PXHERE
العلاقة بين الزراعة وتغير المناخ تبادلية

دعم صغار الفلاحين ضرورة لإنقاذ الكوكب

الزراعة كسبب للتغير المناخي وضحية له

منشور الأربعاء 16 نوفمبر 2022

ثمة علاقة مركبة وتبادلية بين الزراعة والتغيرات المناخية، فمن الممكن أن يلعب الفلاحون دورًا أساسيًا في الحد من آثار التغيُّرات المناخية عبر آليات التخفيف والتكيُّف في القطاع الزراعي.

ويأتي COP27 في ظل أزمة غذائية عالمية متنامية منذ 2019، بدأت بتعطُّل سلاسل الإمداد الغذائي على خلفية جائحة كورونا، وامتدت باضطرابات أسعار الحبوب والأسمدة على خلفية الحرب الأوكرانية. 

ومن هنا أخذت مسألة الأمن الغذائي أهميتها في أجندة المؤتمر، وخصص يوم لموضوع الزراعة والتكيف مع التغيرات المناخية. وكانت هناك، للمرة الأولى، ثلاثة أجنحة متعلقة بالزراعة في المؤتمر؛ الغذاء والزراعة، والغذاء من أجل المناخ، والنظم الغذائية. بالإضافة لجناح الصندوق الدولي للتنمية الزراعية.

وشهدت فعاليات اليوم المخصص للزراعة بـ COP27 لقاءات وجلسات عدة تدعم صغار الفلاحين في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، ولكن أيضًا كان وجود جماعات ضغط الشركات الكبرى للتقاوي والأسمدة كبيرًا.

وأطلقت الرئاسة المصرية مبادرة نحو تحول مستدام للغذاء والزراعة/FAST، بالتعاون مع منظمة الأغذية والزراعية لزيادة مساهمات تمويل دعم تحول قطاع الزراعة والغذاء. كما تم زيادة دعم مبادرات سابقة مثل التحدي العالمي للأسمدة، وهي مبادرة أمريكية. ومبادرة الابتكار الزراعي من أجل المناخAIM for Climate/ AIM4C المشتركة بين الولايات المتحدة والإمارات.

في حين لم تظهر بعد ملامح مبادرة الرئاسة المصرية لمؤتمر المناخ بالتعاون مع منظمة الأغذية والزراعة، وصفت شبكة الفعل البيئي في نشرتها السابعة المبادرتين الأخيرتين بأنهما تعبران عن هيمنة منطق الشركات، وتهددان السيادة الغذائية، وحقوق المزارعين.

إذن ظل الصراع بين منطق الشركات الكبرى، جماعات ضغط شركات التقاوي والأسمدة، من جهة، ومنطق صغار الفلاحين ومنظمات دعم السيادة الغذائية من جهة أخرى، حاضرًا في فعاليات COP27 كما هو حاضر خارجها.

علاقة التغيرات المناخية والزراعة

لفهم العلاقة بين التغيرات المناخية والزراعة يجب بداية توضيح ماهية التغيرات المناخية وكيف تحدث. يوضح موقع الأمم المتحدة أن التغيرات المناخية تشير إلى التحولات طويلة الأجل في درجات الحرارة وطبيعة الطقس للكرة الأرضية، التي ترجع أساسًا لزيادة انبعاثات الغازات الدفيئة وأهمها: ثاني أكسيد الكربون، والميثان، وأكسيد النيتروجين الثنائي.

تنتج هذه الغازات عبر الأنشطة المتعددة للبشر، ولا تقتصر عواقب التغيرات المناخية على ارتفاع درجات الحرارة، ولكنها تشمل الجفاف الشديد وندرة المياه وزيادة العواصف الترابية، وانخفاض الأكسجين في الجو، وارتفاع مستوى سطح البحر وغرق السواحل وتدهور التنوع البيولوجي، والظواهر المناخية المتطرفة من زيادة العواصف والأعاصير وتقلبات الطقس.

ومع ذلك، فإن علاقة الزراعة بالتغيّرات المناخية لا تقتصر على تأثّر الزراعة بالتغيرات المناخية، ولكنها تشمل أيضًا دورًا سلبيًا يتمثل في إنتاج الزراعة غازات الاحتباس الحراري، وآخر إيجابيًا بتخفيفها حدة الانبعاثات، عبر امتصاص وتخزين غازات الاحتباس الحراري.

وفي الفقرات التالية سنقدم بعض التفاصيل لهذه العلاقة المركبة بين الزراعة والتغيرات المناخية.

تأثير الزراعة في المناخ

التغيرات المناخية والإضرار بالزراعة

لمعرفة آثار التغيرات المناخية على الزراعة نعود إلى تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المنا خ IPCC التي تقدم تقارير دورية حول حالة الفهم العلمي والفني والاجتماعي والاقتصادي لتغير المناخ وأسبابه وتأثيراته المحتملة، واستراتيجيات التصدي لهذا التغير.

وتمثل تقارير IPCC وثيقة علمية تصدر من مجموعة بحثية كبيرة من أنحاء العالم كافة، ترصد وتحلل إجمالي الإنتاج العلمي بشأن التغيرات المناخية وآثارها، وتقدِّم الخلاصة لبناء سياسات جديدة تحد من ارتفاع حرارة الكوكب وتقلل من الانبعاثات (فيما يعرف بسياسات التخفيف)، وتزيد أيضًا من قدرة المجتمعات المحلية والدول للتأقلم وتفادي تدمير البيئات، وتحد من الخسائر الناتجة عن الاحداث المناخية المتطرفة (فيما يعرف بسياسات التكيف).

ويتضح في التقرير الأخير الذي صدر عام 2022، والمعني بالأثر والتأقلم والهشاشة، أن أثر تغيرات المناخ التي تم رصدها في القطاع الزراعي تشمل تدهور خصوبة التربة، وإصابة النبات بالأمراض، وتدهور الإنتاجية وصعوبة ظروف العمل نتيجة الارتفاعات الكبيرة للحرارة والظواهر المناخية المتطرفة مثل موجات الجفاف، الأعاصير، الفيضانات، والعواصف الترابية.

كذلك، فإن ارتفاع تركيزات ثاني أكسيد الكربون وتغير المناخ يقللان من فاعلية المبيدات، ما يؤدي إلى زيادة الكميات المستخدمة. كما ترفع التغيرات المناخية عدد المعرَّضين لخطر الجوع، الذين يعيش حوالي 80% منهم في إفريقيا وآسيا.

يوضح التقرير أيضًا أن إنتاجية المحاصيل الزراعية ستتأثر سلبًا بالتغيرات المناخية، خاصة في شمال إفريقيا، حيث رصد انخفاض إنتاجية الذرة والأرز والصويا والخضروات والألياف، مقابل تحسن إنتاج القمح بصورة متوسطة، والدرنيات (البطاطس والبطاطا) والفواكه بشكل طفيف.

نفهم من التقرير أيضًا أن التأثير يتفاوت من محصول لآخر، وأن إنتاجية بعض المحاصيل قد تتحسَّن بفعل ارتفاع درجات الحرارة عند حدود معينة، لذلك فالموضوع معقد ولا يخضع للأحكام المطلقة، بل يحتاج إلى رصد وبحث مستمرين.

وإذا نظرنا إلى مصر، سنجد أن مقالات العدد الثالث لمجلة السيادة الغذائية  التي تصدرها شبكة شمال إفريقيا للسيادة الغذائية(1) تشير إلى آثار ارتفاع درجات الحرارة حاليًا على محاصيل الرمان والبطاطس والمانجو والذرة، وتأثيرها أيضًا على العمالة الزراعية النسائية وعلى تملُّح الأراضي والمياه بشمال الدلتا.

وتقدر دراسة للمعهد الدولي لأبحاث سياسات الغداء حدوث انخفاض كبير في المحاصيل الغذائية بحلول عام 2050، نتيجة الاجهاد الحراري والمائي والملوحة الناتجة عن التغيرات المناخية. محذرة أن خلال 50 سنة ستتأثر الزراعة سلبًا في مصر بالتغيرات المناخية، في حال عدم حدوث أي تدخل، وستنخفض إنتاجية معظم المحاصيل نتيجة التغيرات المناخية.

 

المزارع الكبرى وزيادة آثار التغيرات المناخية

تُزيد الأنشطة المتعلقة بإنتاج الغذاء وشكل النظم الزراعية السائدة بدورها من التغيرات المناخية عبر إنتاج غازات الاحتباس الحراري. وبحسب تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة فإن هذه النظم الغذائية تسبِّب حوالي 31% انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وهي نسبة كبيرة تنتج عن استخدامات الأراضي والإنتاج الحيواني، واستخدام الوقود الملوَّث، كما يتضح من الشكل.

الانبعاثات الصادرة عن الأنشطة الزراعية

تنتج الزراعة إذن كمية كبيرة من الانبعاثات، وهي مسؤولة بدرجة كبيرة عن ارتفاعات الحرارة، ولكن المسؤولية الأكبر تقع على أنماط الإنتاج عالية الاستغلال للطاقة والأسمدة والمبيدات، وأيضًا الإنتاج الحيواني، وهو مسؤول عن 51% من الانبعاثات الزراعية.

بصورة أكثر تحديدًا تقع المسؤولية الأكبر على المزارع والشركات الضخمة لإنتاج اللحوم والألبان. وتشير دراسة أجريت عام 2018 حول انبعاثات كبار منتجي اللحوم والألبان، أن أكبر خمسة مزارع منتجة للحوم والألبان تنبعث منها غازات احتباس حراري أكثر من شركات نفط عملاقة مثل Shell وExxon وBP. وأن الانبعاثات الصادرة من أكبر عشرين مُنتِجًا للحوم والألبان في العالم، تزيد عن التي تطلقها ألمانيا أو كندا أو أستراليا أو المملكة المتحدة أو فرنسا.

كيف تخفف الزراعة من آثار تغير المناخ

التغييرات في الإنتاج الزراعي بوسعها تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري وإزالة ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، من خلال امتصاص الكربون من الجو عبر الغطاء النباتي وعملية التمثيل الضوئي، وكذلك تخزين الكربون بالتربة.

يمكن أيضًا أن يؤدي تغيير الممارسات الزراعية إلى تخفيض انبعاثات القطاع الزراعي، عبر تغيير ممارسات الإنتاج أو استخدام الأراضي في زيادة الكربون المخزَّن في التربة أو الغطاء النباتي.

تأثير الزراعة في التخفيف من انبعاثات الكربون

كما يمكن أن تؤدي التغييرات الأخرى في ممارسات الإنتاج واستخدام الأراضي إلى تقليل انبعاثات غاز الميثان وأكسيد النيتروز. بالإضافة إلى ذلك، قد تنتج الزراعة أنواعًا من الوقود الحيوي، والتي بوسعها أن تحل محل الوقود الأحفوري وتقلل من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري عبر قطاعات متعددة.

تعتبر هذه الإجراءات أشكالًا للتخفيف من آثار تغيُّر المناخ. ورغم إمكانيات الزراعة في امتصاص وتخزين الكربون وخفض الانبعاثات فالنمط الزراعي المهيّمن عالميًا يُنتج من الكربون أكثر مما يخزن بدرجة كبيرة جدًا.

لذلك يمكن القول إن الزراعة بشكلها الحالي من أكبر أسباب التغيرات المناخية، وفي الوقت عينه تتأثر تأثرًا كبيرًا بسلبياتها.

صغار الفلاحين في مصر والتغيرات المناخية: نحو انتقال عادل

تواجه الزراعة المصرية تحديات عدة من المرجح أن تزيد آثار التغيرات المناخية في مصر؛ خاصة أنها تغلب عليها الحيازات الصغيرة، الأقل من خمسة أفدنة، والتي تمثل 91.8% من الحائزين و47% من المساحة.

بينما يجعل هذا النموذج للحيازات الصغيرة الزراعة المصرية أقل في استهلاك الطاقة، إلا أنها كثيفة الاستخدام للمبيدات والأسمدة والمياه، وقدرتها منخفضة على التكيف مع التغيرات المناخية، أو المساهمة بشكلها الحالي في خفض الانبعاثات.

وتقدر دراسة للمعهد الدولي لأبحاث سياسات الغذاء التكلفة الاقتصادية في قطاع الزراعة والغذاء في مصر بنحو 55.3 مليار دولار أمريكي لمدة 30 سنة (2020-2050)، أي ما يعادل 1.84 مليار دولار سنويًا. ومع ذلك فإن هذه المزارع الفلاحية الصغيرة هي الأكثر قدرة على التأقلم والتخفيف من آثار التغيرات المناخية، ولكنَّ تحقيق ذلك يتطلب تغيرًا متعدد المستويات في النظم الغذائية وبرنامجًا طويل المدى.

تحتاج السياسة الزراعة المصرية لكي تكون فاعلًا أساسيًا في مواجهة التغيرات المناخية ومشكلاتها الأخرى أن تتبنى الانتقال العادل. يتردد هذا المصطلح الهام في أروقة COP27 بشرم الشيخ. ويعني الانتقال العادل إجراء تحول لنمط إنتاج واستهلاك يحفظ الموارد الطبيعية ويصونها، مع تحسين وتطوير سبل العيش والحقوق الاقتصادية والاجتماعية للسكان المحليين.

ويتطلب الانتقال العادل تبني الزراعة البيئية التجديدية إذ تمثِّل نهجًا أكثر قابلية للتطبيق لمساعدة صغار الفلاحين في مصر لزيادة الإنتاج وتلبية الاحتياجات الغذائية، وخفض آثار التغيرات المناخية وإعادة إحياء بيئتهم الطبيعية والزراعية.

وتعرَّف الزراعة البيئية بأنها عِلم وممارسة وحركة اجتماعية تهدف إلى إنتاج كمية مناسبة من الغذاء عبر الاستغلال الأمثل للعمليات البيئية وخدمات النظم البيئية.

والفكرة الرئيسية لعلم الإيكولوجيا الزراعية هي تجاوز النموذج المسيطر والمرتكز على الإنتاج الكبير عالي الإنتاج للانبعاثات والمسبب لزيادة التفاوت وافتقار الفلاحين إلى نظم زراعية بيئية بأقل قدر من الاعتماد على المدخلات الزراعية والكيميائية المرتفعة، مع إعادة تأهيل النظام البيئي بأكمله وتعزز الموارد الطبيعية، بدلاً من استنزافها.

تمويل الزراعة الفلاحية

الانتقال العادل للزراعة الفلاحية قد يحولها لمصدر لامتصاص وتخزين الكربون، ويعيد صيانة الموارد ويحسن من صحة وجودة حياة غالبية المصريين، لكن ذلك يتطلب تغييرًا في تكنولوجيا الزراعة والتعليم الزراعي عبر دعم تكنولوجيا الزراعة البيئية وتطويرها.

ويتطلب ذلك تغيير سلوك منتجي ومستهلكي الغذاء، بالإضافة إلى تغيير السياسات، وتغيير طريقة حساب الفوائد والخسائر، فالمنافع الناتجة عن هذا التغيير تصب في كثير من مناحي الحياة، ليس لجيل واحد ولكن لأجيال متعاقبة.

ومع ذلك، لا تحصل الزراعة الفلاحية على الدعم اللازم لهذا التحويل الضروري والهام، محليًا أو دوليًا. فعالميًا لا يتحصل صغار الفلاحين إلا على قدر ضئيل للغاية من التمويل المتعلق بالمناخ، وفي عام 2019 كانت تلك النسبة أقل من 1.7%.

أخيرًا، تطالب العديد من المنظمات الفلاحية في مؤتمر المناخ، مثل التحالف من أجل السيادة الغذائية في إفريقيا/AFSA، وهو تحالف واسع من الجهات الفاعلة في المجتمع المدني التي تعمل على تعزيز السيادة الغذائية والإيكولوجيا الزراعية في إفريقيا، بزيادة تمويل الزراعة الفلاحية ضمن تمويل التخفيف والتكيف مع العدالة المناخية. وربما يكون استضافة مصر للمؤتمر فرصة لطرح هذا النقاش محليًا كذلك.


(1)اتحاد يضم مجموعة من الجمعيات الأهلية والمنظمات والنقابات الفلاحية العاملة في مجال دعم الفلاحين والتحول نحو السيادة الغذائية والزراعة البيئية بدول شمال إفريقيا، تأسس بالمغرب عام 2017.