أثناء استماعي لمداخلات الدول المشاركة في COP27 ألح على ذهني سؤال: هل لدى دول الجنوب إرادة حقيقية للحد من التغير المناخي؟
البادي من متابعة الدول التي تتصدر الحديث باسم الجنوب العالمي في تلك القمة أنها موروطة إلى حد بعيد في خطاب للآمال يراهن على التكنولوجيات الخضراء والبديلة، فيما يبهت في هذا الخطاب، الذي لم يتطور خلال أكثر من عقدين، لينتقل من نفاق الوعود البراقة للحديث عن الالتزامات.
لا تلجأ حكومات الجنوب للتذكير بالالتزامات اللهم إلا حين يتعلق الأمر بمزيد من القروض، تاركين مسؤولية مواجهة الدول الكبرى بنفاقها ومراوغتها للنشطاء الدوليين ولمنظمات المجتمع المدني المعنية بالبيئة.
أما البلدان الصناعية الكبرى، فلم يتطور خطابها الاستعراضي المملوء بلغة العلاقات العامة والدبلوماسية الوردية، التي تلوح ببعض "الفكة"، كي تتنصل من أداء التزامات تعكس اعترافها بمسؤولية حقيقية عن الممارسات الراهنة الملوثة للبيئة والمسببة للاحترار.
وهالني بحق أن يستمر إلى الآن خطاب إطلاق مبادرات جوفاء، ظللت أسمعها على مدار ربع قرن بصيغ متقاربة، تقدم وعودًا بالدعم وتهلل للتكنولوجيات الخضراء، دون أي آليات لفرض معيار خفض درجة حرارة الكوكب الذي أقرته اتفاقيات باريس وما قبلها.
صفقات خضراء
في يوم الافتتاح سمعنا التعبيرات المخضرة بشكل مكثف، وضجّت تصريحات ممثلي الدول الغنية بالصفقات الخضراء، منها مثلًا "الصفقة الخضراء" الأوروبية، جريًا على إبداع قرينتها الأمريكية التي لا تكف عن أحاديث حماية الكوكب تحت اسم مشابه، مع استمرار عدم الإعلان عن أي التزام حقيقي، ينهي في نطاق عقد واحد، الأنشطة الملوثة للبيئة سواء التي تنتجها مباشرة أو التي تستثمر فيها في بقاع العالم المختلفة.
تعكس هذه الصفقة وشبيهاتها نموذجًا للمراوغات البلاغية وألعاب العلاقات العامة، وتضخيم حلول صغيرة للإيحاء بأنها تكفل تحقيق ما ينادي به المعنيون بمصير هذا الكوكب. فحديث الصفقات الخضراء، كالصفقة الأوروبية التي سمعنا عنها في العام الماضي، قوامه خطط محدودة الأثر لتحفيز السياسات صديقة البيئة على الصعيد العالمي.
وفي الحالة الأوروبية، نجد الصفقة وقد تصدرتها مقولة أن أوروبا "أقل القارات تسببًا في الانبعاثات الكربونية على الصعيد العالمي، بنسبة لا تتجاوز 8%"، على حد ما ذكر الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي.
والحقيقة التي يعلمها الأوروبيون قبل غيرهم، أنها مقولة كاذبة تمامًا؛ قد يكون الصحيح فيها أن أرض أوروبا الغربية تتطهر سريعًا من الصناعات والأنشطة الاقتصادية الملوثة للبيئة. لكنها تكذب حين تسكت عن حقيقة أنها، بباعث التفكير الأناني الذي حكمها طوال تلك العقود من إثارة قضية البيئة على الصعيد الدولي، أزاحت التلوث والانبعاثات عن أراضيها لترسله إلى أراضي الآخرين تحت مسمى الاستثمارات الخارجية.
يرتكز الخطاب الأوروبي اللئيم والمنافق على أن أوروبا تمد يد السخاء والمساعدات إلى العالم النامي في الجنوب، دون أن يرتبط ذلك بإقرار مسؤوليتها المباشرة عن الانبعاثات التي تخرج من أراضي الجنوب. وكأنها تقول لنا إن أوروبا ليست مخاطَبة بخطاب التعويض والإلزام إلا بمقدار ما يخرج من أراضيها من تلك النسب المئوية الثماني. أما ما يزيد عن ذلك، فهو من باب الجود والإحسان، الذي لا يجب تقنينه أو فرضه باسم إلزامات دولية محددة.
ولم يكلفهم أمر تدبيج خطاب التنصل من الالتزامات الحقيقية لصالح خطاب حسن النوايا والدعم والمبادرة الطوعية كثيرًا، فالجائعون للمنح والعطايا في الجنوب لن يفطنوا إلى المراوغة، والوكلاء المتنفعين من الاستثمارات المباشرة في الصناعات الملوثة بدول الجنوب إن لم يكونوا في مقاعد الحكم، فهم يهيمنون على القرار الاقتصادي للنخب الحاكمة.
لم أقف على عبارة شافية تطالب بالإعتراف بالمسؤولية عن مثل هذه الاستثمارات، وعن أنماط الاستهلاك التي توظف التقسيم الدولي للعمل في جعل التلوث يستوطن دول الجنوب، في الإنتاج من أجل أغنياء الشمال، ضمن منظومة للاستغلال والتلويث لا تقل في فداحتها عن أثر سياسات الاستعمار.
ويظل جزءًا من خطاب التنصل الأوروبي يوظف الحرب في أوكرانيا، وهي كارثة حقيقية، في الادعاء بأن ثمة ظرف قهري يُلزمهم بالعودة لسياسات تصنيع واستهلاك ملوثة ومسببة لاستمرار الانبعاثات عند مستويات الخطر، وأن أمن الطاقة الأوروبية يضطرهم لتأجيل بعض الخطوات الضرورية. والغريب حقًا هو مسايرة دول الجنوب لهذا الخطاب ومطالبتها بخفض المعايير المُلزمة حين تطبق عليها.
يُدرك صناع السياسة في الدولة الصناعية الكبرى أن وعد خفض حرارة الكوكب بدرجة ونصف مئوية يعني ضرورة خفض ما يقرب من نصف انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، ولكننا لا نرى خطة حقيقية تبين جدولة لتلك الالتزامات، بينما المدة بيننا وبين اليوم المحدد لهذا الإنجاز هي ثماني سنين فقط.
ويظل خطاب الدول الصناعية الكبرى البائس مفعمًا بالتبشير بالتكنولوجيا الخضراء والطاقة البديلة والدعم الطوعي لسياسات خفض الانبعاثات في عالم الجنوب، فيما يتجاهل تمامًا كل ما جاء به تقرير "فجوة الانبعاثات" الذي أصدره برنامج البيئة العالمي، ووصف عن حق هذه الدول بأنها تماطل وتستمر في تحدي المطالب التي رفعها نشطاء البيئة والمجتمع المدني العالمي عبر العقود التي خلت.
أما وعود جلاسجو 2021 بخفض احترار الكوكب، بحسب ما تقضي اتفاقية باريس، فلم تنجزها للآن سياسات وطنية غربية حاسمة.
دلائل المراوغة
على صعيد الالتزامات الدولية، فما يُمكن رصده في هذا الاتجاه لا يعدو مساهمات محدودة من البلدان المسؤولة عن التلوث، ذرا للرماد في العيون. والحال أن هؤلاء متورطين، سواء بالمسؤولية المباشرة عن إنتاج الانبعاثات الغازية، أو بالمسؤولية المباشرة عن إدارة الأسواق التي تخدمها الصناعات الملوثة، وقبل كل شيء المسؤولية عن الاستثمارات التي تموّل هذه الصناعات والأنشطة.
هدف خفض حرارة الكوكب لا مجال لتحقيقه سوى بإلزام أصحاب "الاستثمارات المسببة للاحترار والتلوث" وهي الدول الصناعية الكبرى بالأساس، وعلى رأسها أكبر اقتصادين في العالم؛ الولايات المتحدة والصين، ومعهم الدول الغنية كونها أكثر مستهلك للطاقة ومشتقاتها. لكن خطابهم لا زال يهرب من جدولة وحسم معنى الالتزامات وآليات انجازها.
وأمامنا دلائل المراوغة، فكل ما قالوه العام الماضي هو ما نسمعه يتكرر في شرم الشيخ هذا العام. فهل سنمضي صوب 2030 وكل ما في أيادينا هو تلك الوعود الفارغة وما يصاحبها من ضجيج؟
الإشكال كذلك في تفشي خطاب المراوغة وكأنه جزء من جائحة كورونا. على هُدى المراوغة الأوروبية يخبو حلم استبدال الوقود الأحفوري بالطاقة المتجددة. يتحدث العرب عن مبادرة خضراء، دون ذكر الكيفية التي سيستغنون بموجبها عن تصدير أهم ما تقوم عليه اقتصاداتهم؟ فالاستغناء عن البترول كابوس بالنسبة لهم، ويخصم بلا شك من اقتصاديات الخليج القوية التي باتت تهيمن بمالها على المنطقة وتسهم بقدر كبير في الاستثمارات الملوثة على الصعيد العالمي.
ما المعنى إذن من مبادرتهم الخضراء المطروحة؟ انها مجرد مراوغة مضافة. لا تستطيع دولة خليجية أن تقول للعالم سنوقف بيع البترول لأنه ملوث، ومن الصعب تصور أن باستطاعة أي من حكومات الخليج دعم مسار ينهي خطر التلوث الناجم عن حرق مشتقات البترول. ولا أتصور أن يقوم أمير خليجي بمطالبة أشقائه بالإسراع بإنهاء عهد هذه الطاقة الملوثة للبيئة. فذلك هو الانتحار السياسي بعينه.
الحقيقة أن الاختيار ليس بأيدي المصدرين بقدر ما هو رهن لإرادة المستوردين والشركات الصناعية الكبيرة في البلدان الرأسمالية. تلك الشركات تشكل لصالحها سوق الطاقة الأحفورية العالمي. وهي التي تسيطر على كل ما يتعلق بدورات هذا السوق والكيفية التي يعمل بها. وعلينا ألا نخدع أنفسنا بمسايرة ادعاءات حرية هذا السوق ومسؤولية منتجي البترول.
ما لم يكن هناك إلزام للشركات الكبيرة المسيطرة على الصناعات المنتجة لغازات الانبعاث الحراري فلا مجال لمطالبة باعة النفط، عربًا أكانوا أم غيرهم، بأن يبدأ مسار الالتزامات من عندهم. هذه أيضًا مراوغة بائسة.
تظل أوروبا وأمريكا والصين والقوى الاقتصادية الكبرى هي من يملك مفتاح الحل، ولديها من المؤسسات والنظم ما يكفل الدفع بمسار يقلص المصلحة في استمرار التلوث والاحترار، وأن تبادر عبر سياسات حقيقة، وليس وعود دعم مهما بدت سخية ومليارية، لكي تحمي كوكبنا ومحيطاته وبحاره وشواطئه وموارده وقبل كل شيء ناسه، من هذا الدمار المحيق، الذي تسببت فيه.
إن صَدق هذا الوعد وصحبته استراتيجيات عمل حقيقية وفاعلة، فمن الممكن أن يتحرر العالم خلال عقد لعقدين من هذا التهديد المحيق، وأن تستعيد البشرية سلامة بيئتها وأمان إنسانها.
ولنذكرهم بأن تلوث المحيطات لا يمكن نسبه للبلدان الصغيرة أبدًا، فأنماط استهلاكها لا تسمح بمثل هذا الادعاء، ناهيك عن تلوث الفضاء!
بعض النشطاء يذكّرون الدول الغربية بمسؤوليتها عن مخلفات الأنشطة الفضائية وحطام الأقمار الصناعية وغيرها من جرائم تسبح في الفضاء وتخلق مخاطر، كما نبهوهم لعقود عن مخاطر دفن النفايات النووية. أما الحكومات فلا تتحدث بجدية عن كيفية الإنقاذ من مثل هذه الملوثات. والحقيقة أنه لا مجال أمام بلدان الجنوب لأن تفعل شيئا إزاء هذه النوعية من المخاطر التي يعود مصدرها جميعًا إلى الدول الغنية وصناعاتها وأنشطتها.
على المؤتمر أن يفرغ من صخب العلاقات العامة ولقطات الزعماء المتبسمين، ويدخل في مرحلة النقاش الجدي. وعلى من يراقبون هذه النقاشات تذكير ممثلي الدول بوقف ترديد نفس المقولات الجوفاء، وأن يصرون على أننا لا زلنا بحاجة لحوكمة بيئية جديدة على الصعيد العالمي، وأن تبادر هذه البلدان لتحقيق ما بح فيه صوت نشطاء البيئة، أعني "دستور بيئي للأرض"، ملزم ومعزز بأنظمة جدية وآليات رقابية توقف هذه الأنشطة البشرية المدمرة في مدى زمني محدد.
هذا النهب المنظم للبيئة العالمية، وهذا الهدر لموارد لا يملكها أهل الحاضر، بل لأجيال المستقبل حق فيها، يظل خطيئة بشرية كبرى، لا تنمحي آثارها بسهولة، مثلها مثل العبودية والاستعمار.