بينما يفترض على الصحفي التزود بالمعلومات والبيانات عن قضايا المناخ والتلوث البيئي قبيل التوجه لتغطية مؤتمر المناخ COP27؛ وجد أغلب الصحفيون واجبًا آخر لينجزوه قبل أن يتوجهوا للقمة المنعقدة في شرم الشيخ.
ملف حقوق الإنسان في مصر وملاحقة المعارضين، وكذلك أعداد وأحوال مسجوني الرأي الذين قضوا سنوات وشهورًا خلف الأسوار بسبب موافقهم المناوئة للسلطة، وترسانة التشريعات المقيدة سواء لحق التظاهر أو لحرية الصحافة، صارت هي القضايا الأولى باهتمام الصحفيين. وصار عليهم أن يبحثوا عنها قبل التوجه لتغطية المؤتمر، الذي انطلقت فعالياته أمس الأحد، ويستمر حتى 18 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري.
كانت قضايا الحريات وحقوق الإنسان حاضرة بقوة في معظم المؤتمرات التي انعقدت منذ إعلان اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ في مدينة ريو دي جانيرو بالبرازيل عام 1992، وتحظى بتغطية إعلامية واسعة، لكنها لم تكن القضية الرئيسية التي تطغى على متابعات الصحفيين أو اهتمام الجمهور.
يتوقع المتلقي أن تقدم له وسائل الإعلام أخبارًا وبيانات وصورًا وتقديرات موقف عن قضايا المناخ والبيئة، وأن ينقل له الصحفيون كلمات المسؤولين الحكوميين وعلماء ونشطاء البيئة، وأن يتابع على الشاشات الاحتجاجات والتظاهرات ضد الدول الغنية الأكثر تلويثًا للمناخ.
ولكن في هذة النسخة، وقبل شهور من انطلاق فعاليات COP27، انقلبت الآية وصارت قضايا الملف الحقوقي في صدارة اهتمام المنصات الإعلامية الدولية التي تتناول قمة شرم الشيخ. بعضها اتهم السلطات المصرية باستغلال المؤتمر لـ "تبييض سمعتها في ملف حقوق الإنسان"، وأبرزت جميعها ما يتعرض له نشطاء السياسة وحقوق الإنسان والمنصات الإعلامية المستقلة من تعسف من قبل السلطات المصرية.
قضية الناشط علاء عبد الفتاح، ورفاقه من مسجوني الرأي، صارت العنوان الأبزر للتقارير الصحفية التي تتناول COP27، على الأقل في التغطيات التمهيدية التي سبقت الافتتاح.
لا يُنشر تقرير في منصة صحفية معتبرة خارج الحدود المصرية، إلا وقضية إضراب عبد الفتاح عن الطعام وتعرضه لخطر الموت وحبس آخرين من زملائه، مثل أحمد دومة ومحمد الباقر والعشرات غيرهم، هي المحور الأساسي للخبر. حتى لو كان ذلك الخبر يتناول أي قضية أخرى، أو ينقل مشاركة أو اعتذار قادة ومسؤولين أو نشطاء بيئيين في القمة، تظل قضايا علاء ومحبوسي الرأي حاضرة في المتن والعناوين الشارحة.
خلال الأسبوع الماضي ركزت وسائل إعلام بريطانية وأمريكية على المرحلة الجديدة من الإضراب التي بدأها علاء مع انطلاق فاعليات المؤتمر، التي طالت انقطاعه عن شرب الماء أيضًا بالإضافة إلى توقفه المطلق عن تناول الطعام، بحسب ما نقلت عنه شقيقته سناء التي اعتصمت أمام مقر الخارجية البريطانية في لندن قبل أن تعلن عن مشاركتها في COP27.
ونقلت وسائل إعلام أمريكية تصريحات لوزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن يعلن فيها التزام بلاده بالشراكة الاستراتيجية مع مصر، ويرحب بعمليات العفو والإفراج عن السياسيين المحبوسين، ركزت تلك الوسائل على مطالبته بمزيد من الخطوات الرامية إلى تعزيز الإجراءات القانونية الواجبة وحماية الحريات الأساسية للجميع، وأكد الوزير الأمريكي المساهمات الحاسمة للمجتمع المدني، بما يسهم في نجاح المؤتمر.
ومع أن بلينكن لم يطالب في المكالمة التي دارت مع نظيره المصري سامح شكري بالإفراج عن أسماء بعينها، لكن العديد من التقارير الصحفية التي تناولت فحوى الاتصال أشارت إلى الضغوط التي تتصاعد على السلطات المصرية في الأوان الأخير من أجل الإفراج عن علاء عبد الفتاح المضرب عن الطعام منذ سبعة أشهر.
تكرر الأمر في وسائل الإعلام البريطانية التي سلط العديد منها الضوء على قضية الإفراج عن المسجونين وعلى رأسهم علاء، الذي يحمل الجنسية البريطانية أيضًا. ونقلت الصحف البريطانية رسالة كتبها 64 نائبًا بمجلس العموم واللوردات البريطانيين إلى وزير الخارجية جيمس كليفرلي في الأسبوع الماضي، لحثه على ضمان استغلال المملكة المتحدة لفرصة المؤتمر لضمان إطلاق سراحه.
وبحسب ما نقلت وسائل الإعلام البريطانية قال هؤلاء الأعضاء "وضع علاء خطير للغاية ويتطلب رسالة قوية"، وتعهد المتحدث باسم الخارجية البريطانية بالعمل على تأمين الإفراج عن علاء والاستمرار في رفع قضيته إلى أعلى المستويات في الحكومة المصرية على ما نقلت عنه بي بي سي.
وتداولت وسائل إعلام دولية الأسبوع الماضي أيضًا تصريح المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان والبيئة ديفيد بويد الذي أكد فيه أن "حرية التعبير شرط أساسي للعدالة المناخية".
بويد أضاف في تغريدة على تويتر تداولتها معظم وسائل الإعلام "قبل مؤتمر المناخ، أنضم إلى الأصوات العالمية التي تطالب بالإفراج الفوري عن علاء عبد الفتاح، الناشط المصري الذي يقبع في السجن منذ سنوات لمجرد التعبير عن رأيه".
وهكذا أصبح علاء عبد الفتاح، ورفاقه في السجون المصرية من المعارضين السياسين، هم المحور الرئيسي لتناول وسائل الإعلام للمؤتمر.
النقطة الثانية التي ركزت وسائل الإعلام الدولية الضوء عليها هي تعامل الدولة مع التظاهرات والاحتجاجات التي من المفترض أن تنطلق على هامش المؤتمر، وإقصاء عدد من الجمعيات والمنظمات المستقلة المهتمة بقضايا حقوق الإنسان من المشاركة، مشيرة إلى القيود التي تفرضها الحكومة المصرية على حرية التجمع والاحتجاج والتي تصل إلى التجريم الفعلي استنادًا على تشريعات صدرت قبل نحو 9 سنوات.
كان من الممكن أن تستغل السلطة في مصر مؤتمر شرم الشيخ لو أنها عملت منذ فترة على إقناع العالم بأنها اتخذت خطوات جادة وملموسة لتحسين سجلها الحقوقي
بعض وسائل الإعلام البريطانية والأمريكية تحدثت الأسبوع الماضي عن القيود التي تفرضها مصر على مختلف أشكال حرية التعبير، وانتقدت إقصاء جمعيات ونشطاء مصريين وأجانب من المشاركة في COP27.
وبينما أكدت تقارير صحفية أن قمم المناخ الست والعشرين السابقة شهدت مشاركة واسعة من مختلف الجماعات الحقوقية دعمًا لقضايا حقوق الإنسان، انتقدت تلك التقارير ما وصفته بـ "التغييب المتعمد لبعض الجمعيات الحقوقية المصرية"، بحسب ما نقلت عن تقرير موسع لهيومن رايتس ووتش.
تقرير هيومن رايتس ووتش تناول عدة صور مما سمته بـ "الضغوط التي تتعرض لها الجمعيات البيئية على يد السلطات المصرية"، واتهمت المنظمة الحقوقية الدولة بتقييد قدرة الجماعات البيئية على العمل المستقل من خلال فرض عقوبات على التمويل والبحث، فضلًا عن إجبار بعض النشطاء العاملين في مجال البيئة على الهرب إلى المنفى أو الابتعاد عن العمل البيئي.
وعلى نطاق واسع تداولت صحف دولية الأسبوع الماضي بيانًا وقعت عليه 36 منظمة حقوقية تطالب السلطات المصرية بـتخفيف "قبضتها على الحيّز المدني، واحترام الحق في حرية التعبير، وتكوين الجمعيات أو الانضمام إليها، والتجمع السلمي، لإنجاح قمة المناخ".
دعت تلك المنظمات في البيان، الذي لم نجده في معظم المنصات المصرية، بوضع حد لـ "الاعتداء القاسي على المدافعين عن حقوق الإنسان، ومنظمات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام المستقلة. وتشمل أساليبها التحقيقات الجنائية التي لا أساس لها، والاحتجاز التعسفي، والاستدعاء للاستجواب القسري، والتهديد بإغلاق المنظمات المستقلة، وحظر السفر، وغير ذلك من الإجراءات التقييدية التي تهدد بتقويض استمرار المشاركة اللازمة للمجتمع المدني لتحقيق نتيجة إيجابية في مؤتمر COP27".
وحث البيان مصر على احترام الحق في حرية التجمع السلمي في جميع الأوقات، بما في ذلك أثناء الفعاليات الدولية، والامتناع عن حصر الاحتجاجات من دون داعٍ في منطقة معينة "ينبغي على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ولا سيما تلك المشاركة في مؤتمر COP27، حث السلطات المصرية على إلغاء القيود المفروضة على حرية التجمع".
كان من الممكن أن تستغل السلطة في مصر مؤتمر شرم الشيخ في التخفيف من وطأة الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، وأن تمرر ما طالب به وزير المالية محمد معيط من تقليل أعباء الديون بالاقتصادات الناشئة؛ ومنها مصر، بما يُمكنها من الوفاء بمتطلبات التكيف المناخى، لو أنها عملت منذ فترة على إقناع العالم بأنها اتخذت خطوات جادة وملموسة لتحسين سجلها الحقوقي.
لو بادرت السلطة قبل شهور بإغلاق ملف المحبوسين على ذمة قضايا رأي، كما تعهد الرئيس عبد الفتاح السيسي في كلمته التي ألقاها خلال حفل إفطار الأسرة المصرية في أبريل/نيسان الماضي، لصارت قضايا المؤتمر الرئيسية ومستهدفات مصر من استضافته هي المحور الرئيسي الذي سيتعاطى معه الإعلام والرأي العام في الخارج.
لكن التلكؤ والبطئ في إصدار قرارت العفو وإخلاء سبيل المحبوسين، فضلًا عن استمرار فرض القيود على عمل منظمات المجتمع المدني وحصار وسائل الإعلام التي تعمل خارج حظيرة الدولة، وحجب مواقعها، تسبب في أن تظل مصر متهمة بانتهاك حقوق الإنسان، وهو ما فتح الباب أمام ملاحقتها باستغلال مؤتمر شرم الشيخ لـ "تبييض سمعتها".