجل الأبيض" المستعمِر الذي بداخله، والذي يعيش داخل الخطاب؛ ليعيد تمثله من جديد.
كأن لسان حاله يقول بأننا نملك كأفراد وكمجتمع القدرة على ممارسة العنصرية، لأننا أقوياء، ولسنا هذا الآخر الضعيف. بهذا الشكل نضع أنفسنا مكان المستعمِر القديم، نعيد حركاته، وليس "قهرنا" الذي أورثنا إياه. وربما يكون السبب أيضا هذا التفسير التقليدي المعروف بأننا نعيد إنتاج فكر الجلاد المتقدم، كوننا أضحيات متخلفة. ربما كوننا متخلفين عن الجلاد، يجعلنا نتماهى معه داخليًا، نقفز لنلاقيه، ليكون هو "الآخر" بالنسبة لنا، نموذجنا الأخلاقي، و أيضًا نموذجنا في استخدام القوة الرمزية.
فرانز فانون ومعذبو الأرض
يشير فرانز فانون، الطبيب النفسي الفرنسي والمناضل في حرب الجزائر ذو الأصول الإفريقية، في كتابه المهم معذبو الأرض، إلى أن "موجات الهجرة من إفريقيا حملت شخصيات ذات بنية نفسية هشة، كانت تتوجه مباشرة إلى تقمص شخصية "الرجل الأبيض" بكل تمثلاتها اللغوية والسلوكية والنفسية".
بالتأكيد صُدم الرجل الأسود المستعبَد، بعد رحلة الاستعباد، عندما وجد نفسه يتقمص، تبعًا لفانون، نفسية جلاده، ودون أن يفقد غضبه منه وعنفه المكتوم تجاهه. لم تُوجد نقطة التصالح الجماعية، ربما وُجدت بين أفراد تجاوزوا هذا الجسر بدون تماه مع الرجل الأبيض، بل برحلة استقلال وتحرر طويلتين. غياب نقطة التصالح تجعل هذه العلاقة بين الأقلية/الأكثرية، الفقير/الغني، المستعمِر/المستعمَر حية فى العالم، ولا تزال تأخذ منحنيات جديدة، وتتسلل لثقافات وتبيض وتتوالد فيها.
ربما حدة أتباع "الأفروسنتريك" في طرح قضيتهم، يعبر عن نفسه كعنف مستتر من تاريخ ظالم، استعبدهم، وسلبهم حضارتهم الإنسانية وثرواتهم لصالح الرجل الأبيض المستعمِر. والآن لا يملك ذلك المستعمِر، أو تجار العبيد القدامى، أن يمنحوا تعويضًا لهولاء، إلا عن طريق طرف ثالث تاريخي، هو الحضارة المصرية القديمة في هذه الحالة، وليس من كان السبب في ذلك الاستعباد ونهب الثروات.
يتم الآن التلاعب باللون والبشرة والدين، كواقٍ ضد التخلي عن المسؤولية الأخلاقية للغرب تجاه هذا الإرث من العبودية والاضطهاد والعنصرية بالطبع.
بين الطبقية والعنصرية
ربما حدث تماهٍ وتداخل في استخدام المصطلح بين الطبقية والعنصرية. وربما الطبقية والتقسيم الهيراركي للمجتمعات القديمة، زرع بذرة هذه العنصرية والتفريق بين البشر بسبب وضعهم الاقتصادي أو العرقي، أو اللوني. ولكن يظل للطبقية، حضور وممارسة في مصر، بين طبقات أقوى وأخرى أضعف، وكذلك بين الأقليات نفسها. على سبيل المثال فهناك طبقية داخل المجتمع النوبي، وأيضًا داخل المجتمع المسيحي، بل داخل المجتمعات الأقل قدرة اقتصادية بينها وبين بعضها البعض.
ربما لم ترق "الطبقية"، لخلق ما يسمى "العرق"، أو الطبقة النقية، كما حدث مع المستعمرين للمستعمرات الأفريقية، فالأقلية، تجاوزًا، مهما كانت، أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الذات.
ربما العنصرية، عَرَض من الأعراض الجانبية للاختلاف، ولعدم التكافؤ، وللفوارق الطبقية والجنسية واللونية.
ولكن في مصر، لم يتعقد الاختلاف والتعدد ويتحول إلى مرتبة التمييز العنصرى. التمييز فى مصر سواء تجاه اللون أو الدين، طافٍ ليس له جذور، ربما يرجع لنوع من السخرية الجارحة، للذات والآخر، ولكنها غير مؤدلجة، ولتمثلات استعمارية، وأيضًا ربما يرجع لنوع من الدونية الطبقية والخوف من الآخر، و أيضا شعور بالتفوق المجاني. ولكنها ممارسات غير ممنهجة، فالبشر يقومون بتطويع عدم التكافؤ، مهما كان حجمه، لصالح البقاء المشترك ولتدعيم صلة الحب بينهم.
يذكر هومي بابا، أحد أهم المنظرين لفكر ما بعد الاستعمار، مع إدوارد سعيد، وغيرهما؛ كيف أن الطبقة تخفي وراءها تمايزات أكثر. وبالتالي فالحديث عن العنصرية في مصر، ربما يخفي أيضًا وراءه حسًا طبقيًا. هذا التمييز نشط أكثر مع نمو المدينة وظهور الطبقات، فالطبقية في الريف لها مكان متوارٍ وغير مصرح به، كونه مجتمع علاقاته مباشرة ومتداخلة ولم يكوِّن بعد جماعاته المتمايزة وطبقاته الواضحة.
ربما هناك أهمية لمناقشة فكرة الطبقية، التي هي خطوة في طريق العنصرية، والتي أصبحت سمة من سمات المجتمع المصري.
قفزة غير محسوبة في الظلام
هناك طريق آخر يطور هذا الاختلاف/التعدد، وهو الحب، التقارب، أو المساواة.
في فيلم خمن من سيأتي على العشاء، بطولة الممثل الأسود سيدني بواتييه. سيكون هو مدعو الفتاة البيضاء التي تحبه. يشرح لها والدها المعترض على هذه العلاقة، أن نصف الحب الذي بينها وبين ذلك الفتى الأسود الوسيم يرجع فقط لكونه أسود. أى أن الابنة تتحرك بدافع من "عقدة الذنب" تجاه الرجل الأسود. تريد الفتاة أن تكفر عن ذنوب من سبقها فى اضطهاد هذا اللون، وأن تقفز بالحب هذه الحواجز الزمنية. أمام قضية معقدة كهذه يمكن أن يكون الاقتناع غير كامل، ولكن الإيمان كامل.
ربما قناعات من هذا النوع الخلاق تدمج الاختلاف، أو تطيل زمنه، ليخرج مركّبًا جديدًا منه. لا بد من قفزة غير محسوبة في الظلام.
أتذكر كانت لي زميلة مسيحية في الجامعة أحبت زميلًا مسلمًا، في وقت حساس جدًا في نهاية السبعينيات. كانت قصة حبهما مستمرة وفعالة ومتوهجة ومتقبلة من الجميع باستثناءات قليلة. الحب هو الذي يقفز فوق الحواجز ويضع فكرة الاختلاف على أرضية جديدة. إنه يمتص منها ميراث العنف الكامن الموجه من كل عرق أو دين للآخر المختلف، ويضع بدلًا منها الإيمان. يبني جسرًا بين مكانين متوهمين، لأنه مكان واحد انقسم دينيًا.
دادة سعادة
أتذكر "دادة سعادة"، السيدة الأثيوبية، التي جاءت مع موجات تجارة العبيد إلى مصر وأصبحت فيما بعد جزءًا من عائلة أمي. عندما ماتت كانت والدتي ما تزال في عمر الحادية عشر، لكنها حزنت عليها حزنًا شديدًا.
كانت دادة سعادة إحدى النفوس الهشة التي تحدث عنها فرانز فانون. ودفنت في مقبرة العائلة بجانب الحائط على مسافة من أفراد العائلة التي عاشت وسطهم. بالنسبة لي لا تشكل هذه المسافة أي فارق، هي مسافة الرعاية والاهتمام فالموت يلغي أي مسافة. عند كل زيارة لمقابر العائلة أقرأ الفاتحة لدادة سعادة ولأمي، ربما تجتمعا يوميًا لاستعادة رحلة بعثهما و"أيامهما الحلوة".