باتت أزمة تغيّر المناخ وجبة أساسية نتجرعها يوميًا، مع تنامي التحذيرات من قرب هلاك البشريَّة، وبزوغ عالم لم نعهده من قبل ما لم ننتبه لسلامة كوكبنا، في ظل تفاقم معدلات الشح المائي واحترار الكوكب وسقوط الأمطار الحمضية وغيرها، مما جعل الكثيرون حول العالم يأملون في امتلاك بصيرة ثاقبة تطلعهم على مصير النظام البيئي.
من هذا المنطلق بدأ بعض كتَّاب الأدب في تسخير ما يملكونه من أدوات وخيال، لتقديم فهم أعمق لواقع التغيّر المناخي ومآله على البشريَّة، ما أفرز، خلال السنوات الأخيرة، نوعًا أدبيًا جديدًا انبثق عن أدب الخيال العلمي، تحت عنوان "الخيال المناخي"، لقى قبولًا وحفاوة كبيرة من جانب القراء.
هذا النوع الأدبي الجديد الذي صار معروفًا اختصارًا بـ Cli-Fi، ويعد فرعًا من أدب الخيال العلمي، هو ما اقترحه الصحفي دان بلوم في عام 2007، لتصنيف الأدب الذي يهتم أكثر بتوظيف عناصر النظام البيئي من أشجار ومحيطات وصحاري وغيره داخل البناء السردي للقصة، بغرض التنبيه لمخاطر التدهور المناخي وأضرار الفوضى الصناعية، مثل الانبعاثات الكربونية وهطول الأمطار الحمضية ونقص المحاصيل الزراعية.
وهو ما يعد وسيلة أدبية لدعم قضايا المناخ والبيئة والتنبيه بمخاطرها، مثل رواية "في العراء" للأسباني خيسوس كاراسكو، التي تتبنى قضية الشح المائي موضوعًا رئيسًا لحكايتها. ولا تستمد الرواية أهميتها فقط من موضوعها، أو لأنها واحدة من بين قائمة غير قصيرة لروايات ذلك النوع الأدبي الغريب على القارئ في مجتماعتنا، وإنما لأنها من قلائل ما تُرجم منه إلى العربية. حيث نقلها عن الإسبانية مؤخرًا المصري مارك جمال ضمن سلسلة مرايا الصادرة عن منشورات تكوين.
الدخول سريعًا في خضم الكارثة
تطرح الرواية، التي صدرت في لغتها الأصلية عام 2013، أي قبل عامين من انعقاد المؤتمر الاقتصادي في دافوس عام 2015، الذي نبه إلى علاقة اللا مساواة والفوضى الصناعية بتدهور مناخ الكوكب ومستقبل الأجيال التالية، سؤالًا مصيريًا عن ما قد تؤول إليه الأمور في حال فشلنا المناخي، عبر قصة طفل يترصد سبل النجاة، بعد هروب غامض من بلدته الصحراوية النائية، ليصارع الجوع والعطش تحت لهيب الشمس ويتلحف العراء في ظلام الليل.
يُستنتج من الأوقات العصيبة التي قضاها الصبي وحيدًا، أنه طفلًا بلغ سنّ التمييز، ويظهر ذلك جليًا في قدرته على التخفي والاسترشاد بالنجوم، كما لو كان بحارًا ماهرًا يجيد فنون الملاحة وسط الأمواج العاتية. يصفّه الراوي بأنه "كان قادرًا على تمييز درب التبانة، وكوكبة ذات الكرسي التي تشبه حرف الـW، وكوكبة الدبّ الأكبر. هكذا حدَّد موقع النجم القطبي، وإليه وجَّه خطواته".
يصادف الصبي أثناء تجوله شريدًا في السهل القاحل راع أغنام كهل، فيقرر الأخير مساعدته بمهارة وبلا تردد، وكأنه يتبع الحكمة الصينية "عند هبوب العاصفة، يتعرّف البحّارة الماهرون على بعضهم".
تتوالى الأحداث، التي تدور في زمان ومكان غير محددين، لتلمح بوقوع كارثة مناخية غامضة، جعلت تلك البلدة المجهولة منكوبة بالقحط والشح المائي، فيستغني كاراسكو، الذي لا يعطِ أهمية للغرق في التفاصيل، عن أسماء الشخصيات والأماكن داخل القصة، على نحو يعمم القضية ولا يحصرها داخل موقع جغرافي محدد، بما يمكن القارئ من صبّ كامل تركيزه على الآثار التخريبية للكارثة المناخية وقابلية وقوعها في أي مكان بالعالم، خاصة وأن الكاتب يصور القصة في إطار واقعي بعيدًا عن الفانتازيا.
وعليه تقفز الأحداث سريعًا إلى اللحظة التالية لوقوع الكارثة المناخية، حتى ولو كانت مبهمة الأبعاد وغامضة التفاصيل. وهو ما يكثر استخدامه في الروايات المكتوبة وفقًا لنمط أدب ما بعد المحرقة Post-Apocalyptic Fiction، الذي يولي اهتمامًا بتقفي أثر الناجين، سواء من حرائق غابات أو فيضانات جارفة أو انبعاثات كربونية أو أوبئة مجهولة أو حروب نووية، أو حتى فانتازيا عن مخاطر متخيلة. مثل هجوم الزومبي في "الحرب العالمية زد" للكاتب الأمريكي ماكس بروكس، أو أي كارثة تدميرية لا يمكن تداركها، مثل ما ألفناه في "سيناريو نهاية العالم" التي دأبت هوليود على تقديمه في أكثر من عمل.
أزمة العالم الشائخ ومصير العالم الطفل
يمكن قراءة الرواية على عدة مستويات؛ فعند النظر إلى الإطار العام للقصة، سنجدها تستدعي حضور رواية الشيخ والبحر للكاتب إرنست همنغواي، في توظيف ثيمة رفقة الدرب بين "الكهل والصبي"، والصراع القائم بين البشر وقوى الطبيعة، أمّا إذا تعمقنا أكثر داخل المأساة الإنسانية سنصل إلى مستوى أعمق، إذ تذكر حبكة "في العراء" برواية الأشباح للروسي، أندريه بلاتونوف، التي تستدعي أجواء الكآبة جراء عناد الطبيعة، والكفاح من أجل البقاء داخل مكان سيؤول مصيره الحتمي إلى الهلاك.
في حين أن المقارنة الأكثر دقة يجب أن تكون مع رواية "الطريق" للكاتب البريطاني كورماك مكارثي؛ لاشتراكهما في عناصر البناء الروائي الفنّي، صبي وكهل يكافحان من أجل البقاء في مواجهة كارثة مناخية مجهولة الأبعاد. لكن الفارق لجوء الكاتب كاراسكو إلى طرح تصوره عن فكرة المخلِّص أو المنقذ، وهو ما ينقلنا إلى مستوى أكثر عمقًا، يتمثل في التوظيف الأدبي لما يُعرف في علم النفس بـ"متلازمة الفارس الأبيض"، الذي يظهر فجأة لنجدة شخص ما.
لكن أهم ما يميز "في العراء" ويمنحها خصوصيتها كأحد روايات الخيال المناخي المصنفة ضمن أدب ما بعد المحرقة، ليس التساؤل عن مصير البشرية إذا حلّت كارثة مناخية تُدمَّر وتقضي على كافة أساليب الحياة التي نعرفها، بل سعيها لتقفي أثرها على مصائر الأطفال المهمشين والمستضعفين تحديدًا.
فالكاتب الإسباني الذي سبق أن عمل صحفيًا، استفاد مما كان يمكن نشره ضمن تقارير صحفية مدفوعة بالبيانات المعقدة والأرقام التحليلية الجافة حول تداعيات الأزمة، داخل سردية أدبية تغلب التأمل الشاعري في معالم الطبيعة، بما يعطي وزنًا عاطفيًا للحكاية، ويذكرنا بالمقولة التحذيرية المغرقة في الشاعرية للكاتب جون ماي "عندما تُقطع آخر شجرة، وتُقتل آخر سمكة، ويُسمم آخر نهر، سترى أنه لا يمكنك أكل المال".
فهذا الإقتباس الشاعري وإن لم تتضمنه الرواية صراحة، يعبر عنه الرواي، حين يقول في المتن "راح الطفل يتأمَّل تاج النخلة الساكنة تحت السماء الزرقاء، مُتسائلًا عن حاجة أبيه إلى مُراكَمة الماء. فكَّر أنه ربما كان يكنزها لبيعها غاليةً كالذهب يومَ تنقطع مياه الصنبور. لعلَّه أراد أن يشمل أسرته بالحماية في حال ضرَب الجفافُ الشديد مرة أخرى، فيغدو آخر الرجال الراحلين عن القرية".
الأطفال في ظل ما يطرحه الواقع هم الفئة الأضعف والأقل مسؤولية عن أزمة تغيّر المناخ العالمي، لكنهم الأكثر تأثرًا بها، فوفقًا لتقرير مؤشر مخاطر المناخ على الأطفال/CCRI، الصادر عن هيئة اليونيسف، يوجد حوالي 920 مليون طفلًا حول العالم معرضين لمخاطر الشح المائي فقط، فما بالنا بباقي حزمة المخاطر الأخرى للكارثة المناخية؟
وبناء عليه اختار كاراسكو، رصد تبعات بشاعة الشح المائي والقحط بعيون الطفل ومن موقعه داخل المأساة، وذلك حال أراد القارئ الوصول إلى فهم لماهية الكارثة المناخية التي تنتظر البشريَّة، وبطريقة تعيد النظر للطفولة كمرحلة عمرية نابضة بالحياة في قلب البشريَّة، على غرار ما طرحه الشاعر الإنجليزي وليام وردزورث في قصيدته الشهيرة "المقدمة"، عندما أكد أهمية مرحلة الطفولة في التجربة الإنسانية عبر تأسيسها لعلاقة البشر مع قوى الطبيعة.