حساب دونالد ترامب على فيسبوك
دونالد ترامب في مؤتمر انتخابي في فيلادلفيا، 21 يونيو 2024

هل ينجح ترامب في إحياء الصناعة والانتصار لـ"العامل الأبيض"؟

منشور الأحد 23 مارس 2025

لا يُخفي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رغبته في إعادة إحياء قطاع الصناعة الأمريكي مع تركيز على الصناعات الثقيلة مثل الحديد والصلب والألومنيوم والفحم والسيارات. هذا التوجه في استراتيجية ترامب الاقتصادية يرتبط بأجندته ذات النزعة القومية لجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى، وكذلك بخدمة قواعده الانتخابية من أبناء الطبقة العاملة، لا سيما من البيض، الذين تضرروا بشكل كبير من تراجع القاعدة الصناعية في الولايات المتحدة طيلة العقود الأربعة الماضية.

ويركز ترامب في ذلك على مسألتين رئيسيتين؛ الأولى هي تراجع الوزن النسبي لقطاع الصناعات التحويلية في الاقتصاد الأمريكي، فعلى سبيل المثال نجد أن نصيب القيمة المضافة من هذا القطاع في الناتج المحلي الإجمالي تراجع على نحو منتظم من 16% في 1997 (وهي نسبة منخفضة أصلًا عن سبعينيات القرن الماضي) إلى 11% في 2021. وبالنظر إلى التكوين القطاعي للاقتصاد الأمريكي في 2023، يتضح أن نصيب الصناعات التحويلية لم يتجاوز 11%، بينما بلغ نصيب الخدمات المهنية وخدمات الشركات والخدمات المالية والتسويق العقاري مجتمعة نحو 43%.

أما النقطة الثانية، فهي أن التراجع في الوزن النسبي للصناعات انعكس سلبًا على تراجع أكبر في العمالة الصناعية. ففي 1970 قُدِّر العاملون في الصناعة بنحو 31% من إجمالي العاملين في القطاع الخاص الأمريكي، لكن بحلول 2010 انخفضت تلك النسبة إلى 10.7% وواصلت في انخفاضها إلى 9.7% في 2023.

هذا الانخفاض ناجمٌ من ناحية عن التغيرات التكنولوجية التي طالت الصناعات التحويلية عامة، وقللت من الاعتماد على العمالة البشرية، خاصة مع تقدم الأتمتة والروبوتات. ومن ناحية أخرى نتيجة لاندماج العمالة الصناعية الماهرة ونصف الماهرة والرخيصة في شرق آسيا، خاصة الصين، في نظام التجارة العالمي منذ الثمانينيات، ما ساهم في نقل نسبة مهمة من الإنتاج الصناعي  إلى آسيا، وتركز الخدمات في المراكز الرأسمالية الأقدم مثل الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.

التأثيرات الاجتماعية لتراجع الصناعة

على الرغم من أن الاقتصاد الأمريكي ككل استمر في توليد معدلات نمو وتشغيل مرتفعة مقارنة بغيره من الدول مرتفعة الدخل، مثل دول الاتحاد الأوروبي أو اليابان، فإن انتقال مركز الثقل إلى الخدمات كانت له آثار توزيعية بالغة السوء على القاعدة العريضة من الأمريكيين، وهو ما انعكس على التدهور الكبير في توزيع الدخل، حيث تراجع نصيب النصف الأفقر من الأمريكيين من إجمالي الدخل من 20% في 1978 إلى نحو 12% في 2014.

رأينا كيف هبطَ ظهورُ التطبيق الصيني DeepSeek في نهاية يناير الماضي بقيمة أسهم شركة NVIDIA

وينسجم هذا مع تقرير للفيدرالي الأمريكي في 2024، الذي أظهر أن نحو 40% من العائلات الأمريكية لا تستطيع أن تُدبّر على الفور 400 دولار، سواء نقدًا أو بوسائل أخرى، في أوقات الطوارئ. ونحن هنا نتحدث عن بلد يبلغ نصيب الفرد من الدخل فيه 82 ألف دولار سنويًا!

كانت تلك التغيرات الجسيمة سببًا رئيسيًا في الإتيان بدونالد ترامب إلى سدة الحكم، ومن ثم وعوده المتكررة إلى قواعده الانتخابية بتوفير الحماية والحوافز لإعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة.

تكلفة كبيرة لأحلام ترامب 

هل ينجح ترامب في إعادة الصناعة إلى الولايات المتحدة؟

الإجابة الراجحة هي لا. والأسباب كثيرة يعود غالبها إلى توازنات القوة الحاكمة للعلاقة بين الحكومة الفيدرالية التي يرأسها ترامب وأصحاب رأس المال الكبير في تلك القطاعات خدمية الطابع التي كُتبت لها الهيمنة على الاقتصاد الأمريكي في العقود الماضية.

يسعى ترامب إلى استخدام سلاح الحماية الجمركية لجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية نحو الصناعات التحويلية، وتوفير حوافز أخرى، مثل الطلب الحكومي الأمريكي، لجذب رؤوس الأموال لتلك القطاعات ذات الأولوية، ومن ثم توليد فرص العمل المطلوبة هناك.

لكن أولى مشكلات تطبيق هذا التصور تكمن في أن علاقات الحكومة برأس المال في الولايات المتحدة لم تُنتج قنوات مؤسسية تسمح بمثل هذا التنسيق، خلافًا لنماذج رأسمالية أخرى مثل الصين أو من قبل كوريا الجنوبية وتايوان واليابان، ولا حتى نماذج أوروبية مثل السويد وفرنسا وألمانيا، حيث لعبت الديمقراطية الاجتماعية دورًا في خلق قنوات لتنسيق قرارات الاستثمار والإنتاج والتشغيل بين الحكومات وممثلي الشركات والنقابات العمالية.

أيٌّ من هذه القنوات ليس موجودًا في الولايات المتحدة، التي في المقابل باتت تعتمد على قوى السوق، خاصة سوق الأوراق المالية، كقناة أساسية لاتخاذ قرارات الاستثمار، وتقييم عوائدها، فيما يُسمى برأسمالية أصحاب الأسهم shareholders’ capitalism، وهو نموذج شديد الاضطراب بحكم التعريف لأنه يقوم على انتظار العوائد على الاستثمار في المدى القصير بل والقصير جدًا. ورأينا على سبيل المثال كيف هبطَ ظهورُ التطبيق الصيني DeepSeek في نهاية يناير/كانون الثاني الماضي بقيمة أسهم شركة NVIDIA العملاقة، لتخسر نحو 600 مليار دولار من قيمتها السوقية في يومين فحسب!

وعلى الشاكلة فقدت Tesla نحو 800 مليار دولار من قيمتها السوقية بين ديسمبر/كانون الأول 2024 ومارس/آذار الحالي، وذلك غالبًا يرتبط بمسار إيلون ماسك السياسي.

تراجعت أسواق المال العالمية، والأمريكية في القلب منها، على وقع مخاوف من ركود اقتصادي تتسبب به سياسات ترامب التجارية، وهو ما ينقلنا لتوازنات القوة في الاقتصاد السياسي الأمريكي.

كما أن مصالح رؤوس الأموال الأمريكية الكبرى ترتبط باستمرار ازدهار شركات التقنية المرتفعة أو صادرات الخدمات ذات المكون المهاري الكثيف، بما في ذلك الخدمات المالية، وهي نماذج الأعمال التي يسعى ترامب اليوم إلى الإتيان بعكسها أو بإيقافها.

علينا أن نتذكر أن قدرة الكثير من تلك الشركات، ومالكيها في ضوء التركز المبالغ فيه للثروات في أيد أشخاص بعينهم، على مراكمة تلك الثروات الطائلة، ارتبطت قلبًا وقالبًا بخروج الصناعات الثقيلة من الولايات المتحدة، وتوطنها في آسيا، ولا يبدو أن الحكومة الفيدرالية الأمريكية تملك ما يكفي من أدوات أو موارد لإعادة توجيه رؤوس الأموال نحو الاستثمار في التصنيع، لا داخل الولايات المتحدة ولا خارجها.

الأهم أن ترامب في نهاية المطاف خاضعٌ للدورات الانتخابية الأمريكية، وهناك تكلفة اقتصادية مرتفعة لإجراءاته ستؤثر على نظرة الناخب الأمريكي له في المدى المتوسط، فقد انعكست تلك الإجراءات بالفعل على معدلات التضخم التي عاودت الارتفاع مرة أخرى على وقع ارتفاع الجمارك في مجتمع ينفق 34% من أفراده كل دخولهم تقريبًا على الأساسيات، ويعتبر 59% منهم أنهم لا يعيشون حياةً مريحةً. فهل يصوت هؤلاء للحزب الجمهوري مرة أخرى في التجديد النصفي أو في الانتخابات الرئاسية المقبلة؟