تصوير: إبراهيم عطا الله

القمح والمناخ يهددان "البرسيم المصري"

حين يغيب البرسيم تتأثر الألبان واللحوم الصحية

منشور الأحد 26 فبراير 2023

"الموسم ده قللت المساحة من فدان ونص لربع فدان.. البرسيم ماعدش جايب همه".. كلمات خرجت من فم هاني أبو العينين، 50 سنة، مُزارع من قرية الروضة بمركز فاقوس في محافظة الشرقية، متهمًا تغير المناخ كسبب رئيسي لتراجع حجم المحصول.

شهادة أبو العينين و5 مزارعين آخرين من ربوع مصر المختلفة، تُعبر عن تراجع غير مسبوق في مساحة وإنتاجية البرسيم المصري (المستديم والتحريش)، وهو ما تثبته أيضًا البيانات الرسمية، الواردة في النشرة السنوية لإحصاء المساحات المحصولية والإنتاج النباتي الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ونشرة الإحصاءات الزراعية الصادرة عن قطاع الشؤون الاقتصادية بوزارة الزراعة.

إذ تشير بيانات الجهاز إلى تراجع المساحة المزروعة بالبرسيم بحوالي النصف خلال الـ15 سنة الماضية، من 2.539 مليون فدان في 2004 إلى 1.371 مليون فدان في 2021. 

وكنسبة من إجمالي المساحة المزروعة، انخفض نصيب المساحة المزروعة بالبرسيم من 17.8% في 2004 إلى 8.4% في 2021.

كما تراجعت نسبة المساحة المزروعة بالبرسيم من إجمالي المساحة المزروعة شتويًا من 42.7% في 2004 إلى 18.7% في 2021. 

وسجلت محافظات الوجه البحري، وهي ذات النصيب الأكبر من حيث المساحة المزروعة سنويًا بالبرسيم، انخفاضًا بنسبة 45%، حيث تراجعت المساحة إلى 935.5 ألف فدان في 2021، من 1.701 مليون فدان في 2004 (آخر سنة وفرت لنا بيانات كاملة عن البرسيم).

لماذا يعتبر تناقص البرسيم خبرًا سيئًا للجميع؟

أولًا، لخصوبة التربة، فالبرسيم المصري يُعد من أفضل محاصيل العلف إنتاجية ونوعية ومشاكله تكاد تكون معدومة، وهو عنصر أساسي في زيادة خصوبة التربة لأنه يُضيف حوالي من 45 إلى 90 كجم أزوت عضوي (نيتروجين) لتربة الفدان الواحد، بما يعادل من 300 إلى 600 كجم سماد يحتوي على 15% أزوت.

كما أن البرسيم الذي زرعه المصري القديم مُنذ ما يزيد على 5 آلاف سنة، هو أحد أدوات الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، التي تتسبب فيها أنواع الأعلاف المُصنعة، سواء المركبة أو المركزات أو حتى الجافة، إذ يشير تقرير صادر في أكتوبر/تشرين الأول 2022، عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO)، إلى أن "الميثان" هو ثاني أكبر غاز مساهم في تغير المناخ، وأن 60% من هذا الغاز يأتي من الأنشطة البشرية، وعلى رأسها "تربية الماشية" في مزارع كبيرة.

ما تؤكده تقارير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة، أن انبعاثات "الميثان" الناجمة عن عملية الهضم لدى الماشية، أقوى من ثاني أكسيد الكربون، مُسبب الاحترار العالمي الأول، حيث إن إنتاج الأعلاف المُصنعة وعملية "التخمّر المعوي" سببان رئيسيان في انبعاثات هذا الغاز، وذلك حين يخرج الميثان من أفواهها خلال التجشؤ.

وتتصل "جودة العلف" على نحو وثيق بتلك الانبعاثات المعوية، فـ(الحصص صعبة الهضم) تُنتج كمية أكبر من انبعاثات الميثان المعوي، بحسب (فاو).

أما البرسيم فهو البديل الأقل تلويثًا للبيئة، فكيف تأثر  بالتغير المناخي؟

هناك أثران مختلفان، الأول هو التطرف المناخي أو كما يختصره المزارعون بـ"الصقيع".

"العلف الأخضر الأول" ضحية للتطرف المناخي

"الطَل (الصقيع) بيخلي البرسيم لابِد (لا يخرُج) ومش طالع من الأرض.. لازم ترشله كيماوي تاني وتالت علشان يدفيه.. تكاليفه زادت عن زمان.. كُنا نزرعه من غير كيماوي ونسبخه بالدهس (روث الحيوانات)".

هذا ما يؤكده محمود سلامة، مزارع في العقد الخامس، ويتفق فيه معه ابن قريته، أبو دياب شرق بمركز دشنا محافظة قنا، محروس أبو الوفا، 67 سنة، الذي يُشير إلى عامل آخر قائلًا "عدد الحشات (العروات) دلوقتي 5 وأقل، كانت زمان 7 و8 حشات.. طبيعة الجو كانت مساعدة".

تؤثر العناصر المناخية المُختلفة، كدرجات حرارة التربة وحرارة الهواء والرطوبة النسبية، بشكل مباشر في زراعة البرسيم وإنتاجيته، ابتداءً من وضع البذور في التربة الزراعية، وصولًا بنموه ونضوجه وحصاده.

وتعرض البرسيم المصري على مدى السنوات الماضية إلى أخطار التطرف المناخي الذي يتسبب في موجات الصقيع رغم الارتفاع النسبي في المتوسط لدرجات الحرارة. وبحسب تقرير جهاز شؤون البيئة "التغيرات المناخية وسبل مواجهة آثارها"، فمن المنتظر أن تؤدي زيادة معدل الموجات شديدة الوطأة، كالحرارة والبرودة، إلى انخفاض إنتاجية بعض المحاصيل الغذائية، وصعوبة زراعة بعضها.

في الوقت ذاته، يُشير التقرير المحدث لجمهورية مصر العربية، المُقدم إلى اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ، والصادر في 2018، إلى "زيادة الظواهر الجوية المتطرفة في مصر على مدى السنوات العشر الماضية".

ويوضح التقرير، أنه استنادًا إلى بيانات درجات الحرارة اليومية التاريخية، بين عامي 1990 و2015، التي جمعها المعمل المركزي للمناخ الزراعي في 11 محافظة تمثل مختلف نطاقات الزراعة، سجلت مصر "مثالًا" لشدة البرودة، حين حدثت موجة باردة في يناير/كانون الثاني 2008، وكانت درجات الحرارة القصوى والصغرى خلال هذا الشهر أقل من المعتاد، والأضرار التي لحقت بالمحاصيل الزراعية آنذاك كانت "كارثية".

وبحسب دراسة للدكتور كمال عبد المعبود، مدرس الجغرافيا الطبيعية بجامعة بني سويف، بعنوان "أثر المناخ على زراعة محاصيل العلف الأخضر في مصر"، فإن "زراعة البرسيم المصري قبل نصف سبتمبر (أيلول) تؤدي إلى انخفاض نسبة الإنبات، نتيجة لتعرضه إلى درجات الحرارة المرتفعة، ويتعرض أيضًا إلى الإصابة بشدة بـ"دودة ورق القطن".

أما زراعته بعد نصف نوفمبر/تشرين الثاني، فتعرض البادرات للحرارة المنخفضة، وبالتالي ضعف نمو النبات، وتأخر ميعاد الحشة الأولى، ونقص عدد الحشات. وتنقص كمية المحصول بنسبة 62% عند زراعته في 30 نوفمبر مُقارنة بـ15 أكتوبر. لذا يرى عبد المعبود أن الميعاد الأنسب لزراعة البرسيم هو النصف الأول من أكتوبر.

وعن الظروف المناخية الملائمة، تؤكد الدراسة أن "البرسيم يحتاج إلى جو معتدل في جميع مراحل نموه، ويلائمه جو مصر شتاءً"، وهناك ظروف مناخية متباينة لزراعته (مثلى ومتوسطة ومحدودة)، حيث إن درجة الحرارة الصغرى للبرسيم هي 10 درجات مئوية، والمثلى تتراوح بين 18 و25 درجة مئوية، والعظمى 35 درجة مئوية.

وبمطابقة أرقام تراجع مساحة البرسيم، مُنذ 2004، في أقاليم مصر الثلاثة، مع درجات الحرارة في مصر التي توفرها "بوابة تغير المناخ" التابعة للبنك الدولي، في الفترة من (1991 حتى 2020)، نكتشف أن محافظات مصر الوسطى (الجيزة وبني سويف والفيوم والمنيا) التي سجلت أعلى نسبة انخفاض (55%) في المساحة المزروعة بالبرسيم بين عامي 2004 و2021، سجلت أدنى درجة حرارة، وأدنى متوسط درجة حرارة، خلال شهور ديسمبر/كانون الأول ويناير وفبراير/شباط، مُقارنة بمحافظات الوجه البحري ومصر العليا. حيث كانت درجات الحرارة الصغرى فيها (6.24 و6.23 و6.80 و5.54) أما متوسط درجة الحرارة فكانت (13.25 و13.25 و13.76 و13.09) درجة مئوية.

وتُشير دراسة عبد المعبود إلى أن محافظات مصر العليا، ذات الحصة الأقل من حيث المساحة المزروعة بالبرسيم، تعتبر الأقرب إلى "المدى الأنسب" لدرجات الحرارة ونسب الرطوبة في مرحلتي زراعة البرسيم ونموه، باستثناء أسيوط، أما محافظات مصر الوسطى فتبتعد بشكل كبير عن المدى الأنسب أثناء مرحلة النمو الخضري للمحصول.

وهو ما تؤكده الأرقام التي حصلنا عليها، فعلى الرغم من تراجع مساحة البرسيم بنسبة 42% بين عامي 2004 و2021 في محافظات مصر العليا، فإن هذا الإقليم شهد زيادة طفيفة في مساحة البرسيم من إجمالي المساحة المزروعة بالمحصول في 2021 (مثل البرسيم 10.5% في 2021 بينما كان يُمثل 9.8% في 2004)، أما محافظات مصر الوسطى، التي تبتعد عن المدى الأنسب، فسجلت أعلى نسبة تراجع في مساحة البرسيم من إجمالي المساحة المزروعة به (كان يُمثل 19% في 2004، بينما مثل 16% في 2021 من إجمالي مساحة البرسيم المزروعة في أقاليم مصر).

الصقيع يرفع تكاليف "خدمة المحصول"

"في الأيام التي تنخفض فيها درجات الحرارة على غير العادة، نستيقظ لنجد البرسيم الذي من المفترض أن نبدأ في حصد عروته (كامل النمو) هَلك وباظ" كما يقول أحمد عبد الهادي، 51 سنة، مزارع، من قرية الشيخ مسعود بمركز العدوة محافظة المنيا، مضيفًا "التلج (الصقيع) بينزل عليه بالليل يخليه يرقد فوق بعضه ويعفن.. ولو حطيناه للبهايم بتاعتنا ماترضاش تاكله".

ويشرح عنتر عبد الله، 41 سنة، مهندس زراعي وصاحب محل بيع مبيدات، قرية نزلة المشارقة بمركز إهناسيا محافظة بني سويف، خطورة انخفاض درجات الحرارة على زراعة البرسيم قائلًا "من منتصف شهر ديسمبر حتى نهاية يناير أو منتصف فبراير، يتعرض البرسيم لدرجات حرارة منخفضة أكثر من اللازم أحيانًا، تتسبب في تقليص عدد العروات وضعف إنتاجيته، فالحصول على 'حشة' واحدة يمتد من 20 و25 يومًا إلى ضعف تلك المدة، 40 يومًا أو أكثر".

ويشير أستاذ الأعلاف بمعهد بحوث المحاصيل الحقلية، مصطفى عبد الجواد، إلى توفر مركبات لمقاومة الصقيع كان من الممكن أن تقلل هذه الخسائر، إلا أن الفلاحين لم يسمعوا بها.

وتوضح بيانات "بوابة تغير المناخ"، أن شهور ديسمبر ويناير وفبراير، في الفترة من (1991 حتى 2020)، تسجل أقل درجة حرارة صغرى (8.26 و6.82 و7.85)،  وهو ما يبتعد عن درجة الحرارة الصغرى للبرسيم (10 درجة مئوية)، كما أن متوسط درجة الحرارة لشهر يناير، تُعد الأقل (13.71) وهي الأبعد أيضًا عن درجة الحرارة المثلى لنمو البرسيم، (18 إلى 25) درجة مئوية.

"خلال فترة البرودة الشديدة تلك، يتطلب الحد من فقد المحصول وضعف إنتاجيته سوبر فوسفات وأحماض أمينية.. السوبر فوسفات يعمل على تدفئة جذور البرسيم وزيادة إنتاجيته، أما أنواع الأحماض الأمينية تُعتبر مُنشط حيوي يحتوي على العناصر الكبرى والصغرى بصورة متوازنة، وتمنح البرسيم توازن هرموني قوي، ولكنها مُكلفة وتفوق قدرة المزارعين" كما يشرح عبد الله.

هكذا يغلب الصقيع المزارعين، ولكنه ليس العدو الوحيد.

الحرارة المرتفعة تهدد الإنتاجية

كما يضر الصقيع بالبرسيم المصري، الذي يمكث في الأرض حتى  مايو/أيار، فارتفاع درجات الحرارة يؤدي إلى إسراع معدلات تزهير النباتات وبالتالي يقلل من عدد الحشات.

تُشير نتائج التحليل الإحصائي، لدراسة عبد المعبود "أثر المناخ على زراعة محاصيل العلف الأخضر" على إنتاجية محصول البرسيم في 2011، إلى أن 6% من التغير في إنتاجية البرسيم المصرية يمكن إرجاعه إلى ارتفاع في متوسط درجة الحرارة العظمى.

حيث إن أي ارتفاع في درجة الحرارة العظمى بمقدار (1 درجة مئوية) يؤدي إلى انخفاض إنتاجية البرسيم بمقدار 2.1 طن. أما أي زيادة بالارتفاع في درجة الحرارة الصغرى بمقدار (1 درجة مئوية) يقابله ارتفاع في إنتاجية الفدان بمقدار 2.5 طن.

وتُظهر بيانات البنك الدولي أن المتوسط السنوي لدرجات الحرارة المرصودة في مصر، ارتفع من 23.01 في عام 2004 إلى 23.88 في عام 2021، بمعدل زيادة قدره 3.6%.

ويقول خبير الأرصاد الجوية الزراعية بالهيئة العامة للأرصاد، الدكتور كمال جعفر، إن تغير المناخ أمر ملحوظ ومُقلق في مصر، أسوة بدول العالم، وإن تأثيره على "سلبيًا"، أما المحاصيل الصيفية فتتأثر إيجابًا، بزيادة إنتاجيتها، ويظل أحد حلول المواجهة المُهمة هي "التوسع في المساحات الخضراء".

ويوضح "أثبتت الدراسات أن درجات حرارة الهواء القريب من سطح الأرض في مصر ارتفعت، على مدى 30 سنة، بشكل بطيء ومستمر، بمقدار يساوي (1.26) درجة مئوية للصغرى، و(1.01) للعظمى و(1.13) للمتوسط اليومي.. وهذه النتائج خطٌيرة على المحاصيل الشتوية في مصر".

حديث المزارع محروس أبو الوفا يُشير إلى مدى تأثير ارتفاع درجات الحرارة على البرسيم، حين قال "أذكر أنه قبل 30 سنة كان ينتهي موسم البرسيم (آخر عروة/حشة من المحصول) في شهر يوليو/تموز، ما يعني عروتين أكثر من الوضع الحالي.. دلوقتي الشتاء بقى شتاء، والحر بقى حر".

"القمح" متورط بأمر حكومي

يكشف المزارع أحمد عبد الهادي جانبًا آخر من قصة تدهور زراعة البرسيم المصري "استبدلت البرسيم بالقمح.. البرسيم خدمته غليت، أي تكاليف زراعته ارتفعت، لكن سعر القمح غالي ومطلوب".

وبتتبع أرقام المساحة المزروعة بالقمح، خلال 12 سنة، مُنذ موسم 2007/ 2008 حتى 2018/ 2019 ومقارنتها بالمساحة المزروعة بالبرسيم، نكتشف أن "كل زيادة في مساحة القمح يقابلها نقص في مساحة البرسيم".

وحين احتل القمح أكبر مساحة محصولية في موسم 2018/ 2017 بواقع 3.5 مليون فدان، نجد أن مساحة البرسيم وصلت إلى أدنى مستوى لها 1.52 مليون فدان. أما موسم 2007/2008 الذي بلغت مساحة القمح فيه نحو 2.9 مليون فدان، فكانت المساحة المزروعة بالبرسيم مازالت تكسر حاجز الـ2 مليون فدان.

لا ينكر الدكتور مصطفى عبد الجواد أن زراعة القمح شريك أساسي في هذا التراجع، لكنه يوضح "تهدف زيادة مساحة القمح إلى تقليل الفجوة الغذائية.. وفي المقابل استنبطنا أصنافًا جديدة من البرسيم ذات إنتاجية تصل إلى 60 و70 طن/ فدان، أي ضعف المتوسط الطبيعي لإنتاجية البرسيم التي تصل إلى 28 و30 طن/للفدان".

ينوّه عبد الجواد إلى أن الأصناف الجديدة من البرسيم، كانت نواة لأبحاث بدأ العمل عليها في مطلع الألفية، وكانت نتيجتها تقليص مساحة البرسيم ورفع إنتاجيته، وزيادة المساحة المزروعة بالقمح في طريق "توفير العيش".

لكن ما يؤكده الأستاذ بمركز البحوث الزراعية، أن المركز أطلق حملة في عام 2014، هدفها تعريف المزارعين بأصناف البرسيم الجديدة التي تم استنباطها في قسم محاصيل الأعلاف، إلا أن الحملة لم تستمر غير عامين تقريبًا، قبل أن تتوقف بسبب (تراجع التمويل)، ليظل وصول الأصناف الجديدة للمزارعين مسؤولية الإرشاد الزراعي.

لم يسمع أحمد عبد الهادي بالأصناف الجديدة من البرسيم ذات الإنتاجية المضاعفة و"لينا أكتر من 10 سنين ماشوفناش حد من بتوع الإرشاد الزراعي" على حد قوله.

أما حسين أبو صدام الذي يترأس إحدى نقابات الفلاحين الأربع في مصر فيضيف "الأصناف الجديدة غير مُعممة، ولا يعرفها المزارعون، وبعضها في طور التجارب بالحقول الاسترشادية".

في الوقت ذاته، تتبنى الحكومة المصرية خطة جديدة لزيادة مساحة وإنتاجية القمح، جاءت على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية التي أثارت مخاوف "إمدادات القمح" كون المتنازعين من أكبر مصدري الأقماح لمصر، ففي نوفمبر الماضي 2022، أطلقت وزارة الزراعة "الحملة القومية للنهوض بمحصول القمح على مستوى الجمهورية" لتشجيع المزارعين على زراعته بشتى الطرق، ما قد يعني مزيد من نزيف المساحة المزروعة بالبرسيم.

حين يغيب البرسيم

ارتفاع تكاليف زراعة البرسيم، وأسعار الأعلاف عمومًا، دفع الكثير من المزارعين وصغار المربين إلى إهمال تربية المواشي، "ماعادش الفلاح بيربي بهائم زي زمان"، ولذلك وصل عجز رؤوس الماشية في مصر لـ60%"، كما يقول أبو صدام مُضيفًا "يرتفع سعر البرسيم بنسبة 50% في الأوقات التي يتضرر  فيها المحصول من البرودة الشديدة، وبدلًا من أن يكون سعر بيع القيراط حوالي 150 جنيهًا، يصبح 300 جنيه، ويرتفع سعرا الألبان واللحوم الحمراء بالتبعية".

تُشير الدراسات إلى أن تكاليف التغذية تمثل نحو 70% إلى 75% من إجمالي تكلفة مشروعات الإنتاج الحيواني، ما يجعل ارتفاع أسعار الأعلاف، أهم عامل في تقييد العملية الإنتاجية، وعدم التوسع في النشاط.

ويمكن القول بأن اضطراب مساحة وإنتاجية محصول العلف الأخضر الأول في مصر يؤثر على الثروة الحيوانية في مصر، فأهمية البرسيم تكمن في كوّنه غذاءً متكاملًا للمواشي، خاصة الحلابة منها، لاحتوائه على نسبة مرتفعة من البروتين الخام والكالسيوم والفوسفور والفيتامينات، ولا يحتاج الدخول في عملية تصنيع كبقية أنواع الأعلاف المُصنعة "من الأرض للمواشي" على حد وصف أبو صدام.

ويؤكد المزارع هاني أبو العينين "كان عندي جاموستين وبقرة وكام خروف.. دلوقتي عندي جاموستين بس، بسبب تكاليف زراعة الأعلاف، وارتفاع أسعار شرائها.. إزاي أربى بهايم في الغلاء ده؟".

واتفق معه محمود سلامة قائلًا "عندي بقرتين بربيهم، لتوفير اللبن والسمنة لبيت فيه 8 أفراد.. كان عدد البهائم عندي يصل لـ5 و6 الأول.. البهيمة الواحدة دلوقتي في الليلة بتاكل بـ70، 80 جنيه (علف وردة) غير البرسيم.. لو حسبت تكلفة أكل البهيمة ما تسعهاش (لا تُربيها)".

إجمالًا، تراجعت أعداد رؤوس الماشية في مصر (أبقار وجاموس وأغنام وماعز  وجمال) من 17.265 مليون رأس في 2004 إلى 7.547 مليون رأس في 2021، بنسبة انخفاض بلغت (56%).

وعلى إثر ذلك، تراجع إلى النصف نصيب الفرد السنوي من اللحوم الحمراء، حيث انخفض إلى 7.2 كيلوجرام في 2019، مُقارنة بـ13.7 كيلوجرام في 2003. فيما تراجع المتوسط السنوي للفرد من الألبان بمقدار الثُّلْث، حيث انخفض إلى 51.8 كيلو في 2019، مُقابل 77.7 كيلو في 2003.

اللافت في الأرقام، أن أعلى قيمة لنصيب الفرد سنويًا من اللحوم الحمراء سُجلت في 2007 (16.9 كيلو)، وهي نفس السنة التي بلغ فيها متوسط نصيب الفرد من الألبان أعلى قيمة (80.5 كيلو)، وكانت وقتها المساحة المزروعة بالبرسيم المصري لا تزال تتخطى الـ2 مليون فدان (2.322 مليون فدان).


أُنجز هذا التحقيق بإشراف من مؤسسة تومسون رويترز ضمن ورشة "الأمن الغذائي والتنمية الريفية".