التف الصحفيون حول سيارة صينية من طراز حديث تعمل بالكهرباء في مؤتمر إطلاق السيارة الكهربائية نصر E70 الشهر الماضي، وإلى جوارهم وزير قطاع الأعمال يتحدث عن احتمال أن تبدأ شركة النصر للسيارات بتصنيع تلك السيارة بالشراكة مع الصين وتوقيع اتفاقيات التصنيع خلال شهرين ليتم إطلاقها رسميًا منتصف العام المقبل.
تمثل تلك واحدة من العديد من المحاولات لإحياء صناعة السيارات الحكومية، التي بدأت بحلم السيارة المصرية الكاملة في الستينات، وانتهت بأزمات مديونية متوالية أدت لتراجع الدولة وحلول القطاع الخاص في هذه الصناعة.
اختار الوزير أن يعلن عن هذه المحاولة الجديدة في منطقة الشيخ زايد، على بعد عشرات الكيلومترات من مقر الشركة في وادي حوف بحلوان، بينما لا تزال الشركة مغطاة بغبار السنوات الماضية، تستقر بماكيناتها العتيقة فوق مساحات شاسعة من الأفدنة.
أمام شركة النصر العديد من التحديات، أهمها خروج الكفاءات العاملة بها على مدار العقود الماضية وحاجتها لبناء قاعدة جديدة من العمالة في هذا التخصص. المنصة ترصد أحوال الشركة قبل أشهر من التطوير الموعود وأهم التحديات التي تنتظرها.
البحث عن عمالة جديدة
ربما تجمعك المصادفة بالسيارة الصينية E70 التي تخطط وزارة قطاع الأعمال لتوطين صناعتها في مصر عبر شركة النصر، فبحسب ما أعلنته الوزارة تم استيراد مجموعة محدودة من هذا الطراز لتجوب الشوارع المصرية ضمن خطة لاختبار الكفاءة، وسيتم تشغيل السيارات ضمن خدمة النقل التشاركي أوبر.
وبينما تجري تلك الاختبارات، بادرت شركة النصر بالإعلان عن بعض الوظائف الشاغرة. يبدو ذلك حدثًا فارقًا في نظر العمالة القديمة بالشركة، حيث تم إغلاق باب التعيينات منذ وقت طويل وكانت الأعداد تنكمش على مدار العقود الماضية.
خلال فترات ازدهارها، ما بين الستينيات والثمانينيات، تزايد عدد العاملين وكان يقدر بعدة آلاف، ثم اتجه العدد للانخفاض مع فتح باب المعاش المبكر، حتى وصل إلى نحو 80 عاملًا فقط.
المشكلة، أن حتى هذا العدد المحدود، نسبة كبيرة منه لا تمثل خبرات فنية مهمة تستطيع الشركة أن تستفيد منها في خطة الإحياء.
يقول سيد*، أحد العاملين بالشركة "العديد من المتبقين مسؤولين أمن ومخازن، وفنيين الصيانة للكهرباء والمجاري والشؤون المالية والإدارية".
كما أن العمالة المتبقية هي من الأعمار المرتفعة، المرشحة للخروج على التقاعد في الأجل القريب "مع نهاية العام المقبل سيتبقى نحو نصف هذا العدد" كما يرجح سيد.
هذا العدد المحدود، الذي لا يتناسب مع المساحة الشاسعة للشركة، 480 ألف متر مربع، يعكس محاولات قديمة للدولة لتصفية هذا الكيان الضخم، بدأت منذ التسعينات في إطار موجة الخصخصة، التي ربما تندم عليها الحكومة في الوقت الراهن وهي تحاول بناء الشركة من جديد.
أين العمالة القديمة؟
حكاية تصفية العمالة القديمة استمعنا لتفاصيلها من سيد، وهو واحد ممن ثابروا على البقاء في الشركة حتى الوقت الراهن "التحقت بالعمل في النصر منذ 38 عامًا، تحديدًا في 1983، عرفتها عن طريق والدي وهو من جيل المؤسسين في الشركة، وبدأت عملية تصفية العمال بشكل واضح مع فتح الباب للمعاش المبكر في منتصف التسعينات، وقتها كان عدد العاملين 8500 عامل، كانت هذه بمثابة بداية غير معلنة للقرار الذي تم اتخاذه فيما بعد بتصفية الشركة في 2009".
وبحسب سيد فقد اعتمدت الدولة على زيادة قيمة المكافأة بشكل مستمر لإغراء العمالة تدريجيًا بالتقاعد "في البداية تراوحت التعويضات بين 18 ألف جنيه وحتى 35 ألف جنيه حسب الدرجة الوظيفية، ثم مع مرور السنوات أصبح التعويض 75 ألف جنيه ثم وصل إلى 105 آلاف جنيه وفي 2010 وصلت المكافأة 150 ألف جنيه".
سيد، والمجموعة النادرة التي تمسكت بالبقاء كانوا مدفوعين بالقلق على مستقبل أسرهم بعد الخروج المبكر "على مدى السنوات الأولى من تطبيق المعاش المبكر، وجدنا أن من حصلوا على تعويضات لم يتمكنوا من خلق حياة جيدة، من استطاع استغلال المكافأة في تأسيس مشروع يولد له دخل كانوا قليلين جدًا، أما النسبة الأكبر دبروا معايشهم من خلال العمل في مهن خارج الصناعة بأجر قليل، مثل وظيفة الأمن أو الخدمة في المستشفيات، وهناك من لم يتمكنوا من الحصول على تلك الفرص بسبب كبر السن".
في كل الأحوال، لن تستفيد خطة إحياء النصر من سيد وجيله، فالرجل لا يتبقى له سوى أشهر معدودة ويصل إلى سن المعاش الطبيعي.
أما محمد*، وبالرغم من أنه لا يزال بعيدًا عن سن المعاش، فهو لن يتمكن من المشاركة في إحياء النصر التي بنى خبراته بداخلها، لأنه التحق منذ وقت طويل بالعمل في الشركة الشقيقة لها، "الهندسية".
في عام 2000، تم فصل شركة النصر للسيارات، إلى جانب الكيان الذي يحمل الاسم الأصلي للشركة "النصر"، كانت تلك محاولة لإنقاذ الشركة من ديونها المتفاقمة، بحيث يتم تركيز الأنشطة الخاسرة في "النصر" وتخفيض إنتاجها وتصفية العمالة الباقية فيها، وتركيز الأنشطة الرابحة في "الهندسية".
دخل محمد إلى عالم "النصر" عن طريق والده الذي ينتمي لجيل المؤسسين "جئنا من الفيوم لحلوان في الستينات، وقتها كانت حلوان يغلب عليها طابع المزارع وجناين الفاكهة، خلال طفولتي كنتُ أذهب مع والدي للمصنع، وبعد إتمام الشهادة الإعدادية التحقت بمركز التدريب بالشركة، وهناك كونت خبرتي الأساسية في مجال صناعة السيارات".
تمتلك النصر مركزين للتدريب الفني، وهما بمثابة مدرسة لتخريج العمالة في صناعة السيارات تصل مدة الدراسة فيها لثلاث سنوات، وكان الهدف من إنشاء المدرسة توفير العمالة للشركة، لكن جيل محمد الذي تخرج في بداية الألفينات وجد باب التعيينات في النصر مغلقًا، لذا استقر به الحال بالعمل لاحقا في "الهندسية".
هل تبحث النصر عن أبنائها؟
مدحت نافع، الرئيس السابق للشركة القابضة للصناعات المعدنية، الشركة الأم التي تتبعها النصر، يرى أنه بالرغم من التحديات القائمة فإن توفير عمالة جديدة للنصر لا يعد أمرا مستحيلًا.
"صناعة السيارات تحتاج إلى خبرة في مجال الميكانيكا والآي تي، وهو نمط متوافر جدًا في مصر، تحديد الكوادر التي سيتم تعيينها يرتبط بنوع خطوط الإنتاج التي سيستقر الأمر على إنشائها"، يقول للمنصة.
ويرى نافع أنه من الممكن استعادة بعض من كوادر النصر ممن لا يزالون تحت سن التقاعد "الكثير ممن يعملون في مصانع تجميع السيارات الخاصة في الوقت الراهن هم من أبناء النصر، ونستطيع استعادتهم بعروض مالية، والاعتماد عليهم في تأسيس جيل ثاني من العاملين".
وبحسب مصادر في وزارة قطاع الأعمال، تم بالفعل تعيين دفعة جديدة من المهندسين في الشركة، مسؤوليتهم تفكيك السيارة الصينية المستوردة والتعرف على تقنياتها، وهي إحدى المراحل الأولى في عملية نقل هذه التكنولوجيا إلى مصر.
وعود كثيرة لا تتحقق
بالرغم من الضجة الإعلامية التي أثيرت حول السيارة الصينية E70، لكن النصر لم توقع حتى الآن اتفاقًا نهائيًا لتوطين صناعة تلك السيارة في مصر.
وبالرغم أن مفاوضات إحياء الشركة وصلت لمرحلة متقدمة هذه المرة، لكن أشباح فشل التجارب السابقة لاتزال تحوم حول هذا الكيان العريق.
أنشئت شركة النصر لصناعة السيارات في نهاية الخمسينات لتصنيع اللوري والأتوبيسات في مصر، وصدر قرار بتأميم الشركة في 1960 وفي نفس العام تم افتتاح خطوط التجميع، بعدها انطلقت الشركة في إنتاج الماركات الراسخة في ذاكرة المصريين "سيارات فيات الإيطالية ونصر شاهين"، بجانب الجرارات والمقطورات، ثم بدء نجمها في الأفول مع انخفاض الإنتاج واستيعاب السوق لأنواع من السيارات خلاف التي تصنع في الشركة، إضافة إلى تراكم المديونيات.
وبالرغم من البدء عمليًا في تصفية النصر منذ 2009، لم تصل أبدا لمرحلة غلق الأبواب، ظلت لافتة النصر بالعلامة التجارية الشهيرة قائمة فوق بوابة الشركة، ولم ينقطع ضجيج الماكينات بفضل بعض الأعمال المحدودة التي استطاعت إدارة الشركة الحفاظ عليها وسط منافسة شرسة مع القطاع الخاص.
من أبرز تلك الأعمال أنشطة خط دهانات البو "المقاوم للصدأ"، وكذلك بعض أعمال الإنتاج المحدودة التي تنفذها الشركة لجهات من القطاع الخاص والقطاع العام.
وخلال السنوات الماضية تكررت وعود المسؤولين بإمكانية إحياء النصر، خاصة بعد قرار وقف التصفية في 2016، لكن أيا منها لم يتحقق.
هل تنجح هذه المرة؟
بدأ التفكير في مشروع توطين صناعة السيارة الكهربائية داخل الجانب النابض في هذا الكيان القديم، الشركة "الهندسية" لصناعة السيارات.
بحسب مسؤول سابق في الشركة الهندسية، تحدثت معه المنصة، ناقشت الشركة هذا المقترح في 2018 مع الشركة الصينية، ضمن رؤية لنشر هذا النوع من السيارات في مصر وتشجيع الطبقة الوسطى على اقتنائها، لكن الخطة لم تكتمل.
ويفسر مدحت نافع عدم اكتمال الخطة بأن "الهندسية" أصبحت في الوقت الراهن متخصصة في صناعة الأتوبيسات، وبالتالي لم تصبح صناعة السيارة الصينية مناسبة لها.
في نفس الوقت، كانت هناك نقاشات داخل القابضة المعدنية بشأن إدماج الشركتين وتطويرهما معا.
"فلسفة الشركة القابضة كانت تعتمد على تطوير النصر والهندسية بشكل تكاملي للاستفادة من إمكانيات الشركتين معًا" كما يضيف نافع، لكن هذه الخطة لم تكتمل أيضًا.
لاحقًا، ظهر توجه جديد داخل الحكومة بشأن التركيز على تطوير النصر للسيارات بشكل منفرد، بحيث تعود الشركة لصناعة سيارات الركوب التقليدية، بجانب تصنيع الكهربائية بنسبة مكون محلي تصل إلى 70%.
في هذا السياق، اتجهت الشركة للتفاوض مع نيسان اليابانية في 2019، لإبرام شراكة، وكذلك أبرمت اتفاقًا مبدئيًا في 2020 مع شركة ماليزية لتصنيع سيارات ذات الاحتراق الداخلي، لكن لم تتم أي من المبادرتين.
لايوجد عامل واحد يمكن أن نفسر به فشل كل تلك المبادرات، وهناك الكثير من الغموض وعدم الشفافية حول أسباب التعثر، لكن من ضمن الأسباب المعروفة أن فشل مفاوضات نيسان كان يرجع إلى رغبة الشركة في تصدير المنتجات التي تقوم بتصنيعها في مصر، ووجدت الشركة اليابانية "النصر" غير مناسبة لهذه السياسة لابتعادها عن مواني التصدير.
بعد كل هذه المحاولات غير المكتملة، اتجه الأمر للتركيز على تطوير النصر بحيث تصبح متخصصة في السيارات الكهربائية. لكن حتى الآن لم تتم أي أعمال داخل مقر الشركة بحلوان تمهيدًا لهذا التطور الجديد.
"الموقع الحالي للشركة به مقومات جذب كثيرة للشريك الأجنبي، من حيث المساحات الشاسعة، بجانب إمكانية استغلال إمكانيات الشركة الهندسية التي تقع في جوار ملاصق لها، إضافة إلى أن مشروعات الطرق الحالية ستسهل الوصول من وإلى الشركة"، كما يقول نافع للمنصة، متطلعًا لأن تكتمل تجربة التطوير هذه المرة.
* اسم مستعار بناء على طلب المصدر.