"في خلال يوم أو اثنين أو ثلاثة على الأكثر، سينتهي كل ما يعاني منه علاء عبد الفتاح. لو أطلق سراحه سيصير حرًا، ولو مات سيصير حرًا"، كان هذا ما كتبته الدكتورة ليلى سويف عن ابنها منذ أيام.
بإضرابه عن الطعام ثم الشراب، يضعنا علاء في ركن رقعة الشطرنج. إنّها "كش ملك" أو "كش مات". في الحالتين تنتهي اللعبة لصالحه ويسدد التنين البمبي، كما يدعوه أصدقاؤه، هدفًا أخيرًا دون أن يحرك ساكنًا، يدخلنا في أكثر من مواجهة ويجلس هو في انتظار المآلات.
فعل بدون فعل
يأتي إضراب علاء والحراك القوي الذي نقلته عائلته من بريطانيا إلى شرم الشيخ، في قلب أحداث وأزمات كبرى تمر بمصر: أزمة اقتصادية، التعويم الثاني للجنيه، ومخاوف من مظاهرات. ولا ننسى مؤتمر المناخ الذي أتى بقادة العالم إلى مصر، ومعهم سناء سيف لترفع صوتها في حماية الأمم المتحدة مطالبة بإخلاء سبيل شقيقها.
الإضراب فعل يُمارس بالامتناع عن الفعل. فعل ساكن. لكن دويه في حالة علاء، اختطف المؤتمر ومرتاديه، ودفع عددًا من قادة الدول للإعراب عن تضامنهم والتعبير عن قلقهم على الحريات في مصر. فتدفقت مناشدات الأمم المتحدة، والمستشار الألماني، ورئيس الوزراء البريطاني، وحقوقيين، ومنظمات دولية، وكتّاب، وحاصلين على جائزة نوبل لإطلاق سراح التنين.
بفعل التوقف عن الفعل، يضعنا إضراب علاء في مواجهات صعبة حول رؤيتنا لأنفسنا وللعالم، والأهم من هذا كله، مع إمكانية استدامة هذه الرؤى.
كيف نرى أنفسنا
بكلمات بسيطة ومباشرة عبرت سناء في ختام مؤتمرها الصحفي أول أمس، عن الأزمة التي يعيشها المصري في وطنه "يعلم المصريون جميعًا أن الجنسية المصرية تجعلك بلا ثمن. هذه فقط حقيقة من حقائق الحياة".
صرنا في مواجهة مع الذات حول علاقتنا بالمنظومة التي تضمنا جميعًا. هل هي منظومة دعم أم منظومة عقاب؟ من الصعب أن يستمر تماسك هذا البلد واستقراره في غياب، صار معتادًا، لأبسط قواعد العدل والمنطق: محتجزون لسنوات دون محاكمة، مسجونون بسبب الاختلاف السياسي أو التعبير عن الرأي. أمهات تسعين بين السجون بحثًا عن أبنائهن. محامون يُقبض عليهم بمجرد ظهورهم للدفاع عن موكليهم. قضايا لا يحصل الدفاع فيها على أوراق القضية، وأخرى لا يُسمح له فيها بزيارة موكليه. مدارس تدفع التلاميذ "للسناتر" تحت رعاية وزارة تعليم ترغب في تقنين عدم قدرتها على التعليم، وتسعى لتعظيم مواردها بتحصيل رخصة استغلال لأولياء الأمور. مستشفيات تخلو من أبسط سبل الرعاية، وحدات صحية بلا أطباء. ومنظومة أمن يشعر المواطنون أمام أفرادها بالذعر.
أوضاع كلها مقلوبة لكنها مستقرة ومستمرة وصارت للأسف معتادة.
المؤسف هنا ليس الأوضاع الشاذة في حد ذاتها، لكن في غياب الأمل في تغييرها، وفي الاعتياد عليها إلى حد الألفة دون أي طموح فيما هو أفضل. أو كما قال علاء مرة "الأزمة بالتأكيد (..) في الاستسلام لحتمية عدم المساواة".
إشكالية الوطن المارق
بالنسبة للعالم وضعتنا أسرة سيف في دائرة الضوء، قبل مؤتمر المناخ وبعده. افتتاحيات كبريات الصحف من أمريكا إلى البرازيل، مرورًا بإسبانيا وألمانيا وبريطانيا، تكاد تضع مصر في مصاف الدول المارقة. الهوة واسعة بين تصورات العالم عنا كما رسمتها افتتاحية الواشنطن بوست قبل افتتاح المؤتمر بيومين، وعنوان جريدة الأهرام الرئيسي بالأمس.
فبينما تحذر الواشنطن بوست المشاركين في COP27 من الصمت عن ازدراء "البلد المضيف" للكرامة الإنسانية، ومن مصر التي صارت عاصمتها "مقر دولة بوليسية لا تعرف الرحمة"، يبشرنا عنوان الأهرام بأن "مصر تقود العالم في مهمة لإنقاذ الكوكب". الهوة واسعة بين رؤية العالم لنا، ورؤيتنا لأنفسنا. مسافة شاسعة بين الواقع والخيال تحتاج لوقفة عاقلة مع الذات.
احترام الإنسان vs خصوصية الثقافة
حكوك الإنسان، أو حموم الإنسان، هي وغيرها تسميات سمجة، أطلقت عندنا على واحد من أهم منجزات البشرية في القرن الماضي. لم تعد حقوق الإنسان ترفًا ثقافيًا تتمتع به شعوب وتسخر منه أخرى هي الأحوج لمعاييره. خاصة وأن هذه الحقوق استقرت في الضمير البشري، كثوابت تنظم علاقاتنا وتحمينا من التغول والاستقواء، ويضمن احترامها حرياتنا الأساسية.
لم يعد من الممكن إقناع أحد بأوهام الخصوصية الثقافية أو الدينية أو التاريخية التي تبرر لنا المروق أو الانحراف. وإذا أردنا أن يأخذنا العالم بجدية، فلابد أن نأخذ أنفسنا بقدر منها. وإن رغبنا في أن يحترمنا الآخرون، سيصبح بديهيا أن نحترم أنفسنا باحترام الإنسان.
الإضراب يعيد الإنسان للمركز
قبل إضراب علاء كان الرابط الوحيد بين حقوق الإنسان وجهود حماية المناخ هو التأكيد على ضرورة دعم جماعات مناصرة البيئة، وإفساح المجال لها لتمارس مهمتها بدق ناقوس الخطر والضغط على الدول والشركات والمؤسسات. كان المبدأ هو حماية ذلك الإنسان الراغب في حماية البيئة.
لكن بعد اقتحام إضراب علاء للمؤتمر، أخذت المعادلة مفهومًا إضافيًا وأصبح الاهتمام بالإنسان وحقوقه امتدادًا لجهود الحفاظ على الكوكب الذي يعيش عليه.
لذا فالنجاح الأكبر لـ COP27 حتى الآن هو أنه من خلال علاء وأسرته، وضع السؤال الأكبر والأهم أمام أعين الجميع: من أجل مَن نرغب في الحفاظ على كائنات العالم من الانقراض؟ وعلى تربته من التسمم؟ وعلى مياهه من التلوث؟ أليس الغرض هو حماية الحياة وكل ما يهددها لأنها في النهاية حياة الإنسان؟ أليس الغرض هو الإنسان؟
هل يمكن أن نموت وتحيا الحياة؟
الحياة ليست مفهومًا معلقًا في الفراغ. لا يمكن أن تعيش الحياة ونموت نحن! رغبتنا في استدامة الكوكب في النهاية رغبة في استدامة حياتنا عليه. ومن الطبيعي، أن يكون الإنسان أولوية، وأن يصبح حقه الطبيعي في الحرية والتعبير امتدادًا لحق الكوكب في الاستمرار. وهو ما أدركه علاء في كتاباته التي أبرزت الارتباط بين المناخ وتنافس البشر على موارد الكوكب، ورأى في ذلك دافعًا للتعاون بدلًا من الصراع.
في مقال نشره عام 2019 في مدى مصر بعنوان شايل طاجن كوكبه قال، "التغير المناخي، وأنماط الاستهلاك المسببة له، وأشكال عدم المساواة المحفزة للتصارع (..) اختراعات بشرية يمكننا تعديلها وتغييرها (..). وتاريخ المقاومة الطويل هذا (..) نجح مرارًا و تكرارًا في تهذيبها وتحسين شروط الحياة للأغلبية. والأهم أن عملية المقاومة هذه هي الطرح الوحيد القادر على توحيد جماهير عريضة عبر الكوكب كله بدلًا من ترسيخ التناحر والتصارع".
أحلام وكوابيس
في عام 2004 أنتج مخرج الوثائقيات آدم كيرتس لبي بي سي فيلمًا من ثلاثة أجزاء بعنوان سطوة الكوابيس، رصد في مقدمته الحيلة التي لجأ إليها الساسة للاحتفاظ بسطوتهم على الجماهير "فى الماضى، وعدنا الساسة بعالم أفضل. كانت لهم طرق مختلفة لتحقيق ذلك، وكانت قوتهم وسلطتهم تأتى من رؤية متفائلة قدموها لشعوبهم.
وبعد انهيار الأحلام، فقدَ الناس إيمانهم بالأيديولوجيات، ونظّروا للساسة باعتبارهم مسؤولين عن تسيير شؤون الحياة العامة. إلا أن الساسة اكتشفوا الآن دورًا جديدًا يستعيدون به نفوذهم وسطوتهم. فبدلًا من تحقيق الأحلام، يعدنا الساسة الآن بالحماية من الكوابيس. يقولون إنهم سيحموننا من مخاطر مفزعة، لا نستطيع أن نراها أو حتى نفهمها".
يغازل مقال علاء الفكرة ذاتها محذرًا من الكوابيس، وداعيًا للالتفاف حول حلم "كوكبي" مشترك "لو كان ما يوحدنا هو التهديد فقط سيتحرك كل فرد وكل جماعة دفاعًا عن مصلحته/ا. أما لو تجمعنا حول الأمل في مستقبل أفضل ننهي فيه أشكال عدم المساواة كافة سيتحول الوعي الكوكبي لطاقة إيجابية".
إذا أردنا الامتثال لنصيحة التنين القابع في الزنزانة، فليس لنا خيار سوى التمسك بالأمل. الرجاء في أن يخرج هو وآلاف المحتجزين احتياطيًا، و"المدورين" في القضايا، والمغيبين قسرًا، والمسجونين بسبب الرأي أو المعتقد أو السياسة.
ولو كان لنا شيء من الشطط في الأمل، فهو أن يشارك بعضهم في كتابة عقد اجتماعي جديد ضمن الحوار الوطني المرتقب، يعيد صياغة علاقتنا مع أنفسنا ومع العالم، ويثبت أننا لم نهزم بعد.
بل ربما انتصرنا ولم نهزم أبدًا.