تصميم: أحمد بلال - المنصة
تصميم مستوحى من غلاف مجلة "مصر الصناعية"

فإن نزلت به أزمة لاقاها وهو أعزل

منشور الأحد 6 نوفمبر 2022 - آخر تحديث الثلاثاء 8 نوفمبر 2022

"بمناسبة الأزمة الشديدة التي يجتازها القُطر في الوقت الحاضر، التي ما هي إلا صدى الضيق العالمي من جهة، ونتيجة أغلاطنا الماضية والحالية من جهة أخرى. نرى من المحتّم على كل من تظله سماء مصر أن ينصرف إلى العمل بجميع قواه. فالأزمة النازلة بيننا تهدد بإنقاص دخلنا الأهلي، أو على الأقل إيراد عامنا الحالي إلى رقم منحط عن نفقاتنا، مما يُلجئنا إلى المساس برأس مالنا الأصلي. فالمسألة مطروحة على بساط البحث وهي في أوج خطورتها".

هذه الجُمَل المقتطفة من افتتاحية نُشرت في نوفمبر/ تشرين الثاني 1926 لمجلة مصر الصناعية، وهي صحيفة متخصصة كانت تصدرها جمعية الصناعات بالقطر المصري، التي أصبح اسمها لاحقًا اتحاد الصناعات المصرية. وهي تصلح للتعليق على الأزمة التي نشهدها اليوم، رغم مرور ما يقرب من قرن كامل على كتابتها.

لا يعني هذا بالطبع أن شيئًا لم يتغير في الاقتصاد المصري طوال تلك العقود. لكن رغم هذه التغيرات، وهي كبيرة في بنية الاقتصاد وفي علاقة مصر بالاقتصاد العالمي، يبدو أن بعض التحديات الأساسية التي كنا نواجهها قبل قرن تقريبًا لا تزال ماثلة، وبقوة.

فلنقرأ باقي الاقتباس ثم نحكم على مدى اتصال محتواه بالظرف الراهن.

جانب من افتتاحية مجلة مصر الصناعية - نوفمبر 1926

ترصد الافتتاحية في عام 1926 كيف وقف الاقتصاد المصري "أعزل" أمام الأزمة العالمية وقتها في خضم اضطرابات عالم ما بين الحربين العالميتين، الذي شهد انهيارًا متسارعًا للتجارة العالمية وحركة تدفقات رأس المال على نحو شبيه بدرجة ما بما يجري الآن.

وتُرجع الافتتاحية التاريخية هذا الموقف الضعيف إلى تدني مستويات التصنيع، أي لوضع مصر في التجارة العالمية باعتمادها وقتذاك على صادرات القطن في مقابل استيراد المنتجات المصنوعة من الخارج، وهو ما نواجهه اليوم من ضحالة القطاع الصناعي.

وتلقي الافتتاحية باللائمة في التدني المستمر لمستويات التصنيع على استثمار الفوائض البسيطة التي يولدها الاقتصاد المصري وقتها في الثروة العقارية، وبعض أشكال الثروة المنقولة التي لا تدخل في أي عملية إنتاجية، فلا تواجه أساس مشكلة الاقتصاد، لكنها كذلك تؤدي لمفاقمة غياب العدالة الاجتماعية.

اليوم والبارحة

إن اقتصادنا اليوم أكثر تنوعًا مما كان في زمن كتابة ذلك المقال القديم، عندما كانت صادرات القطن تمثل 90% من إجمالي الصادرات، وعندما كانت الزراعة هي القطاع المهيمن على الإنتاج والتشغيل والاستثمار.

فاليوم نما نصيب التصنيع بأنواعه، وتراجع نصيب قطاع الزراعة، وإن كانت الحصة الأكبر ذهبت للقطاعات الخدمية لا للتصنيع، بما فيها خدمات شديدة الهامشية منخفضة الإنتاجية والأجر، لكن كذلك قطاعات كالبناء والتشييد والتسويق العقاري، والتي تستهلك الجزء الأكبر من الادخار المحلي، المنخفض أصلًا، لتخلق أصولًا غير إنتاجية لا تسهم في تحسين وضع الاقتصاد المصري الخارجي، لا من خلال زيادة الصادرات ولا تخفيض الواردات.

وعلى الرغم من أن قطاع الصناعات التحويلية، أي غير العاملة في مجالات البترول والغاز والتعدين، يمثل اليوم نحو 16% من الناتج المحلي الإجمالي، التي سجلت بدورها نحو 50% من إجمالي الصادرات، إلا أن القطاعات الإنتاجية في مصر، وعلى رأسها الصناعة التحويلية، تعتمد بكثافة على مدخلات مستوردة من سلع وسيطة ورأسمالية وليس خامات فحسب.

يدل ذلك على ضحالة القطاع الصناعي من ناحية كونه لا يُنتج الكثير مما يحتاجه للإنتاج. وينطبق هذا على الصناعات الموجهة للتصدير، أو تلك الموجهة للاستهلاك المحلي، لأن كليهما يعملان في ذات الظروف الهيكلية التي تحد من القدرة على إنتاج قيمة مضافة مرتفعة، نظرًا لتواضع المستويات التكنولوجية المحلية وكذلك المهارات الفنية والتنظيمية.

ويضاف إلى هذا، ضعف اندماج الصناعات المحلية مع بعضها البعض فيما يمكن تعريفه بسلاسل الإمداد. والمقصود بها وجود شبكات من المنتجين والموردين والموزعين داخل السوق المحلية يمكن الاعتماد عليهم في توريد المدخلات المطلوبة سواء كانت سلعًا أو خدمات.

وهناك اتفاق بين الدارسين لاقتصاديات التجارة الدولية على أن ضعف سلاسل الإمداد والتوريد المحلية يتماشى تمامًا مع ضعف اندماج المنتجين في سلاسل الإمداد العالمية. وهو أمر منطقي، إذا كان الاقتصاد المحلي يعاني من عدم التكامل بين منتجيه ومورديه، فكيف سيتمتع هؤلاء بدرجات تكامل أو اندماج مع منتجين آخرين في اقتصادات أخرى؟

يقول شهير زكي، الأستاذ المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، والمتخصص في اقتصاديات التجارة، أن ضعف الاندماج المحلي بين الصناعات داخل الدولة الواحدة عادة ما يتماشى مع ضعف مستويات الاندماج في سلاسل الإمداد العالمية. ويدعم هذا الرأي في فصله بتقرير مشروع المستقبل بالأدلة المقارنة بين المنطقة العربية ومناطق أخرى من الجنوب العالمي، بما فيها جنوب آسيا وشرقها، وأمريكا الجنوبية، وإفريقيا.

وبدا الأمر واضحًا فيها جميعًا: إن تكامل سلاسل الإمداد المحلية، وهو علامة على درجات الاندماج داخل السوق المحلية، عنصر داعم للاندماج في سلاسل الإنتاج والتوريد العالمية والعكس بالعكس. ومن هنا، يتجدد الحديث عن تعميق الصناعة، والذي يكثر في أوقات الأزمات، تمامًا كما قرأنا في ذلك المقال القادم من زمن آخر.

كم سيكون مذهلًا، وإن كان مستحيلًا، أن نشاهد ردة فعل كاتب تلك الافتتاحية، قبل 96 سنة، ونحن نعيد نشر القسم الرئيسي منها باعتباره تعليقًا ذا صلة بما يحدث اليوم.