مصطلح سلاسل الإمداد ليس جديدًا، وإن تم تداوله في السابق على نطاق ضيق بين العاملين به وبعض الاقتصاديين والأكاديميين، فإن الكثيرون صاروا يتحدثون اليوم عن أزمة سلاسل الإمداد العالمية، ولكن من دون الدقة الكافية، فما حقيقة تلك الأزمة التي يتحدثون عنها؟ وكيف تؤثر على الاقتصاد العالمي وبالتالي على حياتنا اليومية؟
في هذا المقال، سنحاول توضيح الأمر بشكل مبسط حتى يمكننا فهمه والتعايش معه.
يمكننا تعريف سلسلة الإمداد (أو التوريد) بأنها كل الأنشطة المتعلقة بحركة المواد وتصنيع البضائع من مواد خام إلى سلع جاهزة للبيع؛ كل سلعة أو خدمة لها سلسلة إمداد فريدة، وتتشابك تلك السلاسل مع بعضها لتكون سلسلة إمداد كبيرة عالمية تعتمد بشكل رئيسي على نظام لوجستي قادر وفعال.
تتضمن سلسلة الإمداد أنشطة المشتريات والنقل والتخزين وتخطيط الإنتاج، وكل ما بإمكانه إيصال البضائع إلى مكانها على الرف ليصبح المستهلك قادرًا على شرائها. ولهذا تحتاج لإدارة جيدة لضمان توفير السلع والخدمات التي تناسب احتياجات المستهلك اليومية، فكل ما تستهلكه وصل إليك عن طريق سلسلة إمداد؛ من الطعام للإمدادات الطبية للأثاث والأجهزة. بمعنى آخر، إذا أردت شراء منتج ما ولم تجده عند البائع، على الرف، فهو دليل واضح على فشل إدارة سلسلة الإمداد.
تأثير الدومينو
يتم التبسيط أحيانًا بتوصيف الأزمة بأنها ناجمة عن الإغلاقات والإجراءات الصحية أثناء انتشار فيروس كورونا، أو بسبب الأزمة العالمية في الشحن البحري؛ الحقيقة أن تلك الأزمة تسببت فيها مجموعة من العوامل تعمل وفق ما يمكن وصفه بـ"تأثير الدومينو"، حيث إن تغييرًا صغيرًا يمكنه بدء تفاعل متسلسل، يُحدث بدوره تغييرًا آخر، وهكذا دواليك في تسلسل خطّي مستمر ينتج عنه نتائج سيئة. لا تزال قطع الدومينو تستمر في التساقط حتى الآن.
تعتمد سلاسل الإمداد العالمية على مفهوم "الإنتاج المعولم" و"التعهيد" (outsourcing)، بمعنى أن الشركات الكبرى لا تصنع المنتجات بشكل كامل، ولكنها تستعين بشركات مختلفة تتواجد في دول أخرى، خصوصًا في جنوب شرق آسيا، لإنتاج أجزاء من تلك المنتجات بشكل أرخص، ثم تقوم بتجميعها معًا في دولة ثالثة، بعدها يُشحن المنتج النهائي إلى الأسواق؛ تطبيق واضح للعولمة اقتصاديًا.
للتبسيط نذكر مثال صناعة السيارات؛ يُصنع محرّك السيارة في ألمانيا، الإطارات في تايلاند، المصابيح في الصين، نظام التعليق في السويد، والزجاج في فرنسا، وفي النهاية تجمّع السيارة في تركيا ليجري تصديرها إلى جميع أنحاء العالم. نظام معقّد ولكن بواسطته تستفيد الشركات من الكفاءة الإنتاجية لبعض الدول، إنتاج بتكلفة أقل ودون اشتراطات عديدة على العمالة سواءً من الجانب القانوني أو الصحي، بل أحيانًا بظروف عمل غير إنسانية، ولكنها في النهاية تحصل على أرباح أكبر وأكبر.
لاستمرار هذا النموذج الإنتاجي المتشابك لا بد من تواجد نظام نقل قوي للغاية للبضائع والمكونات والمواد الخام. ملايين السفن تتحرك يوميًا لتنقل المنتجات عبر العالم. تواجد ذلك النظام سمح للشركات بتطبيق استراتيجيات تقليل المخزون لتوفير التكلفة. بمعنى آخر، لماذا يجب على موزع السيارات أن يخزن عددًا كبيرًا منها، في حين أن السفن يمكنها أن تأتي أسبوعيًا محملة بالبضائع نفسها؟
إذن، يمكن لهذا الموزع أن يطلب كميات بسيطة بناءً على توقع طلب العملاء خلال فترة زمنية ما. يمتد هذا الأمر أيضًا للمنتجين، حيث لا حاجة لإنتاج كميات كبيرة من السلع التي ستمثل عبئًا ماليًا على الشركة، يمكن فقط إنتاج كميات صغيرة تكفي حاجة المستهلكين بناءً على توقع الطلب المستقبلي.
يقوم مخططو سلسلة الإمداد بمتابعة المبيعات الشهرية السابقة وبناءً عليها يمكنهم توقع الكمية التي يمكن أن يطلبها المستهلكون في المستقبل. في النهاية، ينتج عن هذا وفورات هائلة في سلسلة الإمداد، تضيف لأرباح كل هذه الشركات وتمكنها من توفير البضائع اللازمة بسعر أقل والبقاء في السوق التنافسي.
فهمنا إذن كيف تتنافس الشركات عبر إدارة سلاسل الإمداد، ولكن ماذا يحدث عندما تتوقف أي من حلقات السلسلة عن العمل؟ ببساطة تنهار بالكامل ولن يتوفر المنتج للعميل أو سيتوفر بكميات أقل من المطلوب.
تأثير الجائحة
في بداية انتشار فيروس كورونا احتُجز كثير من الناس حول العالم اضطراريًا في بيوتهم، واجتاح العالم حمى حظر التجول والإجراءات الصحية. في البداية تأثر الطلب على البضائع بشكل ملحوظ. أمر طبيعي ومنطقي ألا يشتري الناس سلع عديدة مثل السيارات والماكينات والملابس وغيرها.
توقفت بعض المصانع عن العمل وقلل البعض الآخر من الإنتاج. توقع المنتجون أن يستمر الوضع على هذا النحو، ولكن ما حدث كان العكس. ازداد الطلب بشكل ملحوظ على السلع الاستهلاكية والأجهزة المنزلية. الموظف الذي كان يعمل من المنزل احتاج إلى مكتب وكرسي وجهاز كمبيوتر. الأسرة التي تمكث في المنزل تستهلك طعامًا أكثر وتشتري منصات ألعاب ومستلزمات عمل المخبوزات.
ازدهرت التجارة الإلكترونية بشكل متصاعد. تغيرت أنماط الطلب الاستهلاكي بما يعني أن ما كان يتوقعه خبراء سلسلة الإمداد مسبقًا أصبح غير واقعي. أصبحت الشركات عاجزة عن توقع طلب المستهلكين بعد عقود من الاستقرار النسبي. هذا كله بالإضافة لنقص العمالة المؤهلة والحاجة السريعة لزيادة إنتاج بعض السلع مع عدم قدرة الشركات على تلبية الطلب المتزايد.
من ناحية أخرى، فإن الصين، مصنع العالم، عانت مشكلات متعلقة بنقص الطاقة لأسباب عديدة، أهمها اعتمادها بشكل أساسي على الفحم. ألزمت الحكومة الصينية الشركات الصناعية بتقليل استخدام الفحم والاتجاه للطاقة النظيفة، مما زاد من حجم الكارثة ونقص البضائع.
تراكم الحاويات
كما ذكرنا من قبل، تعتمد سلسلة الإمداد على نظام نقل قوي يمكن الاعتماد عليه لنقل البضائع حول العالم، ولكن ماذا يمكن أن يحدث إذا توقف هذا النظام عن العمل أو تعرض لكارثة بدوره؟ هذا تحديدًا ما حدث بعد انتشار كورونا مما عمق من جراح سلاسل الإمداد العالمية.
تُنقل المكونات والبضائع عالميًا عبر وسائط نقل متعددة، أفضلها من ناحية الكفاءة هو النقل البحري حيث ينقل 70% من قيمة البضائع عالميًا. يعتمد النقل البحري على نظام معقد لإدارة السفن عبر شركات ملاحية وموانئ مجهزة بأرصفة وساحات للشحن والتفريغ وتخزين البضائع.
من أهم طرق النقل استخدام حاويات الشحن النمطية التي تراها دائمًا حولك فوق سيارات النقل، سفن الحاويات أو حتى قطارات البضائع. تقدم هذه الخدمة شركات نقل كبرى تملك أو تدير الحاويات والسفن. لتقوم بهذه المهمة بشكل سلس، ومثلها مثل أي شيء آخر في سلسلة الإمداد، تحتاج لتوقع طلب السوق ليمكنها توفير كميات الحاويات الفارغة المناسبة في كل ميناء.
بشكل مبسط، يتوقع خبراء الشحن كمية الصادرات المستقبلية في كل ميناء على المدى القصير، وتُنقل الحاويات فارغة إليها حتى يتمكن المصدّرون من تأجيرها لنقل بضائعهم، ولكن الأمور ليست بهذه البساطة بالطبع، فهذه الحاويات لها أنواع متعددة ومقاسات مختلفة طبقًا لنوع البضائع المنقولة ومواصفاتها.
التحدي الدائم هو إمكانية التوقع الدقيق وإبقاء الكميات المتوقعة في الساحات التخزينية لحين طلبها. المشكلة مع جائحة كورونا أن طلبات المستهلكين اختلفت تمامًا عما قبل انتشار الفيروس. كما شرحنا سابقًا، ازداد الطلب على بعض المنتجات وقل الطلب بشكل كبير على البعض الآخر ثم ازداد مرة أخرى.
التوقع السليم للحاويات المطلوبة أصبح في غاية الصعوبة. تراكمت الحاويات الفارغة في بعض الموانئ وشحَّت في أخرى. تراكم الحاويات في بعض الموانئ سبب عطلًا كبيرًا لسلاسل الإمداد. أصبح على شركات النقل البحري أن تحاول نقل الحاويات الفارغة من أماكن توافرها للموانئ التي تعانى عجزًا فيها طبقًا لتوقع الطلب غير الدقيق بالأساس، ولكن هذا الأمر ليس سهلًا أيضًا، خصوصًا مع الضغط الشديد على الصادرات حيث تخرج السفن من الموانئ محملة بالكامل بالحاويات الممتلئة. لا مكان لتلك الحاويات الفارغة إذن.
مع زيادة الطلب على الحاويات ونقص العرض لأسباب مختلفة، تصاعدت أسعار الشحن لتصل إلى خمسة أضعاف ما كانت عليه سابقًا. وأصبح من غير المعروف الوقت المحدد لتوصيل المنتج إلى المستهلك في بلد أخرى. وأثرت زيادة تكلفة الشحن سلبيًا على أسعار المنتجات التي تصاعدت أسعارها بشكل كبير. ولكن المشكلة الأكبر كانت عدم توافر الحاويات من أساسه. تخيل أن المصدر استطاع الحصول على صفقة جيدة لتصدير بضائعه ولكنه غير قادر بسبب عدم تواجد الحاويات.
نعود إلى نموذج الإنتاج المعولم لنفهم أن المشكلة لا تتعلق فقط بالبضائع تامة الصنع، ولكنها تشمل أيضًا المكونات والسلع المتوسطة (مكونات السيارة في المثال التوضيحي السابق). يؤدى هذا في النهاية إلى عدم القدرة على الالتزام بإنتاج الكميات اللازمة لتلبية حاجات المستهلكين. ونرى الأمر واضحًا في الأرفف الفارغة وزيادة أسعار المنتجات.
عانت دولة مثل الولايات المتحدة من عجز في عدد سائقي النقل البري لتزداد المشكلة إيلامًا. أصبحت تلك الوظيفة غير جاذبة للعمالة. ساعات عمل طويلة حيث لا بد من الانتظار في الموانئ قبل شحن الحاويات بسبب التكدس. رواتب ضئيلة وظروف غير مُرضية جعلت النقل البري داخل الولايات المتحدة غير مستقر ولا يمكن الاعتماد عليه كليًا.
خلال 2021 أيضًا تصاعدت الأزمة بسبب حادثة جنوح السفينة إيفر جيفن في قناة السويس التي تمر بها 12% من تجارة العالم.
نقص أشباه الموصلات والشرائح الإلكترونية نتيجة مباشرة للأزمة وسبب إضافي للمعاناة. تصنع هذه الشرائح من السيليكون، وهي مطلوبة في منتجات عديدة تصل إلى 169 نوعًا من المنتجات. من أشهرها السيارات، الهواتف المحمولة، والعديد من الأجهزة الإلكترونية. أثناء انتشار فيروس كورونا ازداد الطلب على الأجهزة المنزلية كما ذكرنا سابقًا، لم تستطع الشركات المنتجة زيادة كميات الشرائح المنتجة في الوقت المحدد، مما أثر على العديد من القطاعات وساهمت في زيادة حجم الأزمة.
كل هذه الأسباب تساقطت كقطع الدومينو واحدًا تلو الآخر، لتحدث أزمة اقتصادية غير مسبوقة، يجد الخبراء صعوبة بالغة في توقع كيفية وموعد انتهائها. لكن الأغلب لا يتوقع تحسن الوضع قبل عام 2023 ولكن من ناحية أخرى ظهور متحورات جديدة من فيروس كورونا تطيل أمد المشكلة وتجعلنا غير قادرين على التكيف معها.