قبل أيام، قال المهندس نجيب ساويرس إن بيع العقارات بالدولار يحمي المطور العقاري من تقلبات العملة. لم يُفهم على وجه التحديد ما إذا كان ساويرس يرغب في أن تتم معاملات بيع وشراء العقارات بالدولار، ما يحظره ويعاقب عليه قانون البنك المركزي، أم أنه يتحدث عن تقييم العقود بالدولار، وإن تمَّت بالجنيه، لمقاومة آثار التضخم التي تلقي بظلالها السلبية على أي تعامل آجل.
لم يأتِ اقتراح ساويرس من فراغ، فمصر تعيش بالفعل واحدة من أكثر الفترات تضخمًا في تاريخها النقدي المعاصر. لا يعني التضخم ارتفاعًا مستمرًا في أسعار السلع والخدمات فحسب، بل يؤشر كذلك على تراجع قدرة النقود (الجنيه المصري في حالتنا) عن أداء وظائفها الأساسية مخزنًا للقيمة من أجل التعاملات المستقبلية.
تحدث المهندس نجيب عن مشكلات تواجه المطورين العقاريين في مصر، الذين يعتمدون بالأساس على نموذج البيع بنظام "الأوف بلان"، أي إتمام اتفاقات بيع الوحدات السكنية قبل بنائها، ما يعني ضمنًا تحديد أسعارها، واستخدام أقساط المشترين من أجل تمويل عمليات البناء والتشطيب.
قال ساويرس، ومعه حق، إنَّ التضخم يعني ارتفاع تكلفة إنتاج الوحدة ممثلةً في المدخلات المختلفة، دون أن يتمكن المطور العقاري من تعويض هذا الارتفاع في سعر الوحدة الذي تحدد بالفعل سلفًا، ليجد نفسه خاسرًا. وهو ما سيؤدي، حال استمراره، إلى عزوف المطورين عن البيع، تجنبًا لحالة عدم اليقين الناتجة عن الانخفاض المستمر في القيمة الحقيقية للجنيه.
ومن هنا، جاء الحل في العثور على مخزن بديل للقيمة يحظى بثقة أكبر من الجنيه المصري، فكان الدولار الأمريكي.
والاقتصاد المصري مُدَولر بالفعل في الكثير من تفاصيله، على رأسها ارتباط معدل التضخم المرتفع بالتراجع الكبير في قيمة الجنيه في مواجهة الدولار منذ فبراير/شباط 2022، وذلك في ضوء العجز الكبير في الموازين الخارجية، والاعتماد على الواردات من أجل توفير بعض أهم المدخلات للقطاعات الإنتاجية.
ويشمل ذلك قطاع التشييد والبناء الذي يعتمد على صناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة مثل الحديد والألومنيوم والأسمنت والطوب والزجاج وغيرها، ومصر مستورد صافٍ للوقود ما يعني أنَّ جزءًا من تكلفة الإنتاج معرض للزيادة مع ارتفاع قيمة الدولار.
مخاطر الدولرة
لكنَّ القفز خطوة إلى الأمام باستخدام الدولار، سواء كعملة بذاتها أو كعملة محاسبية في العقود المحلية، سيفتح الباب أمام أشكال جديدة من الدولرة لم يشهدها الاقتصاد المصري قط من قبل رغم ما مر به من أزمات كثيرة في السنوات الماضية.
التعامل بالدولار محليًا من شأنه أن يزيد الطلب على العملة الصعبة لإتمام معاملات كانت تجري بالجنيه
على الرغم من أن ضعف العملات المحلية في مواجهة الدولار سمة غالبة لدى معظم اقتصادات الجنوب العالمي، بما في ذلك بعض أكبرها مثل الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وتركيا والمكسيك، فإنَّ حالات تبني الدول الدولار بديلًا عن عملاتها الوطنية ليست كثيرة، ولا تضم أيًا من الدول الكبيرة سابقة الذكر، بل نجد الإكوادور والسلفادور وبنما وميكرونيزيا، وكيانات أخرى منتقصة السيادة مثل بورتوريكو وجوام وجزر العذراء.
وتعود ندرة حالات التخلي عن العملة الوطنية واعتماد معاملات الاقتصاد المحلي على عملة تصدرها حكومة أخرى، رغم ضعف العملة الوطنية وعدم استقرارها، إلى أنَّ الدول قلَّما ترغب في التخلي عن عملتها باعتبارها من مظاهر سيادتها، مهما كانت العملة الأخرى مستقرة. ولكن بالإضافة إلى ذلك، هناك أسباب اقتصادية تفسر لنا الأمر.
يخلق الحفاظ على العملة الوطنية على المستوى الكلي جدارًا عازلًا لتلقي الصدمات الخارجية، لأنه يتيح للحكومة أن تتلاعب بأسعار الصرف وبأسعار الفائدة لمواجهة التضخم أو التقليل من آثاره، حتى عندما يكون ناتجًا عن أسباب عالمية، أو لعلاج الاختلالات الخارجية عن طريق تخفيض سعر العملة.
كما أنَّ توسيع نطاق التعامل بالدولار لن يحلَّ أصل الأزمة وهو الندرة النسبية للدولار في الاقتصادات التي تعاني من اختلالات في معاملاتها الخارجية مثل مصر، لأنَّ الاقتصاد ككل يطلب كمية من الدولارات تتجاوز قدرته على توليدها من خلال الصادرات أو عن طريق جذب الاستثمارات أو تلقي المساعدات وتحويلات العاملين بالخارج وغيرها.
بل إن التعامل بالدولار على الصعيد الوطني كإجراء لمقاومة التضخم، سواء كان معلنًا أو غير معلن، من شأنه أن يزيد الطلب على الدولار لإتمام معاملات جديدة كانت تتم بالعملة الوطنية من قبل، وبالتالي يعمق من الاختلالات الخارجية التي تقف في الأصل وراء ارتفاع معدل التضخم.
اللامساواة في التعامل بالدولار
ومن شأن اتساع استخدام الدولار في المعاملات المحلية التي من المنطقي أن يظل التعامل فيها بالجنيه، من بينها قطاع البناء والتشييد، أن يؤدي إلى حرمان قطاعات أخرى من السكان من التعامل الاقتصادي برمته، لأنهم لا يملكون ما يكفيهم من الدولار.
المهندس نجيب هو ثاني أثرى المصريين في 2023 بعد أخيه ناصف ساويرس، وأحد أغنى خمسمائة شخص في العالم طبقًا لتقييم بلومبرج، كما أنه أحد أهم رجال الأعمال في مصر، وأبرز عضو في أكبر عائلات الأعمال في البلاد، وتشتمل أنشطته الاقتصادية المتداخلة مع أفراد آخرين من عائلته على عشرات القطاعات والصناعات في مصر وغيرها.
كان من المفترض أن تسهم تلك العوامل مجتمعة، إلى جانب تعليمه الراقي وخبرته العملية العريضة، في تطوير رؤية كلية للاقتصاد، لا تكون منحصرة في قطاع بعينه أو شركة بحدها.
إنَّ من يتابع زملاء المهندس نجيب في قائمة أثرى أثرياء العالم الخمسمائة مثل بيل جيتس أو جيف بيزوس أو إيلون ماسك، يجد أن حديثهم عن الاقتصاد عادة ما يكون كليًا بشكل يجعله قريبًا مما تسمعه من رجال الدولة والسياسة، أو رؤساء المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد.
يعكس ذلك رؤيتهم لأنفسهم من ناحية كأشخاص شديدي التأثير على العالم، ليس اقتصاديًا وماليًا فحسب بل سياسيًا كذلك، كما يعكس حجم أنشطتهم الاقتصادية وطبيعتها، التي بحكم تركزها وضخامتها باتت متجاوزة لقطاع أو صناعة محددة لصالح تصورات كلية.
إنَّ هذا هو ما يفصل، أو على الأقل ينبغي أن يفصل، بين رؤية أناس كهؤلاء وكلامهم، وما قد يصدر عن رؤساء شُعب الغرف التجارية والصناعية، أو المتحدث باسم رابطة مستثمري إحدى المناطق الصناعية في شرق الدلتا، أو أحد المقاولين الأهليين الذين يواجهون صعوبات في تسليم الدفعة المتعاقد عليها من الوحدات.