تقول الحكمة العربية القديمة، رغم أننا فراعنة، "ما هلك امرؤ عرف قدر نفسه". ومن يدعي القدرة على تقديم حلول لمشكلات تعميق الصناعة في مصر، أو غيرها، فهو إما جاهل أو نصاب.
ومن هنا فإن هذا المقال لا يهدف إلا إلى اقتراح خطوط عريضة لنقاش أوسع حول المسألة، مع التسليم الكامل بأن إخراج سياسات قابلة للتنفيذ يتطلب من ناحية الإلمام بمعرفة لصيقة على مستوى القطاعات والصناعات المختلفة، وربما حتى على مستوى الشركات والمصانع بل والورش، ويتطلب من ناحية أخرى الجمع بين المعرفة الاقتصادية ومعارف فنية ومتخصصة في الهندسة والعلوم التطبيقية، أو إدارة الأعمال والتسويق والمبيعات، وصولاً إلى خبرات محلية وقطاعية متوفرة فحسب عند من لديهم خبرات عملية في القطاعات والصناعات المستهدفة.
تخبرنا تجارب التنسيق الصناعي والتجاري في شرق وجنوب شرق آسيا، والتجارب القطاعية الناجحة في بلدان كالبرازيل وتركيا والهند، أن أفضل الترتيبات المؤسسية هي تلك التي تُبنى على خبرات وعلاقات قائمة بالفعل، وتطوعها وتعيد تشكيلها بما يعظم من مساحات التعاون والتنسيق والرقابة والمتابعة بين الفاعلين الأساسيين.
وفي مصر، هناك بالفعل بعض التجارب على مستوى قطاعات وصناعات بعينها، يمكن البناء عليها لإيجاد ترتيبات مؤسسية، قريبة من خبرة الجهاز البيروقراطي والقطاع الخاص، على مستويات أعلى يكون لها التأثير على جهود التنمية ككل، والعمل على تطويرها قانونيًا وتكنولوجيًا وإداريًا.
وهناك علاقات غير رسمية، عادة ما توجد على مستوى محلي، يمكن التأسيس عليها من أجل إتاحة التمويل أو النفاذ للتكنولوجيا وبناء المهارات البشرية.
على سبيل المثال، في 2018/ 2019 انكمشت الواردات المصرية بمعدل 5.5% في أعقاب تخفيض الجنيه وارتفاع تكلفة المدخلات المستوردة. ورغم هذا فإن قطاع الصناعات التحويلية ككل نما بمعدل 11% في تلك السنة.
ورغم أن هذه البيانات تعود لسنة واحدة، بما يقلل من فرص التعميم بناء عليها، فالأرقام تجمل قصصًا مفصلة لصناعات، وربما حتى آحاد الشركات، التي تمكنت من التكيف مع نقص الواردات وارتفاع تكلفتها بإيجاد بدائل محلية أو بتعديل هيكلها الإنتاجي، وتمكنت كذلك من استغلال غياب أو ارتفاع سعر المنافس الأجنبي.
حدث هذا في حالات داخل الشركة الواحدة، بتأسيس خطوط إنتاج جديدة أو ما يعرف بالاندماج الرأسي داخل المنشأة الواحدة، بينما في أخرى تم توسيع شبكات إمداد محلية، وهو ما يُسمى الاندماج الأفقي.
يجب أن تُدرس هذه التجارب والحالات ليس فحسب من الزاوية الفنية الهندسية أو التمويلية، ولكن كذلك من الزاوية الإدارية والاجتماعية من أجل إنتاج معرفة محلية ممنهجة ومنظمة تتيح فرص التعميم داخل أو بين الصناعات والقطاعات.
وكذلك الحال مع القطاعات الصناعية التصديرية التي تمكنت من التكيف مع الارتفاع في تكلفة المدخلات المستوردة، بل واستفادت من تخفيض الجنيه في توسيع نفاذها للأسواق الخارجية. بنفس المنطق كان استثمار الدولة في قطاع البتروكيماويات بغرض زيادة القيمة المضافة من إنتاج الغاز الطبيعي في مصر، وإنتاج مدخلات لازمة، طالما اعتمدنا على استيرادها من الخارج.
هنا تم الأمر بنجاح نسبي لأن الدولة اتبعت مسارًا مألوفًا ببناء مصنع عملاق يهيمن على الصناعة من أعلى، ويأتي هذا في ضوء هيمنة القطاع المملوك للدولة على أنشطة التكرير، وبالتالي البناء على ما هو قائم. بالطبع يتطلب تعميق الصناعة أدوات ومسارات مختلفة، ولكن الفكرة واحدة.
تحتاج مصر إلى إدراك أن تبني سياسات لتعميق الصناعة التحويلية هو مسألة مؤسسية في المقام الأول. وهذا أمر حيوي
ناقش المقال السابق تعريف تعميق الصناعة بالنظر إلى حالة مصر ودول أخرى شبيهة من حيث مستويات التنمية وتحديات علاقة الاقتصاد الوطني بالعالم الخارجي، ولكن كيف يكون تعميق الصناعة هذا؟ خاصة وأنها مسألة شديدة التداخل مع السياق الاقتصادي والسياسي العالمي، إلى جانب علاقة الدولة بالفاعلين الاقتصاديين الرئيسيين الذين يمكن تنسيق سياسات معهم، عادة ما تكون مركبة وطويلة الأمد ومتطلبة للكثير من الشروط المؤسسية، سواء بين الأجهزة البيروقراطية للدولة، أو بين الدولة والقطاع الخاص، من أجل تحقيق الغاية المنشودة.
السياسة القطاعية
تحتاج مصر أولًا إلى تطوير سياسة قطاعية، بمعنى أن ترسم الدولة استراتيجية لتحقيق التنمية، تقوم على تفضيل قطاعات بعينها يُنظر إليها على أنها ستحقق أهدافاً تنموية طويلة الأمد.
ويٌعتبر تفضيل تعميق الصناعة مُبَررًا انطلاقًا من قضيتين: الأولى هي تقديم معالجة جذرية في الاقتصاد الحقيقي للاختلالات الخارجية الكبيرة، وليس فحسب إدارة الأزمة المالية الناتجة عن المشكلة الواقعة في هيكل الاقتصاد، والتي تُرجمت إلى عجز ضخم ومزمن في الميزان الجاري وتزايد عبء الالتزامات الخارجية وأزمات متكررة في توفر النقد الأجنبي تؤدي إلى تخفيضات للجنيه، وبالتالي زيادة الضغوط التضخمية.
وأما الثانية، فهي الفوائد التقليدية، والمُجمَع عليها، من وراء تعميق الصناعة، سواء في خلق فرص عمل كمًا وكيفًا، أو في رفع القيمة المضافة لما يتم إنتاجه.
ولا تحظى مصر باستراتيجية قطاعية في الوقت الحالي، وهي ليست استثناءً في هذا المجال، إذ أن الأولويات عادة ما تكون قصيرة الأجل ومباشرة، إما هادفة إلى توليد معدلات نمو وتشغيل في الوقت الحاضر، من خلال قطاعات محلية كالبناء والتطوير العقاري، والتي لا تمس لا من قريب ولا من بعيد الاختلالات الخارجية لأنها لا تولد صادرات، ولا تقلل واردات، ولا تجذب رؤوس أموال خارجية بأي قدر معتبر.
وعادة ما يؤدي تفضيل قطاعات محلية كهذه إلى تقليص فرص الاستثمار في قطاعات الصناعة التحويلية، لأنه يجذب المدخرات المحلية، ذات النسبة المنخفضة أصلًا في بلد كمصر، ويوجهها لخلق أصول ميتة، بمعنى أنها لا تتحول إلى رأسمال يمكن استخدامه لإنتاج المزيد من السلع والخدمات. ويؤدي هذا إلى مفاقمة الاختلالات الخارجية والضعف الهيكلي للاقتصاد على المدى البعيد، ما يجعلها حرفيًا لا منها ولا من كفاية شرها.
مسألة مؤسسية
تحتاج مصر ثانيًا إلى إدراك أن تبني سياسات لتعميق الصناعة التحويلية هو مسألة مؤسسية في المقام الأول. وهذا أمر حيوي، لأن تبني "سياسات سليمة" أمر سهل نسبيًا ولكنه، على سهولته المفترضة، يكاد يكون مستحيلاً، لأن السياسات الناجحة لا يتم تبنيها كنماذج جاهزة، بل يتم تصميمها لتكون ملائمة قدر الإمكان للظروف القائمة في القطاعات المستهدفة.
وتصميم السياسات ثم تطبيقها هو مسألة مؤسسية بامتياز، لأنها تتطلب الاستثمار في ترتيبات على الأرض تُمكن من التعاون والتكامل بين الأجهزة البيروقراطية في الدولة، والمسؤولة عن السياسات الكثيرة المكونة لسياسة مركبة كتعميق الصناعة. ولكن كذلك، وهو الأهم، التنسيق مع المنتجين والموزعين، وغالبهم في القطاع الخاص الذي يملك نحو 90% من الناتج الإجمالي من الصناعات التحويلية في مصر، طبقًا لبيانات المركزي للتعبئة والإحصاء.
في كتاب "شطحات الصوفية" لأبي اليزيد البسطامي هناك فصل يقول فيه القطب الصوفي الشهير إنه سأل الله كيف السبيل إليه فكان الجواب "اترك نفسك وتعالَ". ربما يكون هذا هو الحال للوصول إلى الحقيقة المطلقة، وهو طبقاً للمأثور هنا أمر محال، ولكنه ليس بالضرورة كذلك لتعميق الصناعة.
إن الغرض من أي خطة هو الانتقال من نقطة إلى أخرى. ولا يكون هذا بالبدء من النقطة المفترض أنها الأفضل، بل يكون بالانطلاق من النقطة التي يجد فيها المرء نفسه. ومن هنا كانت أهمية البناء على الخبرات والتجارب والعلاقات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية الموجودة بالفعل، وتعديلها وتغييرها تباعًا.
إن الغرض هو الانطلاق من النقطة الأصلية لتجاوزها، لا البقاء فيها للأبد، وإلا فشلت الخطة وانتفى الغرض منها.