دأب المسؤولون الحكوميون في مصر منذ سنوات طويلة على الحديث عن تعميق الصناعة الوطنية، كمَخرجٍ طويلِ الأجل لأزمات التمويل الخارجي، التي بات يعاني منها الاقتصاد المصري بصورة متكررة في العقد الأخير.
ففي مارس/آذار 2017 على سبيل المثال، في أعقاب توقيع اتفاق مصر مع صندوق النقد الدولي، أكد بيان صادر عن مجلس الوزراء المصري على "تكثيف الجهود المبذولة من جانب الحكومة لتوفير مناخ جاذب للاستثمارات، سواء المحلية أو الأجنبية (..) بما يسهم فى تقليل الواردات وتعميق الصناعة المحلية وزيادة إنتاج السلع الوسيطة للتكيف مع المتغيرات العالمية".
وفي 2021، شكلت الحكومة المصرية مجلسًا للإحلال محل الواردات وتعميق المنتج المحلي، ولم يكن هذا يعني بالضرورة العزوف عن تشجيع ودعم الاتجاه التصديري، إذ أعلنت الحكومة عن خطتها لزيادة الصادرات إلى 100 مليار دولار في 2023.
تكشف هذه التصريحات والبيانات والخطط والمجالس والمؤسسات أنَّ صانعي القرار الاقتصادي في مصر واعون بالجذور الحقيقية لأزمات التمويل الخارجية، والمتمثلة في فاتورة واردات بالغة الضخامة مقارنة بالصادرات. كما تكشف أنهم واعون بأنَّ علاج المسألة لن يكون إلا بتعميق الصناعة، بما يكفل تخفيضًا في المنتجات والمدخلات المستوردة من جهة، وزيادة في الصادرات المُصَّنعة من جهة أخرى.
هذا الطرح صحيح بلا شك على المستوى النظري. ولكن منذ إطلاق هذه التصريحات، جرت تحت الجسور كثير من المياه، فماذا حدث فعلًا على أرض الواقع؟
مؤشرات الصناعة منذ الاتفاق الأول
رصد وحساب تعميق الصناعة ليس مسألة سهلة، لأنَّ الصناعة الحديثة تتفرع إلى عشرات، بل مئات، من القطاعات التي تختلف فنيًا عن بعضها البعض. ولكن على المستوى الكلي، يمكن أن نُقدِّر فاعلية التدخلات والسياسات والتصريحات الحكومية المتتابعة منذ 2017، من خلال النظر إلى نصيب الصادرات المُصنَّعة من إجمالي الصادرات، ومتابعة نصيب السلع الوسيطة والرأسمالية من إجمالي الواردات، وإن كانت هذه مؤشرات غاية في العمومية عن مسار تعميق الصناعة، وتأثيره المباشر على اختلالات مصر الخارجية.
بالنسبة لإجمالي الصادرات، تضاعفت قيمتها المطلقة تقريبًا بين 2016 و2023 لتقفز من 21.7 إلى 39.6 مليار دولار. ولكنَّ هذه القفزة لا تعني بالضرورة التوجه نحو التصنيع، إذ تفيد بيانات البنك المركزي المصري بلوغ الصادرات البترولية، بما في ذلك الغاز الطبيعي، ما متوسطه 35.36% من الصادرات الإجمالية في الفترة 2016-2023، وهو ما يجعل لهذا المكون دورًا رئيسيًّا في زيادة القيمة الإجمالية للصادرات في أوقات ارتفاع الأسعار العالمية.
وبعيدًا عن العوامل المؤقتة أو الآثار التضخمية ودورها في زيادة قيمة الصادرات، فالملاحظ أنَّ هيكل الصادرات المصري ظلَّ على حاله منذ اتفاق الصندوق في 2016، ما يعكس خواء كل التصريحات السابقة عن تعميق الصناعة.
ما إن تخف حدة الأزمة حتى تعود الدولة إلى أولوياتها المعتادة التي لا يظهر فيها تعميق الصناعة أعلى القائمة
وخلال الفترة نفسها، ظل متوسط وزن الصادرات الصناعية من السلع الوسيطة من إجمالي الصادرات المصرية عند 16.44%، وكذلك متوسط السلع نهائية الصنع عند 38.94%، وإن كانت الأخيرة راوحت مكانها بعض الشيء بالهبوط الطفيف من 41.55% في 2016 إلى 40% في 2023.
إذن لم تقفز الصادرات الصناعية لتعيد هيكلة ما ننتجه ونصدره إلى العالم، وهذا على الرغم من الانخفاض الشديد الذي طال الجنيه المصري في نفس الفترة مقابل العملات الأخرى، على النحو الذي كان من المفترض أن يساعد على زيادة تنافسية الصادرات المصرية.
ماذا عن الحد من الواردات؟
كان من المفترض أيضًا أن يؤدي انخفاض الجنيه في مواجهة الدولار إلى توفير نوع من الحماية الفعلية للمنتجات الصناعية المحلية، بسبب رفع تكلفة الواردات من جهة، وتحفيز المنتجين المحليين على صناعة مدخلات الإنتاج بديلًا عن المستوردة مرتفعة السعر من جهة أخرى. ولكنَّ أيًا من هذين السيناريوهين لم يحدث على نطاق واسع.
لنا أن نلاحظ من واقع بيانات المركزي المصري أنَّ السلع الوسيطة، وهي مدخلات إنتاج في المقام الأول وتكون عادةً نصف مصنعة، استمرت في احتلال الوزن الأكبر من الواردات الإجمالي بمتوسط 31.32% في الفترة من 2016 إلى 2023، مقارنةً بمتوسط 17.56% للواردات البترولية و10.33% لواردات المواد الخام الأخرى و13.65% للسلع الرأسمالية و23% للسلع الاستهلاكية.
الغرض الأساسي من تعميق الصناعة أن نُخفِّف كثافة اعتمادنا على الواردات، خاصة وأنَّ القاعدة التصديرية متواضعة، ما يعني أنَّ أغلب ما نستورده يكون لإنتاج منتجات تُستهلك محليًا.
ويعكس الوزن الصغير للمواد الخام من إجمالي الواردات غياب العمق في القطاع الصناعي، فهو يعبِّر عن ضعف القدرة على استيراد المواد الخام وتصنيعها محليًا، إما لإعادة التصدير أو للاستهلاك المحلي.
ولا أمدُّ القول هنا إلى السلع الرأسمالية التي تستدعي الكثير من التقدم التكنولوجي والعلمي من أجل إنتاجها، ما يجعل من غير الواقعي ضمها لخطط تعميق الصناعة في الوقت الراهن.
ولا يبدو أنَّ الصورة تغيرت مطلقًا في الفترة التالية على اتفاق الصندوق في 2016، على الرغم من التغيرات الكبرى التي طالت مؤشرات الاقتصاد الكلي، وعلى رأسها قيمة الجنيه المصري.
كيف يمكن إذن تفسير هذا الواقع المتواضع مع الحضور الكثيف للخطط والتصريحات والبرامج والمؤسسات الحكومية التي تعمل على تعميق الصناعة؟
الإجابة المباشرة تكمن في توقيت الحديث عن تعميق الصناعة، ذلك أنَّ شأنًا استراتيجيًا طويل المدى مثل تعميق الصناعة، عادةً ما يحضر في سياق الحديث عن أزمات التمويل الخارجي عندما يعاني الاقتصاد شحًا في الدولار ويتعذر الاستيراد وترتفع الأسعار. حينها عادة ما يتجه الخطاب الحكومي إلى استحضار موضوع تعميق الصناعة، ولكن ما إن تخف حدة الأزمة من خلال اتفاق جديد من صندوق النقد أو بصفقة استثمارية جديدة في السياحة أو العقار، حتى تعود الدولة إلى أولوياتها المعتادة التي لا يظهر فيها تعميق الصناعة أعلى القائمة.
تعميق الصناعة في مصر مسألة معقدة تستلزم وقتًا، ولذلك فهي تتعلق بتغيرات طويلة الأجل، إلا أننا ننسى، أو نتناسى، أنَّ الأجل الطويل مكون من آجال متوسطة وقصيرة، وأنه ليس شيئًا ننتظر مواجهته في نقطة زمنية ما في المستقبل البعيد، بل هو نقطة نعمل من أجل الوصول إليها.
مرور سبع سنوات منذ توقيع اتفاق صندوق النقد في آخر 2016 دون أن تتغير أي مؤشرات عن تعميق الصناعة في الصادرات أو الواردات، دليل على غياب استراتيجية مطبقة على الأرض يمكن التعويل عليها لتجنب أزمات تمويل باتت تميل للتكرار بمبالغ مالية أكبر عبر فترات زمنية أضيق.