
نظام التجارة العالمي ينهار فماذا نحن فاعلون؟
لم يمر أسبوعان على دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، حتى اشتعلت حربٌ تجاريةٌ بين الولايات المتحدة وشركائها الأساسيين: كندا والمكسيك والصين، مع تهديدات أمريكية متزايدة بفرض رسوم جمركية على الاتحاد الأوروبي كذلك.
وفيما أجَّل ترامب سريان الجمارك على كندا والمكسيك لمدة شهر، فإن التعريفات الأعلى سرت في مواجهة الصين، التي ردت بدورها برفع الجمارك على عدد كبير من السلع الأمريكية الواردة إليها.
ماذا يعني هذا للاقتصاد العالمي؟ وما العواقب المحتملة على الاقتصادات الواقعة على هامش الاقتصاد العالمي مثل مصر ومعها غالب دول الجنوب العالمي؟
أسوأ من كورونا
يمكن التمييز بين نوعين من التبعات للتغيرات الكبيرة والحادة في السياسة التجارية لأكبر اقتصاد في العالم. الأول هو الأثر الاقتصادي المباشر وغير المباشر جراء فرض تعريفات جمركية مرتفعة على تدفقات السلع بين الاقتصادات الكبرى، والذي سيؤدي في الغالب إلى زيادة معدلات التضخم في العالم المتقدم، مع احتمال انتقال هذه الموجة التضخمية إلى شركائهم التجاريين الأصغر حجمًا.
وفي حال اشتعلت حرب تجارية كاملة بين هؤلاء الشركاء، بردهم على الولايات المتحدة عن طريق فرض رسوم جمركية هم الآخرون (وهو ما هددت به بالفعل كندا والمكسيك) فمن المحتمل أن يتغير تنظيم إنتاج وتوزيع السلع عالميًا، بحيث تتفكك سلاسل القيمة التي يتم من خلالها إنتاج نحو 70% من السلع والخدمات على المستوى العالمي ويُعاد تركيبها على نظام جديد.
سيساهم تفكيك سلاسل القيمة الحالية في رفع تكاليف الإنتاج
سلاسل القيمة هي شبكات واسعة للشركات تضم موردين ومنتجين وموزعين ينتشرون في بلدان العالم، خاصة الولايات المتحدة وأوروبا وشرق وجنوب شرق آسيا، وينسقون مع بعضهم بعضًا إنتاج السلع والخدمات، من خلال أدوات عدة تضم عقودًا واتفاقاتٍ، علاوة بالطبع على الأسعار.
إن العامل الأساسي لنجاح "سلاسل القيمة" هو حرية التجارة، إذ أن نشأة هذه السلاسل منذ ثمانينيات القرن الماضي يهدف بشكل رئيسي إلى زيادة كفاءة الإنتاج والتوزيع من خلال السماح لرأس المال بالانتقال من مكان لآخر بحرية، بحثًا عن أفضل الشروط للإنتاج سواء من حيث السعر أو الجودة أو غيرها من المميزات.
لكن في حال عودة الحواجز الجمركية بقوة بين الاقتصادات الرئيسية في العالم، فإن تكلفة التجارة ككل سترتفع بلا شك، وسيُعاد رسم شبكات وسلاسل القيمة والتوريد بطريقة تهدف لتجنب الأسواق ذات الرسوم المرتفعة، وبالطبع فإن مثل هذه العملية لن تتم بهدوء ولا بسلاسة.
سيساهم تفكيك سلاسل القيمة الحالية في رفع تكاليف الإنتاج على أصحاب رأس المال والمنتجين والموردين الذين سيفقدون أسواقًا، ومن ثَمَّ سيرتفع السعر النهائي للسلعة على المستهلكين، وسيمر بعض الوقت، وربما الكثير منه، حتى يستقر المنتجون على سلاسل قيمة بديلة تجنبهم الحرب التجارية.
ولعل العالم جرَّب من قبل الآثار الاقتصادية لتعطل سلاسل القيمة والتوريد في خضم وأعقاب وباء كورونا الذي تسبب في إبطاء معدلات التعافي في الكثير من اقتصادات العالم، نظرًا للاعتماد الكبير على مدخلات إنتاجٍ مستوردة من الخارج.
لا تحدثني عن النافتا
أما الأثر الثاني للحرب التجارية فهو ليس اقتصاديًا بصورة مباشرة، وإن كانت له تداعيات اقتصادية كبيرة في المديين المتوسط والبعيد، ويتمثل في تآكل وربما تحطم آليات الحوكمة المنظمة لحركة التجارة العالمية التي نشأت في العقود الأربعة الماضية، وللمفارقة برعاية خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية، استنادًا لمبدأ حرية التجارة.
وربما تكون منظمة التجارة العالمية على رأس المؤسسات المهددة بالحرب التجارية، إذ تتحدى السياسات الأمريكية الجديدة أصل السياسات التي تدعو هذه المنظمة لتطبيقها، ما قادنا إلى مشهد مثير للسخرية، نرى فيه الصين تهدد بمقاضاة الولايات المتحدة أمام هذه المنظمة.
ولعله من المفيد أن نتذكر هنا تهديد ترامب في فترة رئاسته الأولى بالانسحاب من المنظمة برمتها، وإذا نفَّذ تهديداته في الفترة الحالية سيعني ذلك انهيار المؤسسة عمليًا، فكيف لنا أن نتخيل وجود منظمة تحمي حرية التجارة وأكبر مستورد وثاني أكبر مصدر في العالم، أي الولايات المتحدة، بات يلعب دورًا أساسيًا في تقييد التجارة؟
تتصارع الأفيال، فما الذي يعنيه هذا لبلدان الجنوب العالمي مثل مصر؟
وينسحب الأمر كذلك على ثاني إطارات حوكمة العلاقات التجارية الدولية؛ اتفاقات التجارة الحرة الثنائية والإقليمية. فالولايات المتحدة مرة أخرى كانت هي صاحبة السبق في إنشاء مثل تلك الأطر للتجارة الحرة بالتوازي مع عمل منظمة التجارة العالمية، وذلك من خلال اتفاقية منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية نافتا، والتي دخلت حيز النفاذ في 1994 لتضم الولايات المتحدة وكندا والمكسيك علامة فارقة على ذلك الطريق.
ولقد أتت النافتا التي عُدلت في فترة ترامب الأولى أكُلَها، إذ أصبحت كندا والمكسيك أكبر شريكين تجاريين للولايات المتحدة بإجمالي تجارة سلعية بنحو 1.5 تريليون دولار في 2022. فإذا بترامب يتوجه ضدهما بهذا الشكل، وفي خرق تام لالتزامات الولايات المتحدة بأن تُبقي التجارةَ حرةً في منطقةِ تجارةٍ حرةٍ.
لا شك أن هذه التغيرات ستحمل الكثير من التآكل في مصداقية الولايات المتحدة من جانب، وفي مبدأ التجارة الحرة من جانب آخر بما ينذر بالمزيد من الاضطراب، لأنه في الأغلب سيشجع المزيد من الفاعلين على التحلل من التزاماتهم في ذلك الصدد أو تعديلها من جانب واحد.
شمشون يهدم معبده فوق الجميع
تتصارع الأفيال فما الذي يعنيه هذا لبلدان الجنوب العالمي مثل مصر؟ التي لا تتمتع بحضور قوي لا في سلاسل الإنتاج والتوريد ولا في التجارة العالمية عامة في السلع أو في الخدمات.
قد يكون من المبكر القطع بحجم التأثير الاقتصادي، ولكنه في الغالب سيكون سلبيًا في المدى المباشر لأن فرض الجمارك والجمارك المضادة بين أكبر المصدرين والمستوردين في العالم سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار، خاصة المواد الأولية مثل الطاقة وربما المواد الغذائية. وقد عانت منطقة شمال إفريقيا بالفعل من صدمة ارتفاع أسعار المواد الأولية في أعقاب الحرب الروسية في أوكرانيا.
لكن في المدى المتوسط إلى البعيد، قد يحمل تفكك المنظومة الحاكمة للاقتصاد العالمي منذ التسعينيات، على وقع تراجع قدرة الولايات المتحدة على المنافسة، بعض الفرص للاقتصادات الهامشية خاصة في الدول ذات الوزن المتوسط اقتصاديًا وسكانيًا وسياسيًا مثل مصر، لأن تفكيك وإعادة تركيب سلاسل القيمة والتوريد قد يفتح الباب لدخول منتجين وموردين جدد من أسواق كانت مستبعدة من قبل من تلك السلاسل.
قد ينطبق هذا على إفريقيا، ومصر والمغرب وجنوب إفريقيا في المقدمة، وقد يكون هذا من باب الولايات المتحدة في سعيها لإيجاد بدائل عن الصين، أو من جانب الصين في سعيها لتقليل خسائرها على طريقة هدم شمشون الأمريكي معبده على رؤوس الجميع.
أما على مستوى الحوكمة، فمن الصعب أن تقف الاقتصادات الصغيرة والمتوسطة لتبكي على أطلال منظمة التجارة العالمية أو اتفاقات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، لأن تلك الترتيبات صيغت تحديدًا لخدمة أولئك في لحظة انتصارهم على الاتحاد السوفيتي.
لقد لعبت مؤسسات مثل منظمة التجارة العالمية، وكذلك الاتفاقات التجارية منذ التسعينيات، دورًا مزدوجًا، فهي ساعدت على تيسير التجارة من جهة، لكن من الناحية الأخرى قيدت قدرة الاقتصادات المتوسطة والصغيرة على تحسين شروط اشتراكها في التقسيم الدولي للعمل.
في حال إضعاف مؤسسات ما بعد الاتحاد السوفيتي، يفتح ذلك الباب للاقتصادات الصغيرة لإعادة التفاوض حول أسس التجارة والاستثمار العالميين، وربما كان هذا مدخلًا للعمل الجماعي لكتل ومجموعات من تلك الدول تفاوض لا فحسب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لكن كذلك الصين.
تحتاج هذه الاقتصادات الصغيرة بشدة لإعادة التفاوض على شروط التجارة، خاصة وأن الصين، في حال خروجها فائزة من تراجع دور الولايات المتحدة العالم، قد تتجه هذ الأخرى لفرض نظام عالمي يفيد اقتصادها على حساب من هم أصغر منها، ما لم يتكتل الصغار ويفرضوا مصالحهم على مائدة التفاوض.
إن العالم يتغير، سيجلب هذا مخاطر وفرص ومساحات واسعة من عدم اليقين، وأفضل من الترقب والانتظار لأي نتائج ستنجم عن ذلك أن تبدأ دول الجنوب في التكتل لبلورة مواقف مشتركة حول كيف سيكون العالم، وما موقعها منه في المستقبل.