الزميل عبد الله شوشة

لستُ أطول الصحفيين سجنًا.. بل عبد الله شوشة

10 سنوات في الحبس الاحتياطي!

منشور الخميس 2 فبراير 2023 - آخر تحديث الخميس 2 فبراير 2023

يبالغ بعض المتضامنين، حسني النية، زاعمين أني أطول الصحفيين المصريين سجنًا. لكنَّ ذلك غير صحيح، لا في التاريخ ولا في الواقع المعاصر.

تاريخيًا، يعدُّ مصطفى أمين أشهر الصحفيين الذين عوقبوا سياسيًا بالسجن المؤبد، قضى منها 9 سنوات، ثم خرج بعفو رئاسي بعد رحيل رأس النظام، وقدوم من أراد أن يثبت أنه لن يعيش في جلباب أبيه. أما حاليًا فقد حطم الزميل عبد الله شوشة الرقم القياسي، وكاد أن يتم 10 سنوات متصلة من الحبس الاحتياطي على ذمة أكثر من قضية متتالية، منها قضية حصل فيها على حكم قضائي بالبراءة بعد 5 سنوات من الحبس الاحتياطي!

لكن دعونا نبدأ بقصة حقيقية..

كوميديا سوداء

دخل ضابط جهاز مباحث أمن الدولة، المنحل بعد الثورة، ليفتش بيت الكادر الإخواني الذي اعتاد الجهاز، قبل حلّه، أن "يستضيفه" في المناسبات الانتخابية وغيرها. كانت أسرته اعتادت على ذلك، فلم يكن التعامل مع مثل هذه المواقف مشوبًا بالتوتر ولا التأزم. إلا أن التوتر وجد طريقه إلى أجواء البيت المتخم برجال أمن الدولة والقوة المرافقة لهم من الأمن العام والأمن المركزي حين أراد الضابط تفتيش مكتب ابن الإخواني المغلق بمفتاح صغير.

- افتح الدرج!

- مش حافتح الدرج!

- بقول لك افتح الدرج!

- انتو جايين تاخدوا أبويا وبتفتشوا حاجته .. ودا مكتبي اللي في أوضتي أنا وأخويا وأبويا مالوش حاجة هنا.

وجّه الضابط حديثه إلى الأب مهدّدًا:

- خلّيه يفتح الدرج بدل ما نكسره!

- افتح الدرج يا عبد الله!

- مش حافتح الدرج!

شك الضابط أن الابن المراهق لا يريد أن يُفتح المكتب أمام أبيه، فاصطنع شيئًا يُخرج به الأب من غرفة الابن. انفرد بالابن وجدّد الطلب بفتح الدرج. وعلى مضض، فتح عبد الله المكتب، فانفجر الضابط في الضحك الهيستيري بعد أن رأى ما أراد الفتى إخفاءه.

- لهذا السبب لم تكن تريد أن تفتح المكتب؟

- نعم. جئتم لتأخذوا أبي وتبعدوه عنّا عدة أسابيع، فلماذا يغيب عن بيته وقد عرف أن ابنه صار يدخن السجائر؟

سأله، وهو لا يزال يضحك:

- وما هذه الأسطوانات التي تحتفظ بها في مكتب مغلق؟ هل عليها مواد إباحية؟

- لا أعرف. خذها واطّلع على ما فيها!

- لا، لن آخذها. سأتركها لك.

ومنذ ذلك الحين، يعلم ضباط فرع جهاز أمن الدولة بالإسماعيلية، الذي صار إدارة في قطاع الأمن الوطني بعد الثورة، أن المواطن المصري عبد الله حلمي محمد خليل، وشهرته عبد الله شوشة، ليست له علاقة بتوجهات أبيه، حلمي محمد خليل شوشة، وارتباطاته الإخوانية!

ثم انقلبت الكوميديا السوداء إلى دراما مؤلمة وحزينة.

تصنيف رغم الأنوف!

كبر المراهق الصغير، وصار مراهقًا كبيرًا يدرس الإعلام بجامعة قناة السويس في الإسماعيلية. ثم تخرج شابًا بالغًا طامحًا في العمل في المجال الذي يهواه. لم تكن ثمة خيارات كثيرة متاحة في مدينته، فعمل مراسلًا بقسم الأخبار في قناة "أمجاد". لكن بعد أحداث يونيو/ حزيران ويوليو/ تموز 2013، أغلق هذا القسم في القناة.

اتجه الزميل عبد الله إلى المراسلة الحرة بطريقة "وان مان كرو"؛ يصور، ويحرر المادة ببرامج المونتاج، ويضيف نصوصًا توضيحية أو تعليقًا صوتيًا إن دعت الحاجة، ثم يرسل تقاريره إلى المؤسسات الإعلامية المختلفة، مثل جريدة الوفد، وشبكة الجزيرة، وغيرهما.

كان يفترض أن يخرج عبد الله شوشة بعد تبرئته، وبعد هذه السنوات كلها، لكنه لم يرَ الشمس من غير قضبان منذ ذلك الحين

بطبيعة عمله، كان شوشة دائم الجلوس على مقهى الزبير، الشهير بالمثلث، أمام "الممر"، وهو المكان الذي اعتاد أهل الإسماعيلية أن يحتجّوا ويتظاهروا فيه. وفي فترة ما قبل 30 يونيو 2013، كان أعضاء حملة "تمرد"، ومن داروا في فلكها، يعقدون اجتماعاتهم ويلتقون للمحادثة في المقهى نفسه، فصنّفه الإخوان ومن في دوائرهم من الإسلاميين تصنيفًا علمانيًا، تؤكده "مجاهرته بالتدخين" واختلافه الظاهر عن مسار أبيه الإخواني.

بعد 3 يوليو 2013، كانت الأحداث المحلية التي تستحق التغطية الإعلامية هي، في الأغلب، مظاهرات الإخوان ومؤيديهم، خصوصًا بعد فض اعتصام ميدان رابعة في أغسطس/ آب. وبحكم عمله، كان عليه أن يسير حيث ساروا وأن يوجد حيث وُجِدُوا. فصنّفه الجهاز الأمني تصنيفًا إخوانيًا، يؤكده، من وجهة نظرهم، أنه ابن الكادر المعروف حلمي شوشة!

قبض على الزميل عبد الله شوشة أثناء تغطيته إحدى الفعاليات الميدانية لمؤيدي الإخوان والمتعاطفين مع ضحاياهم في فض الاعتصام، وكانت بحوزته أداة الجريمة الخطيرة المعروفة.. الكاميرا!

بدأت الدراما يوم 21 سبتمبر/ أيلول 2013، ولا تزال أحداثها جارية..

رحلة التدوير

حين قبض عليه، وضع اسمه قسرًا في القضية رقم 2882 لسنة 2013 إداري- إسماعيلية ثالث. ثم سقطت هذه القضية لخلل فني في تكييف الاتهامات في ظل تعديل قانون التظاهر*.

وفي أبريل/ نيسان 2014 تم تدويره على القضية رقم 2332 لسنة 2014 جنايات كلي- الإسماعيلية، ثم تم الحكم فيها ببراءة الزميل عبد الله شوشة في أبريل 2019، أي بعد أكثر من 5 سنوات من الحبس الاحتياطي، تنقّل فيها بين عدة سجون؛ منها سجنا بورسعيد وجمصة.

كان يفترض أن يخرج عبد الله شوشة بعد تبرئته، وبعد هذه السنوات كلها، لكنه لم يرَ الشمس من غير قضبان منذ ذلك الحين، حيث تم إخفاؤه لمدة 97 يومًا في مكان ما، لم يستدل أهله عليه.

ظهر لاحقًا كمتهم بالانضمام إلى جماعة إرهابية في القضية رقم 800 لسنة 2019 نيابة أمن الدولة العليا، وتم إيداعه في سجن تحقيق القاهرة بمنطقة سجون طرة (أ)، ثم تم ترحيله إلى سجن مزرعة طرة في برنامج مراجعات أقامته مجموعة السجون بقطاع الأمن الوطني.

والتقيته هناك.

أين الدراما إذن؟!

من حق المتابعين للمآسي، التي أمست معتادة بين أهل مصر، أن يروا في حالة عبد الله ظلمًا بيّنًا، لكنه خالٍ من الدراما. ولهم أن يتساءلوا: أين الدراما، بخلاف طول فترة الحبس، وقد حُكم على غيره بأحكام السجن المؤبد دون وجه حق؟ ولهؤلاء، أحكي كيف عرفت عبد الله.

في سنة 2021، بدأ سجن مزرعة طرة يتحول من سجن عمومي مخصص للجنائيين، مع استثناءات نادرة لبعض العناصر السياسية، حيث كنت الوحيد المختلط بالجنائيين ومُسَكَّنًا معهم، إلى سجن للسياسيين أساسًا، مع بعض الاستثناءات من الجنائيين لأسباب محددة.

هذا التحول يعني، فيما يعني، متابعة حثيثة لكل كبيرة وصغيرة في السجن من قبل ضابط أمن وطني مقيم.

ولأن سجن مزرعة طرة كان مميزًا تمييزًا إيجابيًا عن غيره من السجون، سواء في المرافق الآدمية أم المعاملة الحسنة، كان تخصيص غرفة مميزة جدًا لبعض النزلاء السياسيين يعني، بالضرورة، وجود حيثية اقتضت ذلك.

وكان عبد الله شوشة ضمن المجموعة التي سكنت في غرفة (2) بعنبر (1)، وهي الغرفة الملاصقة لغرفة (1)، حيث أسكن أنا وسط الجنائيين، وحيث يسكنني الفضول لمعرفة السر وراء تمييز هذه المجموعة، التي أتيحت لها أجهزة تليفزيون وأجهزة عرض تستقبل "فلاشات" وبطاقات ذاكرة محملة بالمواد السمعية والبصرية المتنوعة، فضلًا عن ثلاجات وسخانات، وكراسٍ ومناضد بلاستيكية، وامتيازات أخرى!

عرفت، لاحقًا، أن نزلاء هذه الغرفة هم المشاركون في أحد برامج المراجعات التي يقيمها قطاع الأمن الوطني، بمشاركة الشيخ أسامة الأزهري، مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الدينية. بعض المشاركين في هذا البرنامج كانوا ممن تورطوا في العنف وعوقبوا بأحكام مشددة وطويلة، وبعضهم ممن تعاطف مع الإخوان في المظاهرات ومالوا تجاه "العمل النوعي"، أي العنيف، من دون أن ينخرطوا فيه فعلًا.

القسم الثالث من أعضاء هذا البرنامج هم الذين تم الزج بأسمائهم في قضايا لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فأرادوا بالمشاركة في البرنامج أن يبرهنوا للجهاز الأمني أنهم على الطرف النقيض من الإخوان والتكفيريين سواء بسواء، وإن تطلب ذلك أن ينضموا إلى برنامج لا يضيف إليهم أي جديد على المستوى الفكري، وإن أضاف جديدًا سلبيًا على مستوى معاملة الإخوان والإسلاميين لهم إذا التقوهم في الجلسات وما شابه، إذ قد يتطور الأمر أحيانًا إلى ملاسنات شفهية حادة، أو حتى إلى العنف الجسدي.

تقدمت رحمة بأكثر من طلب للم شمل أسرتها، ليس في البيت، وإنما في سجن واحد، توفيرًا للجهد والوقت والنفقات، لكن طلباتها جميعا رُفضت

كان عبد الله شوشة واحدًا من القسم الأخير؛ ذلك الذي لا يحتاج إلى أي شيء ليحدد موقفه الرافض والمناهض للإخوان، والتارك للسياسة بالكلية. لكنه أراد بانضمامه أن يثبت أنه يعلن مخالفته لأبيه ولمساره الإخواني على الملأ وأمام الجميع.

شاركه في ذلك نزيل آخر، محبوس احتياطيًا أيضًا لما يزيد عن 9 سنوات، اسمه أسامة السيد الفقي. وهو ابن القيادي الإخواني، الراحل من الدنيا على فراش بيته، السيد الفقي، وقد ترك ابنه "الفَلاتي صاحب الكيف" في السجن يدفع ضريبة النسب لأبيه!

لم أكن أرَ عبد الله شوشة أو أسامة الفقي إلا لُمامًا؛ إذ كنت مفصولًا عن السياسيين قسرًا وموضوعًا مع الجنائيين. ولم أكن أعرف من غرفتهما سوى السينمائي معتز عبد الوهاب، الذي صار صديقًا مقربًا بعد طول حوارات ومناقشات واقفة على فتحة باب الزنزانة، المسماة بـ "النظّارة". لم يكن معتز في البرنامج، لكن تم تسكينه معهم على غير رغبته.

وبسبب صداقتي لمعتز، افتعل ضابط مباحث مشكوك في سوائه النفسي، سبق أن قدم إليّ العزاء في وفاة والدي وهو يضحك! وشكوْتُه إلى الأمن الوطني طالبًا إليهم إبعاده عن طريقي تفاديًا للاستفزاز ولصدور ردّ فعلٍ لا تحمد عقباه.. افتعل هذا الضابط أزمة لا أساس لها حين زج باسمي مقترنًا بمعتز في واقعة غير صحيحة بالمرة.

كان معتز على وشك الخروج، ولم يكن ثمة إجراء يمكن أن يتخذ ضده، فكنت أنا من سيدفع الثمن، ظلمًا فوق ظلم، بترحيلي إلى سجن 992 شديد الحراسة، المعروف باسم "العقرب 2". لكنَّ الله سلّم، واكتفى رئيس مجموعة السجون بنقلي إلى غرفة (2)، مع عناصر برنامج المراجعات، وتحت أعين رجاله!

هناك التقيت بالزميل المراسل الصحفي المحلي عبد الله شوشة، مع ابن بلده، وزميل قضيته الحالية، أسامة السيد الفقي. وهناك، أكلنا في طبق واحد، وجمَعَنَا ما يقدسه المصريون ويعرفونه بـحق "الخبز والملح"، الذي لا يهون إلا على أولاد الحرام. وهناك عرفت الدراما كاملة..

ماتت أم عبد الله شوشة في 17 أبريل 2021 (السنة الثامنة لمحبسه)، تاركة ابنة وحيدة، رحمة حلمي شوشة، التي تخرج من الإسماعيلية ثلاث مرات شهريًا؛ الأولى لزيارة أبيها الإخواني المعاقب بالسجن المشدد 15 سنة، والنزيل بسجون وادي النطرون في محافظة البحيرة، والثانية لزيارة شقيقها الأصغر، كامل شوشة، غير الإخواني، المعاقب بالسجن 10 سنوات، والنزيل بسجن الغربينيات ببرج العرب في الإسكندرية، والثالثة لزيارة شقيقها الأكبر، عبد الله شوشة، المحبوس احتياطيًا مدة تقترب من 10 سنوات متصلة رغم حكم البراءة السابق، وهو النزيل السابق بمنطقة سجون طرة بجنوب القاهرة، وحاليًا في سجن بدر (1) على طريق القاهرة-السويس.

تقدمت رحمة بأكثر من طلب للم شمل أسرتها، ليس في البيت، وإنما في سجن واحد، توفيرًا للجهد والوقت والنفقات، لكن طلباتها جميعا رُفضت!

تركتُ عبد الله شوشة وأسامة الفقي في سجن بدر (1)، الذي نُقلنا إليه سويًا مع إفراغ مزرعة طرة من جميع السجناء السياسيين يوم 1 أكتوبر/ تشرين 2022، وهما مهمومان؛ لا بالخروج أو عدمه، ولا بما يعانيانه من أمراض مزمنة وعارضة، وإنما بالرعب من إعادة تدويرهما كما حدث مع اثنين من الإسماعيلية أيضًا، في القضية نفسها (رقم 800 لسنة 2019 - حصر أمن دولة عليا)، وكانا مشاركَيْن في برنامج المراجعات ذاته، وكان تسكينهما في الغرفة المميزة عينها، حيث صدر قرار النيابة بإخلاء سبيلهما بعد نقلي إلى غرفتهم بأسبوع تقريبًا، ولم ينفذ القرار حتى الآن! وهما: محمد علاء، وأحمد نجم.

آخر ما جمعني بعبد الله أني كتبت له بخط يدي طلبًا موجهًا إلى مساعد وزير الداخلية لقطاع الحماية المجتمعية (مصلحة السجون سابقًا)، وإلى إدارة الشؤون الإنسانية بالقطاع ذاته، بناءً على ضوء أخضر حصل عليه من ضابط الأمن الوطني، للمطالبة بلم شمله مع والده وشقيقه في سجن بدر (1)، رحمةً بشقيقته رحمة. ووعدته أني لن أنساه ولن أتركه بعد خروجي.

عاهدت نفسي أن أفعل مع عبد الله شوشة وأسامة السيد الفقي شيئًا تعلمته من طول عشرتي مع الجنائيين: أن أحترم الأقدمية وطول فترة السجن. لذلك، وجب عليّ أن أكتب عنهما قبل أن أكتب عن نفسي ومعاناتي، التي بدأت بعدهما بسنتين، وقصرت عن معاناتهما سنتين أو ثلاثًا، تقريبًا، حتى الآن!

ها أنذا أَفِي بوعدي لعبد الله شوشة وأسامة الفقي وبعهدي مع نفسي، وأنا المواطن الفرد. فهل يفي الجهاز الأمني بوعده لهما ولغيرهما من أعضاء البرنامج؟ أم هل تفي رأس السلطة السياسية للدولة المصرية بوعدها بإخلاء سبيل كل من لم يتورط في العنف والدم أو التحريض عليهما؟!

ألا تكفي 10 سنوات متصلة من الحبس الاحتياطي ليعود عبد الله شوشة وأسامة الفقي إلى بيْتَيْهِما دون تدوير ولا ملاحقة؟!


* وردت المعلومات المتعلقة بالقضايا التي ضُم شوشة إليها والإجراءات التي اتخذت بحقه، في الطلب الذي قدمته عائلته إلى لجنة العفو الرئاسي للإفراج عنه، واطلع عليه كاتب هذه السطور. 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.