يتكرر الحديث عن تعميق الصناعة كحلٍ للعديد من المشكلات الاقتصادية والمالية التي تواجهها مصر، ومنها التخفيض المتكرر لقيمة العملة الوطنية والعجز في الميزان التجاري للسلع. كما يُنظر إلى تعميق الصناعة كسبيل نحو تحقيق التنمية الاقتصادية برفع قيمة ما ينتجه الاقتصاد الوطني ويتبادله مع العالم الخارجي، وبالتالي تحسين كمية وجودة فرص العمل، ومعها الأجور ومن ثَمَّ مستويات المعيشة.
والحق أنَّ الحديث عن التصنيع وتعميقه وتوطينه، وكلمات أخرى تضاف إليه، يعيدنا إلى التصور التقليدي الراسخ منذ القرن الـ19، الذي يربط بين التنمية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي من جهة، وتطور القطاع الصناعي ونموه في الناتج والاستثمار والتشغيل من جهة أخرى. وغلب هذا المنطق الذي يساوي التقدم بالتصنيع الذي تقوده الدولة عندما حصلت غالبية الدول الإفريقية والآسيوية على استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية، ومن بينها مصر.
وبالفعل، حققت الكثير من الدول "النامية" قفزات في مستويات التصنيع في الخمسينيات والستينيات، ولكنَّ أغلب برامج التصنيع كانت موجهةً للأسواق المحلية من خلال التصنيع لإحلال محل الواردات. وجرت هذه المحاولات التصنيعية في بلاد مختلفة كمصر والبرازيل والمكسيك والهند والأرجنتين، بأشكال متنوعة ومكثفة من الحماية الجمركية وغير الجمركية، التي جعلت من الأسواق المحلية لتلك الدول مساحات شبه مغلقة على المصنعين المحليين من القطاعين العام والخاص.
وعلى الرغم من مكاسب التصنيع في ظل برامج إحلال الواردات كحال مصر في عهد عبد الناصر في ظل الخطة الخمسية الأولي (1960-1965)، فقد ثبت أنها كانت مؤقتة وغير مستدامة لأسباب عديدة يمكن إيجازها في ثلاثة عوامل:
أولها أن التصنيع المستهدف للأسواق المحلية لم يسهم في إعادة تعريف ما تنتجه هذه الدول من أجل التجارة الخارجية، إذ ظل أغلبها معتمد على تصدير المواد الخام مقابل استيراد التكنولوجيا والسلع الرأسمالية، كالأجهزة والآلات الضرورية للتصنيع المحلي.
وثانيها أن جهود التصنيع واجهت صعوبات كبيرة في مجال التعميق، لأنه بعد استنفاد المراحل السهلة في التصنيع الخفيف كالملابس الجاهزة والأحذية والمنسوجات، وجدت الدول النامية نفسها غير قادرة على إنتاج السلع ذات التكنولوجيا الكثيفة، واللازمة من أجل استكمال مسارات التصنيع نفسها. إذ ظل عليها أن تستورد هذه من الخارج من أجل إنتاج سلع أقل قيمة محليًا.
وهو ما يقود إلى العامل الثالث، وهو أن التصنيع المحلي لإحلال محل الواردات أثبت للمفارقة أنه شديد الاعتماد على الاستيراد، ما خلق أزمات مديونية كبرى منذ السبعينيات أفضت إلى إفلاس العديد من الدول النامية، وبما ختم تجارب التصنيع المحلي هذه.
نجت من تجارب السبعينيات والثمانينيات القاسية دول قليلة في شرق آسيا، مثل كوريا الجنوبية وتايوان ومن قبلهما اليابان بالطبع، وهي دول لعبت حكوماتها دورًا أساسيًا في دعم جهود التصنيع منذ الخمسينيات، ولكن من أجل التصدير لا لإحلال محل الواردات.
أدت جهود التصنيع في تلك الدول إلى إعادة تعريف ما تنتجه هذه الاقتصادات للعالم الخارجي، بل وتمكنت الاقتصادات الآسيوية من رفع قيمة صادراتها، فبعد أن كانت تُصدّر لعب الأطفال والمنسوجات والأحذية في الستينات، أصبحت أكبر المصدرين للسيارات والسفن، ثم ما لبثت أن نجحت نجاحات مبهرة في تعميق التصنيع بإنتاج التكنولوجيا اللازمة لذلك.
أغرت تلك النماذج التي سبحت ضد تيار "إحلال محل الواردات" الدول النامية الأخرى في الثمانينيات إلى تكرار التجربة بالتوجه نحو التصدير عن طريق تحرير التجارة الخارجية، ودعم التصدير. ولكن بعد مرور نحو أربعين سنةً على ذلك التحول، الذي دعمته مؤسسات التمويل الدولية والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، يتضح أن مكمن الإشكال لا يزال في عمق القطاع الصناعي لا في تبني سياسات تصديرية في حد ذاته.
لأنه ببساطة شديدة في ظل ضعف القطاع الصناعي، أو عدم تمتعه بالعمق الكافي، فإن التصدير يكون لمنتجات ذات قيمة مضافة منخفضة، كالمواد الخام سواء كانت زراعية أو تعدينية. وهذا هو حال غالب دول إفريقيا والعالم العربي وجنوب آسيا وكثير من دول أمريكا اللاتينية.
وحتى الدول التي نجحت نوعًا ما في إعادة هيكلة صادراتها لتكون أكثر تصنيعًا، كحال تركيا التي زادت من نصيب السلع المصنعة في صادراتها على حساب المواد الخام، فإنها وجدت نفسها بعد ثلاثة عقود من اعتمادها سياسات التصدير الصناعي في مواجهة معضلة الاعتماد على استيراد السلع الرأسمالية ذات القيمة التكنولوجية الأعلى، وبالتالي ذات القيمة الأكبر، كي تتمكن من استئناف أنشطتها التصديرية.
وهذا هو سبب معاناة تركيا حاليًا من عجز هائل في ميزانها التجاري، وانهيار عملتها الوطنية، ومعدلات تضخم تجاوزت الـ80% في الشهور القليلة الماضية.
يحتاج تعميق الصناعة إلى سياسات جيدة، ولكنه بحاجة أكثر إلى مؤسسات تسمح بدرجات عالية من التنسيق داخل جهاز الدولة البيروقراطي
إذن، تظل المشكلة كامنة في تعميق الصناعة، تمامًا كما كان السؤال الأول الذي طرح بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. ما الذي تنتجه للعالم من أجل التبادل؟ وكيف يمكن أن تنتج سلعًا ذات قيمة مضافة أعلى؟
سيقول الخبراء من الناس لقد حققت دبي وسنغافورة ولوكسمبورج وهونج كونج نجاحات مذهلة بالاعتماد على خدمات مالية ولوجستية ذات قيمة مرتفعة جدًا، بدلًا من التصنيع الذي عفا عليه الزمن وعفَّ عنه الذباب.
نعم، يصلح هذا النموذج في الدول والدويلات صغيرة السكان، والمحاطة باقتصادات صناعية متقدمة، بما يجعلها مركزًا لخدمتها، كما كانت سويسرا في زمن الثورة الصناعية. ولكن لا يصلح هذا النموذج في دول كبيرة التعداد كأساس للتنمية. وهذا هو درس الهند، إذ أن التطور الكبير في خدمات الاتصالات بالكاد أنتج مليوني وظيفة في بلد المليار ومائتي ألف نسمة، وأكبر تجمع لفقراء العالم من حيث الرقم المطلق.
على الجانب الآخر من الهيمالايا، فإن الصين كنموذج جبار للنمو والتنمية ما هو إلا حالة كلاسيكية جدًا لثورة صناعية جرت وتجري منذ نهاية القرن العشرين، مكنت من التصنيع على نطاق واسع، والأهم من ذلك تعميق التصنيع تدريجيًا.
وهو ما مكّن الصين من مغادرة موقعها المبكر في السبعينيات والثمانينيات كمنتِج للسلع كثيفة العمالة منخفضة القيمة، كالأحذية والملبوسات، لتتحول إلى منتِج للسلع الرأسمالية -رغم أنها لا تزال تواجه صعوبات وتحديات جمّة لإنتاج التكنولوجيا- بينما انتقلت الصناعات التصديرية الممتازة، كورش المنسوجات وتركيب الأزرار وصناعة الأحذية، إلى دول مثل كمبوديا ولاوس وبنجلادش، لا لشيء إلا بفضل عمالتها الرخيصة.
وحدث هذا لأن عمالة الصين أصبحت أعلى ثمنًا، وهي علامة وشهادة على تحسن مستويات المعيشة ومعها نجاح الصين المبهر في انتشال نحو 300 مليون شخص من تحت خط الفقر رغم تفشي اللامساواة، ووصولها إلى مستويات غير مسبوقة منذ الثورة الماوية التي انتصرت في 1949.
ومن هنا، ففي حالة بلد كثيف السكان مثل مصر، لا يمكن أن يحيد المسار التنموي عن تعميق الصناعة، سواء بغرض إعادة هيكلة الصادرات لتكون أعلى قيمة مما هي عليه، أو لزيادة منافسة الصناعات المحلية في مواجهة الواردات في ضوء انفتاح السوق المصري النسبي بحكم التزامات مصر في منظمة التجارة العالمية والعدد الهائل لاتفاقات التجارة الحرة.
يحتاج تعميق الصناعة إلى سياسات جيدة، ولكنه بحاجة أكثر إلى مؤسسات تسمح بدرجات عالية من التنسيق داخل جهاز الدولة البيروقراطي وبين الدولة والمصنعين، وجلّهم اليوم من القطاع الخاص. وينبغي أن تعكس الإستراتيجية تفضيلًا قطاعيًا للتصنيع، وتصورًا واضحًا لأي صناعات داخل كل قطاع.
إن تنسيق مثل هذه الجهود أمر بالغ الصعوبة، وقد تمكن عدد صغير من دول الجنوب العالمي من إتمامه بنجاح، ولكن صعوبة الطريق لا تغني عن الحاجة لسلوكه. كان هذا عن تعريف وتبرير تعميق الصناعة في سياقنا الحالي، أما كيف السبيل إلى هذا فهو موضوع المقال القادم.