الصورة: كانفا
عسل نحل

تخيَّل أن العسل اختفى

منشور الاثنين 14 نوفمبر 2022

في مارس/ آذار 1998، كان النحال المصري فؤاد بدران، الذي يعيش في مدينة طنطا بمحافظة الغربية، يضع خلايا نحل العسل الذي يربيه بالقرب من حدائق الفاكهة في قرية شبرا النملة، التابعة لمركز طنطا. لكن أتت الرياح بما لم تشته السفن حين استخدم أصحاب الحدائق المبيدات الحشرية للقضاء على الآفات؛ وهذا عاد بالضرر على خلايا النحل، مسببًا خسائر فادحة لبدران.

منذ ذلك الحين، قرر بدران، النحال الخمسيني الذي ورث هذه المهنة عن أجداده منذ عام 1959، ألا يضع نحله في تلك المنطقة، تجنبًا للخسائر المتوقعة. 

يقول بدران للمنصة، "في مارس 2021، فيه نحالين جازفوا وحطوا النحل هناك في نفس الحدائق بشبرا النملة، لكن للأسف لما جه وقت رش المبيدات الحشرية، كان النحل هناك ومات".

مهنة قديمة 

اهتم المصريون القدماء بتربية نحل العسل منذ آلاف السنين، ويتجلى ذلك في الرسومات التي تركوها على جدران المقابر والمعابد. واهتمت العائلات الملكية بنحل العسل أيضًا، فمثلًا عُرف الملك مينا باسم "النحال"، وكان يُشار لولي العهد بـ"ملك النحل"، بحسب دراسة للدكتور يحيى النجار، الأستاذ المساعد في قسم علم الحيوان، شعبة الحشرات بكلية العلوم، جامعة طنطا.

وتوارث المصريون تربية نحل العسل إلى أن تأسست أول جمعية لمربي النحل عام 1920، بغرض إرشاد المربين إلى أفضل طرق التربية. 

شهدت أعداد خلايا النحل ارتفاعًا في الفترة من 1961 إلى 1990، ووصلت إلى 1.7 مليون خلية، ثم انخفضت أعدادها في الفترة بين 2005  إلى 2015 إلى 800 ألف خلية فقط، بحسب دراسة الدكتور النجار، التي اهتمت بمعرفة مدى تأثر نحل العسل في مصر خلال العقود السابقة بالمبيدات والعوامل المناخية.

واستندت الدراسة التي نُشرت في دورية Taylor & Francis Online، في سبتمبر/ أيلول 2018 إلى بيانات لأعداد خلايا نحل العسل في مصر صادرة عن منظمة الأغذية والزراعة. 

وجدت الدراسة  أنّ الزيادة في أعداد خلايا النحل واكبت النهضة الزراعية في مصر، إذ زادت الرقعة الزراعية بنسبة 10%، خاصة عام 1970، عندما احتلت أهم 5 محاصيل مصرية نحو 77% من مساحة الأرض المزروعة. وساعد هذا النحل في الحصول على قدر كبير من الغذاء، ما عزز ازدهاره. 

في فترة الازدهار تلك، تشكلت علاقة بدران بالنحل "بدأت علاقتي بالمهنة دي لأول مرة لما رُحت مع والدي المنحل عام 1973، كان وقتها عمري ستة سنوات". 

نحو الخطر 

تذهب دراسة منشورة في دورية The Royal Society في 10 يناير/ كانون الثاني 2018، إلى أنّ أعداد نحل العسل الغربي Apis melliferta تتناقص نتيجة فقدان الموائل والإسراف في استخدام المبيدات الحشرية، إضافة إلى التغيرات المناخية وانتشار مسببات الأمراض.

ويتميز هذا النحل بوجود ما يزيد عن 20 نوعًا منه، ما يجعله واحدًا من أكثر أنواع نحل العسل شيوعًا، وهناك فصيلة منه في مصر هي Apis mellifera lamarckii، يعتمد عليها النحالون أيضًا، ولكنه موجود في مناطق محدودة. 

وكشفت دراسة أخرى منشورة في دورية Taylor & Francis Online في يوليو/ تموز 2022، تناقص أعداد خلايا النحل في 37 دولة، من ضمنها مصر، في شتاء 2019/2020. ورصدت معدل خسارة مصر بـ 24.3%.

هذه الخسارة يمكن عزو جانب منها إلى التغيرات المناخية، بحسب الدكتور النجار "هناك تأثيرات غير مباشرة للتغير المناخي؛ ما يؤدي إلى تقليل مصادر الرحيق، نتيجة انخفاض أعداد الأزهار فتتأثر النباتات عمومًا؛ وعليه لا يجد نحل العسل الكثير من مصادر الغذاء؛ فتنتشر أمراض النحل".

أما بدران، فتأثر عمله من قبل بسبب السيول، وكذلك بسبب أمراض النحل "أمراض كتير بدأت تصيب النحل زي طفيل الفاروا، وإنتاجية النحل عمومًا بتقل بسبب نقص الموارد". هذا إلى جانب المبيدات الحشرية التي تسببت في خسارته عدة مرات، "نحل العسل لما بيمرض عمومًا مش بيتغذى كويس، وحتى لما بنحطلها تغذية ممكن ترفضها".

لكن تأثير المبيدات الحشرية لا يتوقف عند هذا الحد، فهناك دراسة منشورة في دورية Science of The Total Environment في أغسطس/ آب 2022، أجراها الدكتور يحيى النجار ومجموعة من الباحثين، تشير إلى أنّ بكتيريا معدة النحلة تتأثر أيضًا بالمبيدات الحشرية. 

"النحل مثل الإنسان، لديه مجتمعات من البكتيريا في المعدة لمساعدته على هضم الطعام. وإذا تعرضت هذه البكتيريا للمبيدات الحشرية يحدث خلل يؤدي إلى زيادة أعداد بعض أنواع البكتيريا الضارة، ونقصان أعداد أنواع أخرى، واختفاء مجموعات ثالثة. كل هذا يُضعف النحل ويُسهل إصابته بالأمراض"، يشرح النجار.

حِل وترحال

يتحرك النحل أحيانًا لمسافة أربعة أو خمسة كيلومترات بحثًا عن الغذاء، ولذا يُطلق عليه "نحل جوّال". ويتحرك به النحال من مرعى إلى آخر بناءً على مناطق توافر الغذاء، بحسب بدران  "زمان النحال مكانش مضطر يتحرك بالنحل كتير، بخلاف الوضع الحالي".

يعاني بدران مشكلة أخرى تتعلق بجودة العسل، "أحيانًا، بنحلل عينات من العسل، فنلاقي نسب عالية من الرصاص وثاني أكسيد الكربون، وده بيقلل جودة العسل. كمان الدول الأوروبية مش بتتساهل مع متبقيات المبيدات".

ومن جهته يؤكد النجار على خطورة بقایا المبیدات والمعادن الثقیلة علی صحة الإنسان، حيث لا بد أن تکون الترکیزات أقل من النسب المسموح بها؛ لكي یکون العسل آمنًا. 

أما عن الخسائر المادية، يُوضح بدران أنها بسبب نقص الإنتاج وارتفاع أسعار مستلزماته، وعدم مواكبة سعر العسل لتكلفة إنتاجه "لأنّ العسل في مصر مش سلعة استراتيجية زي الأرز أو الزيت أو السكر. إذا ارتفع سعره، الناس مش هتبطل تشتريه. والخسائر دي نتيجة الاستخدام الجائر للمبيدات، وعدم وجود علاجات آمنة وفعّالة للنحل. أغلب العلاجات المستخدمة كيميائية، وضارة بالنحل، ده غير التلوث البيئي". 

حلول ممكنة 

في مواجهة ضعف إنتاجية النحل اقترحت دراسة منشورة في 25 أغسطس/ آب 2022 في دورية Apidologie، تعزيز القيمة الغذائية لحبوب لقاح نبات الذرة، عبر طحن جداره الخارجي ميكانيكيًا. وقارنت الدراسة استهلاك النحل لحبوب لقاح الذرة المطحونة بالأخرى غير المطحونة، ورصدت أنّ النحل يتغذى بصورة أفضل في الحالة الأولى. 

وفي هذا الصدد، يقول الدكتور يحيى النجار، المؤلف الرئيسي للدراسة، "تهتم مصر بزراعة الذرة على مساحة واسعة، لكن محتواها البروتيني قليل؛ فلا يستفيد منها النحل. مثل الشخص الذي يأكل كميات كبيرة جدًا من الطعام قليل القيمة الغذائية. وتدور فكرة البحث حول تحقيق أقصى استفادة من حبوب اللقاح؛ فعندما طحناها، استطاع النحل أن يبلعها ويستفيد من محتوى البروتين كله، فكانت النتائج إيجابية".

نحل عسل

ويشير النجار إلى ضرورة نقل الفكرة إلى التجارب الحقلية عبر أبحاث تالية أو مكملة لهذا البحث، ومن ثمّ اعتماد الفكرة وتطبيقها على أرض الواقع. 

أما المبيدات الحشرية؛ ففي ظل المنتجات المتاحة في وقتنا الحالي، يشدد النجار على ضرورة تعاون المزارعين مع النحالين، فيخبروهم مسبقًا بيوم رش المبيدات ليتخذ النحال التدابير اللازمة للحفاظ على الخلايا. 

ويشرح النجار المشكلات التي تواجه صناعة المبيدات الحشرية، "تمر عملية صناعة المبيد واعتماده في السوق بعدة مراحل وتجارب تستغرق ما يقرب من 10 سنوات؛ فهي عملية طويلة نسبيًا؛ لأننا نحتاج لقياس نسبة السمية على النباتات والأسماك والطيور والنحل والثدييات وغيرهم من الكائنات الحية؛ حتى نتأكد من أنّ المبيد ليس سامًا". 

ويشير إلى تغاضي بعض الشركات عن التجارب المهمة، وتهتم فقط بتأثير المبيد والجرعة المميتة الوسطية LD50، ولا تهتم بالتأثيرات الأخرى مثل تأثير المبيد على بكتيريا المعدة وسلوك الحشرة والأمراض الأخرى. بينما بدأت دول الاتحاد الأوروبي الآن تطوير خطوات تقييم المخاطر؛ لضمان تطبيق كل خطوات الأمان. 

ماذا سيحدث إذا اختفى نحل العسل؟ 

يجيب الدكتور يحيى النجار "هناك مقولة شهيرة منسوبة لألبرت أينشتاين، إنه ʼإذا اختفى النحل من سطح الأرض، لن يعيش الإنسان سوى أربع سنواتʽ، وهي عبارة صحيحة علميًا لأن النحل يساهم في تلقيح 80% من المحاصيل. إذا اختفى، ستقل إنتاجية النباتات، وعليه؛ سيتأثر التنوع الحيوي، وسنخسر منتجات النحل من عسل وسم وصمغ. وهذه المنتجات لها أهمية طبية كبيرة جدًا، إضافة إلى المشاكل التي ستُهدد الأمن الغذائي. كل هذا سيؤثر على حياة الإنسان على المدى البعيد". 

يُوصي النجار بضرورة اتباع النحالين للإرشادات العلمية في تربية النحل. ويتفق معه فؤاد بدران "مش لازم نكون متخصصين، لكننا نؤمن بالعلم" الذي يأمل أن يظل العسل دواءً وليس داءً.