دعوت في مقال سابق نشرته المنصة إلى شد الفيشة عما يُسمى بصناعة السيارات في مصر، باعتبارها نموذجًا مبهرًا في الفشل على مدار عقود طويلة. ولكن خلال الأسبوعين الفائتين، حدث تطور لافت تمثل في افتتاح كامل الوزير، وزير الصناعة والنقل ونائب رئيس الوزراء للتنمية الصناعية، ورئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم، مجمع مصانع عز العرب السويدي للاستثمار الصناعي لتصنيع سيارات بروتون الماليزية في مدينة السادس من أكتوبر.
الاهتمام الحكومي بالمشروع يأتي في سياق حديت متكرر للدولة عن تبنيها سياسةَ توطين هذه الصناعة، فهل يمثل نموذج عز العرب-السويدي تطورًا جديدًا في مسار إحياء هذا الملف؟
تاريخ طويل من سلاسل القيمة
ليست الشراكة في حد ذاتها بين مُصنِّعٍ مصريٍّ وشركة أجنبية بالشيء الجديد خاصة في قطاع السيارات، بل يمكن الزعم بأن هذه الممارسة طالما كانت معتادة، ويمكن ملاحظتها مثلًا في شراكة شركة النصر للسيارات في الستينيات مع فيات الإيطالية، من خلال فرع تابع لها في يوغوسلافيا آنذاك.
كان نمط التعاون العابر للحدود هذا تعبيرًا مبكرًا عن سلاسل القيمة العالمية، التي امتدت لا فحسب بين الشمال والجنوب العالمييَّن، بل بين الكتلتين الشرقية والغربية في سياق الحرب الباردة.
وبعد الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات استمرت ذات الممارسات، ولعل أبرزها كان الشركة العربية الأمريكية للسيارات المملوكة في غالبها (51%) للهيئة العربية للتصنيع في مقابل 49% لفيات-كرايسلر، التي بدأت في 1977 إنتاج سيارات الچيب ذات الدفع الرباعي للقوات المسلحة في مصر وعدد من دول الخليج قبل أن تنتقل إلى الإنتاج المدني في 1982.
ومع تمدد صناعة تجميع وتركيب وتسويق وبيع سيارات الركوب في مصر، لتشمل شركات من القطاع الخاص، كان النمط الغالب هو الشراكات مع شركات عالمية أوروبية أو أمريكية أو آسيوية، ومن ثَمَّ كانت الأسماء التي تربى عليها جيلنا الأربعيني مثل منصور شيفروليه ثم منصور أوبل، ناهيك عن ارتباط غبور أوتو بهيونداي وأباظة ببيجو وأبو الفتوح ببي إم دبليو وسامي سعد بمرسيدس وهلم جرا.
لكن هذه الشراكات المحلية، وتلك التي سبق بها القطاع العام، لم تنتج سوى سلاسل احتل فيها المصريون المواقع الدنيا في القيمة المضافة، واقتصر فيها المكون المحلي على أقل المكونات شأنًا في السيارات سواء من حيث التكنولوجيا أو المهارات.
وانتهى الأمر بما يُسمى زورًا وبهتانًا بـ"صناعة السيارات" إلى عدم الإضافة كثيرًا للاقتصاد، لا من حيث الإنتاجية ولا تحسين الوضع في سلاسل القيمة ولا المشاركة في التصدير. إذ كانت الشراكات كلها موجهة للسوق المحلية، بل وحتى هذه السوق لم تشهد الاتساع المرجو، فقد كان انكماش الطلب على سيارات الركوب مرتبطًا، غالبًا، بالانهيارات المتتالية في قيمة الجنيه المصري.
هل من جديد مع السويدي؟
فلنرجع إلى بداية المقال بالحديث عن افتتاح مجمع مصانع عز العرب السويدي للسيارات، وهي شركة حديثة أتى مالكاها من مجالين مختلفين، أحدهما (عز العرب) من تجارة السيارات (وليس تصنيعها أو تركيبها)، وبينما يعمل الثاني (السويدي) في مجال الكابلات منذ عقود طويلة.
ينطوي الإعلان عن هذا الكيان على بعض ملامح تأسيس صناعة سيارات تختلف عن الشراكات السابقة، وهو ربما يؤشر، أو يؤمَل أن يؤشر، لتغيّر في استراتيجية تصنيع سيارات الركوب في مصر من عدة زوايا.
بإمكاننا رصد عدد من المؤشرات الإيجابية التي تجعلنا نرجح أن الرهان هذه المرة قد يكون في محله
أولاً: الحجم الكبير للاستثمار في مدى زمني قصير، فنحن أمام مجموعة صناعية طموحة، أي السويدي، نجحت في مد تنافسيتها إلى مجال بناء المحطات الكهربائية في بلدان الجوار بما في ذلك السعودية وقطر والعراق. وأعلنت في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 عن نيتها استثمار 15 مليون دولار لبناء قدرات إنتاجية بنحو 50 ألف سيارة سنويًا. وهو ما يبدو أنه يتحقق مع افتتاح مجمع المصانع بعدها بسنة واحدة فحسب.
وتُقدّر استثمارات مجمع مصانع عز العرب السويدي للسيارات، المقام على مساحة 70 ألف متر مربع، بنحو 50 مليون دولار، وتبلغ طاقة المجمع الإنتاجية الحالية 40 ألف سيارة سنويًا، ومن المقرر أن يبدأ الإنتاج الشهر الحالي بسيارات بروتون ساجا.
وتبعًا لبيانات الشركة فإن المرحلة الأولى ستتبعها ثانية خلال 15 شهرًا تدور حول تشغيل مصنع الدهانات، ثم مرحلة ثالثة تشمل توسعة المصنع الحالي للوصول بالطاقة الإنتاجية إلى 80 ألف سيارة سنويًا بإضافة ثلاثة موديلات جديدة.
ويستهدف المشروع الوصول بنسبة المكون المحلي في السيارات المنتجة إلى 48%، وهي نسبة مرتفعة مقارنة بمتوسط النسبة المُقدَّرة بين المصنعين المصريين التي تبلغ 40%، وبالنسبة التي تستهدفها الحكومة وتصل إلى 45%، واعتبرها البعض نسبة طموحة مقارنة بالواقع.
ثانيًا: يأتي ضخ تلك الاستثمارات في سياق شراكة معلنة مع الحكومة المصرية في إطار استراتيجية تعميق الصناعة الوطنية، وهو ما انعكس في الحضور الرسمي الكثيف في مناسبات حضرها رئيس الوزراء ونائبه وزير الصناعة، ويبدو أن هذا البُعد كان حاضرًا في انعقاد الشراكة مع بروتون الماليزية، ودعوة رئيس الوزراء الماليزي للمشاركة في افتتاح مجمع المصانع بنفسه.
ولا يخفى بالطبع أن السويدي إليكتريك تحولت إلى شريك ذي طبيعة خاصة للدولة في مشروعات البنية الأساسية داخل مصر وخارجها، مثل توليها بجانب المقاولون العرب إنشاء وتشغيل سد جوليوس نيريري في تنزانيا و محطة شمسية في جوبا بجنوب السودان.
ويُفهم من الأمثلة السابقة أن السويدي أصبحت إحدى قنوات التأثير المصرية في الإقليم العربي والإفريقي من خلال البناء على نجاح الشركة استثماريًا هناك في السنوات الماضية، ومن هنا فإن انتقال السويدي إليكتريك إلى مجال صناعة السيارات، بما في ذلك السيارات الكهربائية، بالشراكة مع بروتون، وهي إحدى أهم شركات السيارات الماليزية، يحمل الكثير من الدلالات على المستويين الاقتصادي والسياسي.
ثالثًا: استنادًا إلى النقطة السابقة، فإن هذا الاستثمار الضخم يأتي طبقًا لمخطط لنقل التكنولوجيا وتعميق الصناعة في مراحل محددة، برعاية من الدولة، لا فحسب لاستهداف السوق المحلية بالشروع في إنتاج السيارات الكهربائية في المرحلة الثانية من المشروع المشترك مع ماليزيا، وإنما بالوصول بنسبة الصادرات إلى 10% في السنة الأولى من الإنتاج طبقًا لإعلان الوزير (لاحظ قدر التداخل بين الدولة والشركة في وضع الأهداف).
قد يكون من المبكر الحكم عمَّا إذا ستحقق الشراكة بين عز العرب السويدي وبروتون أهدافها الطموحة، إلا أن بإمكاننا رصد عدد من المؤشرات الإيجابية سواء فيما يتعلق بالتنسيق بين الحكومة على أعلى مستوى، وإحدى الشركات الخاصة العملاقة مثل السويدي، أو فيما يتعلق بسجل السويدي إليكتريك في العمل في الأسواق الخارجية والقدرة على المنافسة، بما يعني أن الرهان عليها لتوطين صناعة السيارات في مصر أو قل احتلال موضع قابل للتحسين والترقي في هذا المجال، قد يكون في محله في نهاية المطاف.