Pixapay- برخصة المشاع الإبداعي

"استراتيجية حقوق الإنسان".. لا يزال الإنكار مستمرًا

منشور الاثنين 19 ديسمبر 2022 - آخر تحديث الخميس 16 فبراير 2023

لا يمكن التعامل بجدية مع ما جاء في التقرير التنفيذي الأول لـ"الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان"، طالما لا يزال هناك عدد من أصحاب الرأي في السجون، بل إن البعض يتم تدويره على ذمة قضايا جديدة رغم انقضاء فترة حبسه الاحتياطي التي نص عليها قانون الإجراءات الجنائية.

كما لا يمكن أيضًا إجراء نقاش موضوعي لما احتواه التقرير الذي أعدته الأمانة الفنية للجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان عن تعزيز مناخ حرية الرأي والتعبير والتعددية والتنوع، ودعم المشاركة السياسية، في ظل تقييد وحصار وسائل الإعلام والأحزاب؛ الأولى لا تعمل إلا تحت السقف الذي حددته لها السلطة سلفًا، والثانية لا يسمح لها بالحركة إلا داخل مقراتها، ولو تعدت هذه أو تلك الخطوط الحمراء أو الهامش المتفق عليه فليُبشر مسؤولوها بسوء العاقبة.

أما ما جاء في التقرير عن "الجهود المبذولة لضمان الحق في الخصوصية وصون حرمة الحياة الخاصة" فهو كلام لا يمت للواقع بصلة، فذلك الحق جرى انتهاكه على مرأى ومسمع من الجميع مع توقيف المواطنين في الشوارع والميادين لتفتيش موبايلاتهم والاطلاع على مراسلاتهم الخاصة وتصفح حساباتهم على السوشيال ميديا رغمًا عنهم ودون وجود إذن قضائي مسبق، كما نصت مواد الدستور والقانون.

الاستراتيجية تحتاج إلى تحديث

قبل سفره إلى واشنطن لحضور فعاليات القمة الأمريكية الإفريقية استقبل الرئيس عبد الفتاح السيسي وزير الخارجية سامح شكري، ليطلع على التقرير "ومتابعة التقدم المحرز من قبل الجهات الوطنية في تحقيق مستهدفاتها في الفترة من سبتمبر 2021 إلى أغسطس 2022".

الملخص التنفيذي للتقرير استعرض "الجهود الذي قامت بها جهات الدولة المختلفة لتعزيز وحماية حقوق الإنسان"، فضلًا عن مبادرات رئيس الجمهورية ومن بينها إلغاء إعلان حالة الطوارئ، والدعوة لإطلاق الحوار السياسي الوطني الشامل، وإعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسي، وإعلان عام 2022 عامًا للمجتمع المدني، والدفع بتولي المرأة المناصب القضائية في مجلس الدولة والنيابة العامة لأول مرة.. إلخ، "جاءت هذه المبادرات والقرارات تعزيزًا للحريات العامة، وبالأخص حرية الرأي والتعبير، والمشاركة في الحياة السياسية والعامة، وترسيخًا لقيم الديمقراطية، وسيادة القانون، وحقوق الإنسان".

التقرير  لا يعبر إلا عن السلطة التنفيذية التي تصر على إنكار الأزمة التي نعاني منها في مجال حقوق الإنسان في مصر

التقرير تحدث عن إخلاء سبيل 814 محبوسًا احتياطيًا وصدور قرارت بالعفو عن 20 ألف سجين، وهو جهد يحسب للسلطة، لكن الأمانة الفنية للجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان التي أعدت تقريرها تحت إشراف وزير الخارجية، يبدو أنها أغفلت وجود المئات من المسجونين الذين لا جرم لهم سوى أنهم انتقدوا النظام أو هاجموا قرارته وسياساته ومشروعاته، كما أنها غضت الطرف عن مئات آخرين ألقي القبض عليهم خلال الشهور الماضية وأحيلوا إلى النيابة بالتهم نفسها التي وجهت إلى سابقيهم ويجدد حبسهم احتياطيًا، ليلحق الفريقان بذات المتاهة التي لا يعلم لها أحد نهاية.

أعضاء الأمانة الفنية للجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان وهي اللجنة الحكومية التي أعدت التقرير استعرضوا عددًا من النتائج التي تحققت على مسارات ومحاور الاستراتيجية، وأشاروا إلى أنهم عقدوا سلسلة من الاجتماعات مع عدد من الجهات المعنية ومنها المجلس القومي لحقوق الإنسان وممثلي منظمات المجتمع المدني للوقوف على ما تحقق، وهو ما صار محل تشكيك، بعدما لفت رئيس لجنة الشكاوى بالمجلس القومي لحقوق الإنسان ولاء جاد الكريم إلى أن الاستراتيجية تحتاج إلى تحديث فهي "لا تتضمن مؤشرات محددة لقياس التقدم".

عبد الكريم في تصريحات صحفية بعد ساعات من صدور التقرير التنفيذي الأول، قال إنه رغم إعداد الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان بعد عملية تشاورية بين الجهات التنفيذية والمجتمع المدني، فإن آليات متابعة تنفيذها مقتصرة على الجهات التنفيذية "غياب عملية التشاور في مرحلة المتابعة إشكالية مهمة جدًا، كما أن الاستراتيجية مر على إطلاقها أكثر من عام ولم يصدر من اللجنة العليا أي تقارير توضح التقدم الذي تم خلالها".

ويرى عبد الكريم أن الاستراتيجية أغفلت إلى حدٍ كبير التوصيات والتعهدات التي قدمت إلى مصر من الآليات الدولية لحماية حقوق الإنسان، خصوصًا لجان المعاهدات.

إنجازات البث المباشر

ما ذكره جاد الكريم كرره بشكل أو بآخر أعضاء بمجالس ومنظمات ونقابات معنية بحال حقوق الإنسان والحريات العامة لكاتب تلك السطور، وشكا هؤلاء من أن الأمانة الفنية للجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان، لم تراجع الجهات المستقلة المعنية "حتى الجهات التي راجعتها وتسلمت منها توصيات أو ملاحظات على أداء بعض الجهات والمؤسسات في الدولة، لم ترد في التقرير التنفيذي الأول للاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان".

حديث هؤلاء الأعضاء لا يحتاج إلى تحقق، يكفي مطالعة التقرير للتأكد أن ما جاء فيه لا يعبر إلا عن السلطة التنفيذية التي تصر على إنكار الأزمة التي نعاني منها في مجال حقوق الإنسان في مصر، فالتقرير لم يذكر سوى الإنجازات التي تحققت في كل الملفات ذات الصلة وغير ذات الصلة، ينتاب المطالع له نفس مشاعر المتابع للقنوات التلفزيونية التي تديرها أجهزة السلطة ولا تكف عن بث سيل إنجازات "الجمهورية الجديدة" في فواصل لا تتوقف على مدار اليوم.

تضمنت وثيقة "الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان" التي تم إطلاقها في سبتمبر/ أيلول من العام الماضي حديثًا خافتًا عن قصور وتدهور في ملف حقوق الإنسان، لكنها لم تحدد من هو المسؤول عن ذلك القصور، هل هو المواطن المصري الذي ألقى بنفسه في السجن لأنه تجاوز وانتقد السلطة التي تبذل الغالي والنفيس لإرضائه؟ أم أنها الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني التي حاصرت وقيدت نفسها حتى تسمح للسلطة بالعمل في صمت؟ أم أنها وسائل الإعلام التي سلمت نفسها طوعًا للنظام بعد فشلها في إنتاج محتوى يناسب الإنجازات التي تحققت في السنوات السابقة؟

وكما لم تشر الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان من قريب أو بعيد إلى المسؤول عن تدهور ملف حقوق الإنسان في مصر، غاب عن تقريرها التنفيذي الأول أي نقد لأي سلبيات لا تزال قائمة، فلم يذكر التقرير ولو على استحياء قضية المحبوسين على ذمة قضايا رأي كما لم يتحدث عن تكاسل الحكومة والبرلمان في تعديل مواد الحبس الاحتياطي في قانون الإجراءات الجنائية أو تعديل المواد المقيدة للحريات في قوانين تنظيم الصحافة والإعلام أو مراجعة قانون العقوبات لإلغاء المواد السالبة للحرية به بما يتناسب مع مواد الدستور بما يضمن رفع السيف المُصلت على رقاب الصحفيين ليتمكنوا من ممارسة مهام عملهم دون أن يلاحقوا أو يجبروا على الوقوف أمام جهات التحقيق.

لا يمكن الاستمرار في مسلسل الإنكار إلى ما لا نهاية، أول خطوة على طريق الإصلاح الحقيقي في أي ملف هو مراجعة ما جرى وتحمل مسؤولية التقصير بشجاعة وتحديد أوجه القصور والشروع في علاجها، أما الإصرار على النفي والحديث المرسل عن الإنجازات فلن يدفعنا خطوة واحدة إلى الأمام، لنظل في المتاهة ذاتها.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.